يجر الحديث عن الاستقلال والنصر دائما إلى فتح صفحات الذاكرة التي ارتبطت بالثورة التحريرية والتي تكللت بوقف إطلاق النار، يوم 19 مارس 1962، هذا الحدث الذي بقي راسخا طيلة 60 سنة وسيستمر.
لكن بالرغم من الأهمية الكبرى للذكرى، إلا أن كثير يجهلون صيرورة هذه الاحتفالات خاصة في تراب ولاية قالمة الثورية، باعتبار أنها كانت صمّام الأمان للاستقلال، فبفضل جنودها وقادتها الأشاوس لم تكن للمفاوضات الجزائرية مع العدو الفرنسي لتكتمل لولا المعارك الضارية والمظاهرات التي جابت شوارع قالمة.
عشية الاحتفال بعيد النصر، المصادف لتاريخ 19 مارس 2022، التقت «الشعب» بمجموعة من مجاهدي ولاية قالمة التاريخية، الذين أدلوا بشهاداتهم حول ما عايشوه إبان حرب التحرير الوطني، بمحطاتها وآلامها ومعاناتها وقسوتها، التي ترجمتها لغة العيون قبل الكلمات، لتعبر عن ثمن التحرر من العبودية والاستعمار الغاشم.
دموع الحزن على ماض أليم اختلطت بدموع الفرح وهم يستحضرون تاريخي 19 مارس و5 جويلية 1962 اللذين أعادا الفرحة لقلوب الجزائريين والبسمة لوجوه المجاهدين والمسبلين والمعتقلين بأن باب الفرج قد فتح، شهادات تخلد التاريخ في وقت بدأت الجزائر تفقد أعدادا كبيرة من حاملي هذه الذاكرة بوفاتهم وبالتالي فقدان شهادات من حق جيل اليوم اغتنام الفرصة لجمعها وتدوينها وحفظها.
الحرية لم تأت من العدم
المجاهد حسين لعفيفي المدعو»علي شباب» إبن شهيد من مواليد 1935، انضم رفقة أخيه المرحوم العيفة لعفيفي» المدعو اسماعيل شباب» رحمه الله، إلى صفوف جيش التحرير الوطني، وبقي إلى غاية أواخر سنة 1961، أين أُلقي القبض عليه في إحدى الاشتباكات بين الثوار مع العدو الفرنسي.
يقول المجاهد لعفيفي بمناسبة إحياء الذكرى الستين لعيد النصر أن هذا الأخير «لم يأت صدفة أو تنازلا من قبل المستعمر وإنما هو تتويج لتضحيات وصبر شعب وحنكة شخصيات وطنية أجبرت جنرالات فرنسا على الخضوع والجلوس على طاولة المفاوضات».
واعتبر المجاهد أن هذا اليوم التاريخي «اعتراف ضمني لفرنسا» باستقلال الجزائر التي حاولت يائسة بكافة الطرق إخماد الثورة التحريرية التي التف حولها كل الشعب الجزائري، الأمر الذي أجبرها على اللجوء إلى الحل السياسي والخضوع لكافة الشروط بعد فشلها في محاولة مراوغتهم باشتراطها تسليم الأسلحة قبل الجلوس الى طاولة المفاوضات الأمر الذي قوبل بالرفض.
وأكد المجاهد أن الحرية كلفت ثمنا كبيرا، بقوله: «كم من شهيد وشهيدة سقت دماؤهم أرض الجزائر وكم من قبر لا يملك اسما، وكم من يتيم لم يعد له أب وكم من أرملة فقدت نصفها»، ويشير إلى أنه يوم الإعلان عن الاستقلال كان بمعاتقة عندما بلغه الخبر واصفا ذلك الشعور بـ»الحلم» : «لا الكلمة قادرة على التعبير ولا الدمعة، فقط الدهشة والذهول لقد تحقق الحلم»، ويوضح أنه بتاريخ 19 مارس عند إنزال العلم الفرنسي ورفع العلم الجزائري لم يكن مصدقا، لكنها حقيقة جاءت بالصبر والصمود والشجاعة والقوة، بالرغم من الضعف والجوع والألم والتعذيب.
