لا تقل كابلات الإنترنت البحرية أهمية عن خطوط أنابيب الغاز أو النفط، والتي نجدها على اليابسة وتحت الماء، وتؤدّي إلى نقاط هبوط في مختلف البلدان؛ وهذا هو السبب في أنّها موضوع تنافس جيوسياسي متزايد باستمرار بين الدول، وخاصة الولايات المتحدة والصين. على الرغم من أن كلا هذه الدولتين لديهما مقاربات مختلفة، إلا أنهما تميلان إلى الاحتكار من حيث التأثير على البنية التحتية العالمية للإنترنت. تسعى الولايات المتحدة حتى تهيمن شركاتها (مثل غوغل وفيسبوك وأمازون) على هذا القطاع، والصين تمشي على نفس المنوال مع شركاتها (مجموعة هانج تونج). وتحاول الشركات الأوروبية أن تقوم بالشيء ذاته مثل «أورانج مارين» و»تيليكوم» لكنها تواجه نقصا في التنسيق ممّا يقوّض انبثاق السيادة الاستراتيجية الرقمية الأوروبية. كما يوجد في الساحة الجيوسياسية دول الـ «بريكس» (البرازيل وروسيا والصين وجنوب أفريقيا) الموجّهة نحو بناء البنية التحتية. يوجد حاليا أكثر من 450 كابل بحري قيد التشغيل في جميع أنحاء العالم. ويقدّر الخبراء أنّ 97 ٪ من حركة الإنترنت، و10 مليار دولار من المعاملات المالية اليومية تتم عبر هذه الكابلات.
من يملك الكابلات البحرية؟
من يملك الكابلات البحرية؟ ما هي الطرق التي يتبعونها؟...الأسئلة التي يطرحها الملاحظون باستمرار. لطالما كانت الكابلات كما جرت العادة لشركات الاتصالات المجمعة في إطار الاتحادات. واليوم، هناك ثلاثة أنواع من الشركات التي تعمل وتهيمن على هذا القطاع وهي: أولا، شركات الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومقدمي خدمات نقل الصوت أو البيانات. وتشارك بعض هذه الشركات أيضا في بناء وتشغيل الكابلات البحرية عبر الشركات الفرعية التابعة مثل أورانج مارين وتليكوم إيطاليا وسباركل (أوروبا) وهواوي مارين (آسيا). ثانيا، شركات التكنولوجيا مقدمة الخدمات القائمة على الإنترنت، مثل أمازون وأبل وغوغل وفيسبوك ومايكروسوفت. وقد استثمرت هذه الشركات، باستثناء شركة آبل، مؤخرا في بناء الكابلات البحرية (يقوم فيسبوك حاليا ببناء كابل أفريقيا 2). ثالثا، الشركات المتخصّصة في تركيب وإصلاح الكابلات البحرية التي تعمل نيابة عن شركات الاتصالات السلكية واللاسلكية والمتعهدين الآخرين، مثل شركة «ألكاتيل للشبكات البحرية» ( Alcatel Submarine Networks).
فكل البنية التحتية البرية والبحرية تملكها بشكل أساسي هذه الشركات، وهي في صميم المنافسة الجيوسياسية أكثر فأكثر. في الوقت الحالي، تعد الولايات المتحدة والصين كونهما المتنافستان والزعيمتان، ودول البريكس والاتحاد الأوروبي بدرجة أقل، الجهات الرئيسية الفاعلة في هذا السوق.
الجيوسياسية للكابلات البحرية
من ناحية الخدمة والتشغيل، تشبه الجيوسياسية للكابلات البحرية تلك الجيوسياسية الخاصة بخطوط أنابيب الغاز أو النفط. والسؤال الذي سيتعين إيجاد إجابة عليه دائما يرتبط بالمناطق والبلدان التي تعبر عليها البنية التحتية. ويجب أن تتّفق دول العبور والوجهة على مرور الكابلات عبر مياهها الإقليمية وإلى المناطق الاقتصادية الخالصة. وكثيرا ما تستخدم بعض الدول ذرائع قانونية لإبطاء أو إعاقة مرور الكابلات البحرية إذا لم تكن مصالحها مضمونة من قبل الشركة أو الاتحاد المسؤول عن إنجاز الربط بالكابلات، لأنّها قد تعارضها أيضا عندما تكون الوجهة للدول التي تدعم هذه الشركات، أو إذا رأت صراحة مشاكل محتملة في السلامة.
