طباعة هذه الصفحة

«الجوزية» القسنطينية

«عـروس» بـين سريــة المـذاق ومَلَكية التّقـــــديم 

قسنطينة: مفيدة طريفي

 أقل ما يقال عنها بمدينة الجسور المعلقة تقليدية إنها عروس الحلويات القسنطينية والتي تنفرد بصناعتها، هي حلوى أسطورية لا يمكن أن تستغني عنها العائلات القسنطينية، فمع حلول الشهر الفضيل تسارع معظم ربات البيوت لتحضير»الجوزية» باقتناء أهم لوازم ومكونات الوصفة، التي عادة ما تتطلب المال والجهد الكافيين للنجاح في تحضير ألذ وصفة وأقدم حلوى عايشت تاريخ سيرتا القديمة والحديثة.

«الجوزية» الحلوى الملكية التي يتفنّن في صناعتها سكان المدينة العتيقة منذ عقود من الزمن، ووصفة توارثتها عائلات منذ التواجد العثماني، والتي أضحت من أشهر الحلويات التي تزين السينية والمناسبات بمدينة تعج بالعادات والتقاليد، أصل تسميتها بالجوزية هي أنها تصنع من ثمرة الجوز، الذي يشكل عنصراً أساسياً في صنعها وتزيينها، إضافة إلى مكوّنات أخرى منها العسل والبيض.
وتنافس خلال شهر رمضان حلويات عريقة مختلفة، مثل «البقلاوة والقطايف الزلابية والمقروط»، وغيرها من الحلويات التقليدية التي تشتهر بها قسنطينة، ويقبل عليها الصائمون بصورة لافتة خلال شهر الصوم وعلى مدار السنة، لطعمها المميز.
  إرث يتجدّد
حسب مختصين وحرفيين يمتهنون صناعة حلوى «الجوزية»، فإنّ تاريخها يعود إلى الحقبة العثمانية في الجزائر، وكانت آنذاك تلقب بحلوى الملك باعتبار أنها مخصصة لقصر الباي وليس لعامة الشعب، وفي تلك الفترة كانت قسنطينة بايلك الشرق والتي كان يحكمها باي يُعيّنه داي الجزائر أولهم «تشولاك باي» وآخرهم «أحمد باي بن محمد الشريف».
وحسب الحرفي «صابر»، صاحب محل جوزية بحي القصبة العتيق، والذي يعتبر من أبناء المدينة العتيقة توارثها عن أجداده، وهو اليوم يكمل مشواره بالحفاظ على هذا الإرث، حيث أكد لنا أن أقدم محلات بيع الجوزية في المدينة العتيقة هو محل الحاج «صيد خلفة».
وأشار إلى أن هناك حلويات أخرى إلى جانب الجوزية، على غرار «روح الباي»، التي كان يأكلها الباي إذا غضب، فتخفف عليه حسب ما كان يرويه أجدادنا، مضيفا أن الجوزية كانت مخصصة لقصر الباي ولم تكن للعامة، إذ كانت تعد آنذاك حلوى بمواصفات ملكية، منوها إلى أنّ «العائلات الأولى التي اشتهرت في قسنطينة بصناعة الجوزية، هي عائلة «بن تشاقر»، و»خلفة صيد»، و»بن شوالا»، ثم بدأت الجوزية في الانتشار والتوسع مع السنوات.
ويوضّح «صابر» أن تلك العائلات «كانت تصنع الجوزية داخل المنازل، ثم توسعت إلى المحلات، لكن عائلات قليلة فقط حافظت على المهنة، مثل عائلة خلفة صيد، التي توارث أبناؤها الحرفة ولا يزالون إلى اليوم يمارسونها في قلب المدينة العتيقة»، مضيفا أن صناعة الجوزية تنتشر بالمدينة وبدأت تشتهر في تسعينات القرن الماضي، أين أخذت صناعة الجوزية تتوسع وبدأت العلامات التجارية تنتشر، خصوصاً عام 2015 في إطار قسنطينة عاصمة الثقافة العربية.
لتتحول الجوزية اليوم من حرفة أصيلة عند الكثيرين إلى تجارة محضة، عند الذين يُعدّون ويصنعون جوزية مقلدة وليست أصلية، وتصنع الجوزية من الجوز وبياض البيض والعسل الصافي، مع وجود سر يكمن في طريقة طبخها وتحضيرها، لتصف وتقطع إلى قطع مربعة تعلوها حبة الجوز أو مستطيلة ممزوجة بمكسرات الجوز في النهاية، ثم تغلّف بـ «نيلون» شفاف وتعرض للبيع بديكورات نحاسية تعبر عن عادات وتقاليد المدينة العتيقة.
كما أكد أحد السكان بالقصبة «عمي حمد»، والذي وجدناه بمحل الجوزية، أن كافة العائلات القسنطينية تحتفل بحلول الشهر الفضيل بطريقة تختلف عن باقي المدن الأخرى، بدءا من تحضير حلويات رمضانية متميزة في مقدمتها النوقة والجوزية التي تكون عروس السينية والسهرات الرمضانية لتأتي حلوى الزلابية والمقرقشات في المرتبة الثانية، والتي تصنع بطريقة مميزة على طول شوارع المدينة القديمة لتصنع أجواء رمضانية متميزة.
وأضاف أنه يدمن على حلوى الجوزية منذ صغره، واعتاد على اقتنائها طوال السنة باعتبارها عادة جميلة ورمز قسنطينة وطابع سكانها، الذين أضحوا دائما ما يعتبرونها كهدية للضيوف خارج المدينة والوطن على حد سواء، أما فيما يخص سعر الجوزية فهو حسب القطعة والديكور المعتمد في بيعها وتسويقها كتراث مدينة تعج زواياها بتقاليد لن تجدها سوى بمدينة الجسور المعلقة.
ويبدي القائمون على صناعة حلوى «الجوزية» تمسكا كبيرا بالطعم التقليدي، معتبرين تغيير وصفاتها المعتمدة تشويها لها، وتعديا على أصولها التاريخية، ويهدد في تغيير ذوقها المتوارث عن وصفات الأجداد التي عايشت الفترة العثمانية وباي البايات صاحب محل «جوزية سيرتا» الواقع بمنطقة زواغي بالقرب من مطار قسنطينة والمشهورة على مستوى الولاية، والتي يتوافد عليها سكان المدينة، وكذا من المسافرين وزوار المدينة من داخل وخارج الوطن، حيث أكد لنا أحد المواطنين أن نكهتها أصلية وغير مقلدة، وأن جوزية سيرتا تعتبر من أشهر المحلات بقسنطينة، حيث نادى بضرورة المحافظة على هذه الصناعة التقليدية التي تعد اليوم أحد ملامح الهوية الجزائرية، مطالبا بإتقان صنعها كما ورثوها من الأجداد.