ويروي المجاهد، أحداث وقعت له مع مجموعة من المجاهدين في جبل دباغ، أنه في أحد الأيام فوجئوا بالجيش الفرنسي وطائرات العدو فوق رؤوسهم في منطقة جبل دباغ والتي لم يستطع الجيش الفرنسي دخولها من قبل ، إثر وشاية، من أحد الحركى، حيث بدأ تطويق العدو للمنطقة بالطلعات الجوية وتحرك عدد هائل لقواته وتبع سقوط أولى قذائف القصف المروحي لجبل دباغ ، و زحف بري لعساكر فرنسا، حيث تم قصف كثيف حول مرتفعات الجبل إلى لهيب وكانت الصواريخ الحارقة لقنابل النابالم المصحوبة بالغازات السامة تتهاطل على الجبل.
ويتذكر المجاهد لعفيفي، الذي كان متواجدا في جبهة القتال، بأن عددا كبيرا من مجاهدي جيش التحرير الوطني، وخصوصا الفيلق التابع له وبقية العناصر التي شاركت في هذه المعركة تعرضوا للاختناق بسبب الغازات السامة، ومنهم من استشهد في تلك المعركة، منهم « سالم عمار المدعو» عمار الجن» و ليمان إسماعيل « رحمهم الله.
ويشير المجاهد أنه من كثرة استنشاقه للغازات، أغمي عليه وتم القبض على عدد من أفراد الكتيبة التابعة لدباغ، و أنه لم يستفق إلا بعد 14 عشر يوما وجد نفسه في المستشفى، حيث قضى 25 يوما تحت العناية بمستشفى قالمة تحت الحراسة المشددة، على أن يتم نقله إلى التحقيق، وهنا يتحسر محدثنا ويقول: «أنا ذاهب إلى الصراط» يقصد بها إلى التعذيب».
و لا يزال المجاهد « لعفيفي» يحتفظ بذاكرة قوية وهو يروي هذه الأحداث بدموع وبافتخار، إنه لم يكن يتوقع يوما أن يخرج من الحرب ضد الاستعمار الفرنسي حيا، ويشير أنه «كلما وقع في اشتباك مع المستعمر كان في نظره آخر يوم له في الحياة، وكان المجاهدون يؤمنون بالموت من أجل الوطن، لكن أبدا لم يتخيل نهاية الحرب يوما، أمام قوة فرنسا الاستعمارية التي تملك دبابات وطائرات وذخيرة حربية كبيرة وقوية.
شهادات تدمع لها العين
يقول محدثنا إنه لما ألقي عليه القبض وحوّل إلى التعذيب، (هنا استرجع ذكريات التعذيب بصعوبة بالرغم من أنّها محفورة في ذهنه، بالنظر لفظاعة التعذيب وأساليبه) «لا يمكنني تحريك رجلي الأيمن كثيرا، لأنها معطوبة من شدة الضرب المبرح-من طرف الجنود الفرنسيين».
ويشير المجاهد إلى أساليب التعذيب التي تعرض لها بالماء والكهرباء ويؤكد بأنها ليست الكهرباء التي نستعملها في حياتنا العادية، بل أشد منها من حيث الضغط، وبقي تحت التعذيب لأيام قبل أن يحاكم وينفذ فيه الحكم بـ 20 سنة سجنا مع الأعمال الشاقة. يسكت المجاهد وعيناه اغرورقتا دموعا، لكنه يصمت قليلا، ويتذكر كلمات والدته عند سماعها بالحكم حين قالت بأعلى صوتها» ولدي ولدي ولدي يفوت 20 سنة حبس أو ما يكونش حركي»..
ويذكر المجاهد أنه عندما يخلد للنوم لا يرى الحرية بقدر ما تدور في عقله صور التعذيب وجثث الشهداء مرمية هناك وهناك ومنازل لم يبق منها سوى الأنقاض، والاستيقاظ من النوم أكثر ألما لأن المستعمر لا يزال يسيطر على أرض الجزائر ويواصل التعذيب ولم تترك فرنسا أية فرصة لاستعراض قوتها ووحشيتها، ويقول: لكن الله كان في عوننا وساعدنا في طردهم».
ويضيف محدثنا: «لقد حققت ثورة التحرير المظفرة الانتصارات المتتالية التي أفقدت العدو الفرنسي صوابه آنذاك فلجأ إلى الانتقام باستعماله الأسلحة الفتاكة، وزرع الرعب في أوساط السكان بالاستعمال المكثف للقنابل الحارقة (نابالم) ضد مواقع جيش التحرير الوطني، حيث عانى العديد من المجاهدين الذين يحملون آثار الحروق الناتجة عن استعمال هذا السلاح الحربي المحظور بموجب اتفاقيات دولية».