إنّ هذه العلاقات المتضاربة الناجمة عن الكابلات البحرية تثير توترات كبيرة بين مالكي التكنولوجيا في حد ذاتهم، ومن لا يملكون التكنولوجيا أو البنية التحتية ولكنهم يطالبون بالكابلات بدلا من الأقمار الصناعية (البنية التحتية الأبطأ). لكن ذلك له ثمن لهذه الدول لأن القرارات المتعلقة بطرق الكابلات تخضع للضرورات التي لا يمكن أن تعفي هذه الدول من التداعيات السياسية، وستصبح تدريجيا معتمدة على الشركات في الدول المالكة مثل (غوغل، أمازون، فيسبوك، آبل، مايكروسوفت) أو البريكس أو الشركات الأوروبية أو الصينية. وبالتالي، فإن طبيعة عبور الحدود الوطنية للكابلات البحرية تؤثر على العلاقات الدولية، كما يتضح من العلاقات الفاترة، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين. وأمام القيمة المضافة لهذه الكابلات ورهاناتها، ولا شركة من شركات (GAFAM) غائبة في هذا المجال، ويلبي وجودها الأهداف الاقتصادية والضرورات الاستراتيجية، أي أن تجعل من نفسها لا غنى عنها للدول الأخرى، وأن تسيطر على أكبر التدفقات كثافة للمعلومات، وأن تمارس احتكارا لا مفر منه ومستعدة لفرض شروطها.
النّشاطات الصّينية والأمريكية في منطقة المتوسّط
إنّ النّشاط الصيني من حيث البنية التحتية الرقمية في البحر الأبيض المتوسط يكتسب أهمية متزايدة، وكذلك هو نشاط الأمريكيين. قبل بضع سنوات، أنشأت الصين مبادرة الحزام والطريق (Belt and Road Initiative) للاستثمار في جزء كبير من دول آسيا وأفريقيا وأوروبا. وهو طموح لبناء «طريق الحرير الرقمي». والتي تنجز ذلك من خلال التأثير على الدول الأخرى لإدراج تطوير البنية التحتية الرقمية في المذكرات والاتفاقات الاقتصادية بعيدة المدى التي توقعها معها. ويجري التطور الرقمي للصين في جميع أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط بثلاث طرق رئيسية. أولا، تعتبر «بكين» البنية التحتية الرقمية جزءا أساسيا من السياسة الخارجية للصين. ثانيا، تعزّز «بكين» أنشطة الشركات الصينية من خلال بناء الكابلات تحت البحر الأبيض المتوسط. ثالثا، تسعى «بكين» على أن تعمل الشركات الصينية بشكل متزايد في إطار سياسي للسماح لها بتوسيع وجودها في جميع مناطق العالم. وكدليل على ذلك، قامت مجموعة «هانغ تونغ» وشركاتها الفرعية «هواوي مارين» و»هانغ تونغ مارين» بتمويل كابل السلام الصيني (باكستان وشرق إفريقيا الذي يربط أوربا)، وهو مشروع «طريق الحرير الرقمي» الذي يبدأ في «جوادر» و»كراتشي» في باكستان مع «Hub de Marseille» كنقطة هبوط في فرنسا، ويبلغ طوله حوالي 12000 كيلومتر، ولا ينفك نشاط «هانغ تونغ» في التزايد. وفي عام 2019، وقّعت شركتا «هانغ تونغ» والمصرية للاتصالات اتّفاقا لفتح مركز هبوط في مصر، ممّا يعزّز مكانة الصين كجهة فاعلة استراتيجية وحاسمة في مشروع كابل «السلام». أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فهي تتبع استراتيجية مزدوجة فيما يتعلق بالكابلات البحرية. ويعدّ الجزء الأول من هذه الاستراتيجية جيوسياسيا: تريد الولايات المتحدة ضمان حفاظ شركاتها على حصتها في السوق وزيادتها تحسبا للمشاكل الأمنية المحتملة التي قد تطرأ عن «طريق الحرير الرقمي» الصيني في البحر الأبيض المتوسط. ويعدّ الجزء الثاني جيواقتصاديا، وينطوي على مصالح الولايات المتحدة في تأمين منطقة البحر الأبيض المتوسط كسوق بالغة الأهمية للبنية التحتية الرقمية.