ويضيف أيضا: «الحرب لم تكن سهلة، لقد كنا نواجه مخاطر، ووقعنا ضحايا كمائن، التعب نال منا والجوع حالة يعجز اللسان عن وصفها، لأننا كنا أقرب من الأموات أكثر منه من الأحياء، لكننا صمدنا».
كان للمرأة دور فعّال
كما أدت المرأة إبان ثورة التحرير دورا فعالا، فقد كانت عنصر دعم وتموين وكذا مجاهدة إلى جانب الرجل فالحلم واحد والغاية نفسها، أمثلة عديدة عن بطلات الثورة منهن اللواتي استشهدن وأخريات استمرين في الكفاح كل واحدة بما استطعت، ومنهن المجاهدة دادو الطاوس المدعوة «زكية»، التي تنقلنا إلى منزلها الواقع ببلدية حمام دباغ «.
فتحت لنا ذراعيها والدموع لم تفارقها طيلة وجودنا بمنزلها، وشرعت في سرد حقائق محزنة عما ارتكبه الاستعمار في حق الشعب الجزائري بالمنطقة، خاصة المرأة التي يعتبرها الجيش الفرنسي بمثابة الضربة القاضية للمجاهدين كون المساس بشرفهم يدفعهم إلى النزول من الجبال وترك الكفاح والاستسلام، لكن ما لم يضعه الجيش الفرنسي في حسابه أن الشعب عقد العزم على عدم الرجوع إلى الوراء مهما كان الثمن.
بدأت «الطاوس» تسترجع ذكرياتها شيئا فشيئا، قائلة: «لقد نسيت الكثير من الأحداث، فهي أمور لا تسر القلب ليتذكرها الفرد، وهي أمور محزنة كذلك ونسيانها ينسي الفرد الأحزان والآلام التي لازمت الشعب طيلة الاحتلال الفرنسي، كنت أتكفل بتوفير المؤونة من أكل، ملبس ومشرب والدواء للمجاهدين».
وتضيف المجاهدة أنها بعد وقف إطلاق النار كانت معتقلة لدى الجيش الفرنسي في سجن قالمة، وأفرج عنها بعد أسبوعين من توقيع اتفاقيات إيفيان التي أنهت الحرب.
وتشير «الطاووس» انه عشية وقف إطلاق النار، أخبرها الجندي الاحتياطي المدعو «جون بوشي» أن استقلال الجزائر قريب، وأنها ستتمتع بالحرية هي وزميلاتها المساجين، فكان الخبر حلما للكثير من الجزائريين، بالنظر لما عايشوه من استبداد وذل وظلم.
ومع بزوغ فجر 19 مارس 1962 ارتسمت نشوة الانتصار والأمل في سجن قالمة بعد إعلان وقف إطلاق النار، بين زغاريد وشعارات تحيا الجزائر، في هذه اللحظة تتأثر المجاهدة، وعادت بذاكرتها إلى موقف العائلات والأمهات اللواتي فقدن فلذات أكبادهن في حرب التحرير بعد توقيف القتال.
وتضيف: «الكل كان فرحا، فالأمهات في بيوتهن يخبزن الخبز و يقدمنه إلى الجيران والأقارب، و يخيطن الأعلام الوطنية التي غزت الشوارع و الاحياء بالآلاف» بمدينة قالمة، فالفرحة أنست الفقر والظروف القاسية» التي كان يعيشها سكان قالمة آنذاك».
هنا «امتزج شعور الفرحة بالحزن في مشاهد بالغة، تقول المجاهدة، منهم من استشهد ومنهم من قدر الله له العيش والعودة إلى أهله».
واستذكرت الطاوس ما كان يعيشه الشعب الجزائري، من قهر تحت وطأة الاستدمار، تقول: «كنا نعيش كخدم و عبيد في أرضنا، تحت أقدام المعمرين الذين كانوا يعاملوننا أقسى معاملة، لقد كانت حياتنا مليئة بالعنصرية و الإهانة والبؤس بشتى أنواعه، و كان يوم إعلان وقف القتال بمثابة الاستقلال ومحطة أعادتنا للحياة مجددا».
قضت «المجاهدة ستة أشهر في سجن قالمة مع المناضلات الجزائريات منهن (اومدور تونس، والمجاهدة بية حنون رحمها الله و زبيدة كماش)، التي توفي جنينها ببطنها قبل أن ترسل إلى مستشفى قسنطينة. وبتاريخ الرابع ماي 1962 خرجت من سجن قالمة بعد معاناة طويلة بالرغم من قصر الفترة التي قضتها في الاعتقال.
التحضير للاستفتاء بحمام دباغ
عملية الاستفتاء بعد سنين الكفاح التي خاضها الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي التي توجت بمفاوضات ايفيان بين وفد جبهة التحرير الوطني ضد حكومة الاستعمار الفرنسي، والتي أدت إلى توقيف القتال بين الجانبين وكان من بين بنود الاتفاقية إجراء استفتاء تقرير المصير عبر كامل التراب الوطني بعد وقف إطلاق النار 19 مارس 1962.
تقول الطاوس بعد وقف إطلاق النار، وعند خروجها من سجن قالمة وصلتها رسائل من المجاهدين، تقول: « أخبروني بأن العمل متواصل وان المهمة
هي التأكيد على ضرورة اليقظة والاعتزاز بما قدمه المجاهدون وعلى الإقبال على الانتخابات بقوة للمساهمة في استرجاع السيادة الوطنية.
ففي منطقة حمام دباغ، تذكر المجاهدة أنه تنفيذا لتعليمات مسؤولي جيش التحرير الوطني ، شرعت بالتعاون مع بعض المناضلات والمسبلين في تعبئة المواطنين، وعقد تجمعات لتوعيتهم وحثهم على المشاركة بقوة في عملية الاستفتاء بنعم لصالح استقلال الجزائر.
تفاصيل التسليح بالشرق
كان اللقاء مع المجاهد صالح غازي في بيته ببلدية الركنية، متميزا، ليس فقط بكم المعلومات التي اطلعنا عليها، والتي عادت بنا إلى جزء هام من تاريخ الثورة التحريرية المظفرة، بل لأن الجانب الإنساني كان حاضرا بقوة لدى هذا المجاهد الذي ذرف الدمع أحيانا عندما تذكر الشهداء، يروى لنا بعض الحكايات الطريفة أحيانا أخرى. فـ «الحياة مزيج من كل شيء»، كما يقال. كانت الذكريات صعبة بالنسبة لرجل قضى شبابه يخدم بلده بعيدا عن عائلته، خارج الحدود الجزائرية.
المجاهد غازي أحد الفاعلين المهمين في مجال التسليح والتموين إبان ثورة التحرير الوطني في المنطقة الشرقية، يقول: ‘’لم تكن المهمة سهلة أبدا’’، لكنها في نفس الوقت لم تكن «مستحيلة»، لأن وراءها رجال فضلوا التضحية بكل غال من أجل بلدهم، ولأن السلاح عصب الحرب، فإن توفيره كان من أصعب المهام، لكن المهمة أنجزت بكل نجاح، بالرغم من كل العراقيل والأخطار، وبالرغم من الموت والدمار، لأن الإيمان كان قويا بالجزائر الحرة المستقلة».
محدثنا ابن بلدية الركنية ذاكرة التاريخ والثورة الجزائرية بمنطقة قالمة. فهو رفيق المجاهدين يتذكر المسيرة النضالية ومواقع النضال لكل واحد منهم. حفظ تاريخ ثورة نوفمبر مثلما يحفظ اسمه، فلكل سؤال جواب عنده. فهو من ناضل وكافح وضحى مع رفاقه الشهداء والمجاهدين الذين دفعوا الثمن غاليا للتحرر من عبودية المستعمر.
انضم غازي، البالغ 90 سنة إلى النضال من أجل استقلال الجزائر في منطقته الركنية بقالمة سنة 1956. وبعد أن تدرب على «السلاح و حرب العصابات»، تم توجيهه للعمل كممرض للتكفل بجرحى المعارك بين الجزائريين الذين أعلنوا الحرب على قوات الاستعمار والفرنسيين في الأول من نوفمبر 1954.
وبدأت مرحلة نضال المجاهد في صفوف المجاهدين في العشرين من عمره، حيث قضى أول ليلة من نضاله بمنطقة مرمورة، تم تجنيده من طرف الشهيد طاهر دحمون، لينتقل بعد ذلك مع مجموعة من المجاهدين إلى تونس عبر رحلة دامت 11 يوما.
يقول صالح:» كنا نتحرك ليلا من منطقة لأخرى، وفي الصباح نختبئ عن أعين الجيش الفرنسي، لتبدأ مهام المجاهد، في تونس كممرض وحامل لسلاح و جلبه إلى المنطقة الشرقية تونس».