أنشطة البنية التّحتية للإنترنت في المناطق المجاورة من البحر المتوسّط الكبير و»اتّفاقات إبراهيم»
يتميّز قطاع البنية التحتية الرقمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط الكبرى بسلسلة من ممرات الكابلات التي تمتد عبر البحر الأبيض المتوسط، عبر مصر، إلى الخليج وشبه الجزيرة العربية. إنّ هذه المنطقة من العالم استراتيجية بشكل خاص لأن العديد من الكابلات البحرية من آسيا تهبط فيها. وهي تتألف من شركاء من كل البلدان الموثوقة لمشاريع البنية التحتية الرقمية (الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية) والبلدان غير المستقرة سياسيا (العراق وسوريا). لا تزال مصر منطقة مهمة في قطاع البنية التحتية للإنترنت لأنّ موقعها الجغرافي يجعلها منطقة عازلة بين أوروبا والخليج، ولكنها يمكن أن تكون أيضا العقبة المحتملة التي في حالة فشل بنيتها التحتية، من شأنها أن تثير مشاكل على ممر الكابلات بأكمله.
ومع ذلك، فإنّ «اتفاقات إبراهيم» بين إسرائيل والدول العربية مثل الإمارات العربية يمكن أن تؤدي إلى اتفاقيات إستراتيجية جديدة في قطاع الكابلات، خاصة إذا انضمّت المملكة العربية السعودية أيضا لهذه الاتفاقية الموقّعة في 15 سبتمبر 2020. يثير هذا الاتفاق أولا طريق عبور آخر للكابلات البحرية التي تربط آسيا بأوروبا، والتي تمر عبر إسرائيل. وعلى الرغم من أنّها لا زالت لا تشارك رسميا في الدبلوماسية مع إسرائيل، إلا أن المملكة العربية السعودية تتفاوض مع الإمارات العربية المتحدة لبناء كابلات بحرية تمر عبر إسرائيل دون المرور عبر مصر لأن جميع الكابلات البحرية التي تعبر أوروبا وآسيا تمر حاليا عبر مصر. إذا تم إنشاء بنية تحتية للإنترنت بين إسرائيل ودول الخليج، فإن استثمار هذه البنية التحتية يمكن أن يعزّز عزمها على العمل معا بشكل أوثق للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة.
شمال إفريقيا وبلدان السّاحل
في حين أنّ قطاع البنية التحتية للإنترنت في الشرق الأوسط يتبع نمطا من التحالفات الديناميكية بين الدول، فإنّ قطاع شمال أفريقيا ومنطقة الساحل يبدو بعيدا، ويتميز بشكل أساسي بالانفرادية. ونادرا ما يتعاونون في مشاريع البنية التحتية المشتركة للإنترنت التي يمكن أن تحقق لهم منافع متبادلة. ويترتب عن هذا العجز في البنية التحتية عواقب وخيمة على المنطقة مثل: رداءة نوعية الاتصالات في البلدان غير الساحلية مثل تشاد، وكثيرا ما تعبر بيانات المستعملين من هذه البلدان مناطق أخرى من العالم مثل أوروبا، بدلا من الانتقال فقط عبر المنطقة، ممّا يبطئ سرعة الإنترنت، فإنّ هذا العجز في البنية التحتية يقلل من الامتيازات السياسية المحتملة التي يمكن للبلدان أن تجنيها من التعاون فيما بينها.
وفي هذا السياق، دخلت منطقة التجارة الحرة لقارة إفريقيا حيز التنفيذ في جانفي 2021، والتي تنتمي إليها جميع البلدان الإفريقية. ومن المرجح أن يكون لهذا الاتفاق التاريخي عواقب على تطوير البنية التحتية للإنترنت. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله في هذا المجال، حيث أن تجارة البلدان الأفريقية فيما بينها لا تمثل سوى 16.7 في المائة من مجموع تجارتها - وهو أقل بكثير مما يعادل تجارة البلدان في بعض أنحاء العالم مثل أوروبا، حيث تبلغ هذه النسبة 68.1 في المائة. وستتمكن الجزائر، كبلد من بلدان البحر الأبيض المتوسط، من ترسيخ مكانتها في مجال الكابلات من خلال اعتماد استراتيجية موجهة نحو الجنوب لتزويد البلدان الأفريقية بعرض نطاق دولي للشبكة.
حاليا، ترتبط الجزائر بالعديد من الكابلات البحرية التي توفر عرض النطاق الترددي الدولي للشبكة بالبلاد. يربط كابل SEA-ME-WE 4 (جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا الغربية 4) مرسيليا بعنابة والجزائر العاصمة. وكابل شبكة MED Cable لشركة «جيزي»، حيث تمتلك الجزائر 51 ٪ منه، والذي يربط مرسيليا بعنابة. وكابل «ألفال/Alval» البحري للألياف البصرية (الجزائر العاصمة - فالنسيا) وكابل «أورفال/Orval» (وهران - فالنسيا) الذي تديره «الجزائر تليكوم» الذي يربط شبكة الاتصالات الوطنية بالشبكة الأوروبية على مستوى مدينة فالنسيا. وهناك أيضا رابط عنابة – بنزرت (تونس). كما ترتبط عنابة بكابل «ميدكس/Medex» البحري الذي يربط الولايات المتحدة بآسيا عبر البحر الأبيض المتوسط.
أسباب الحيرة والقلق والأمن
تسيّر الكابلات البحرية أكثر من 97 ٪ من حركة الإنترنت بين البلدان والقارات. وعلى سبيل المثال، تملك شركة Global Cloud xChange خمسة أنظمة كابلات بحرية تربط البلدان من جميع مناطق العالم. أي مدى الأهمية التي تمثلها هذه الشركة في المعاملات عبر الإنترنت. تماما مثل البحرية الملكية (Royal Navy)، في مجال الأمن، تجهز نفسها بسفينة مراقبة لضمان حماية الكابلات الحيوية التي يمكن أن تكون عرضة للتخريب حتى أثناء حرب الغواصات. فالسفينة الجديدة مجهزة بأجهزة استشعار تراقب النشاط البحري، وتنقل الطائرات البحرية المسيّرة يتم التحكم فيها عن بعد ومستقلة تحت الماء والتي ستجمع البيانات. ومن المتوقع أن تبحر السفينة عام 2024، وستنفذ عمليات في المياه البريطانية والدولية. كما أثارت أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية مخاوف بشأن الغواصات الروسية بالقرب من الكابلات البحرية في المحيط الأطلسي.
الخاتمة
إنّ الكابلات البحرية ضرورية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجيوسياسية والجيواقتصادية. كما أنّ أهميتها وضعفها يجعلانها في صميم التوترات، وتهديدا ملموسا للدول التي تعتمد اعتمادا كبيرا على حسن سير عمل الكابلات وسلامة البيانات المتداولة فيها. إنّ «الصّراع الرقمي» الإقليمي أو البحري بين البلدان التي تمتلك الكابلات له نفس طبيعة سباق التسلح، حيث يريد الجميع أن يكون لديهم أكبر قدر منها ليكون وسيلة للردع، وحتى الهيمنة.
وأخيرا، لا يمكننا أن نتجاهل الصراع من أجل النفوذ الذي يجري في الهجوم السيبراني، والذي قد اتخذ أبعادا بالغة الأهمية. وتُعتبر العملية العسكرية الروسية الأخيرة في أوكرانيا (فيفري 2022) خير دليل على أهمية التكنولوجيا الرقمية وامتلاك الكابلات البحرية. فقد تمكّنت روسيا من مواجهة الهجمات السيبرانية، وإحباط جميع الهجمات السيبرانية، وحتى أنها عطّلت الاستخبارات الأوكرانية من خلال شن هجماتها الإلكترونية الخاصة. وعليه، لا يمكن للجزائر، كبلد استراتيجي في البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، ألاّ تكترث بالصراع القائم من أجل النفوذ والتفوق أمام إقليمها البحري في المجال الرقمي.
(^) بروفيسور جامعي في الرياضيات والفيزياء.
- خبير في التعليم العالي والبحث العلميوفي إدارة التغيير - جامعة المسيلة -