أكدت الكاتبة، فضيلة ملهاق، بعد مشاركتها في الصالون الدولي للكتاب الذي احتضنته القاهرة، مؤخرا، أنّها حظيت بمشاركات في نشاطات ثقافية وندوات فكرية، تم تنظيمها على هامش المعرض، وقدمت من خلالها إصداراتها في القانون والأدب، منها روايات “لعنة اليربوع”، “ذاكرة هجرتها الألوان”، “ريم” وكتاب “حماية حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة”، إضافة إلى روايتها الجديدة “حينما تشتهيك الحياة” الصادرة، مؤخرا، عن دار العين المصرية، والتي جرى حفل توقيعها بجناح الدار، بحضور نخبة من المثقفين والأدباء والإعلاميين، وفي هذا الحوار مع “الشعب” تكشف الكثير من المحطات الثقافية.
الشعب: شاركتم بإصدارات جديدة في معرض القاهرة، على غرار “حينما تشتهيك الحياة” كيف كان حضورها الأدبي مقارنة مع الإصدارات الأخرى؟
فضيلة ملهاق: حقيقة أنّ روايتي الجديدة “حينما تشتهيك الحياة” الصادرة، مؤخرا، عن دار العين المصرية، عرفت اهتماما ملموسا من قبل مختلف الشرائح، وحظيت باهتمام معتبر من الإعلاميين، لكن أظن أنه، في هذه المناسبة، لا تصلح المقارنة بينها وبين باقي الإصدارات من حيث إقبال القراء، نظرا لعوامل عدة، وعلى رأسها السياق الذي عرض فيه كل إصدار، وكذا الكميات المتوفرة في المعرض. لكن يمكن القول عموما أنّ اهتمام القارئ بالجديد، وهو أمر طبيعي ومشجع، لا ينفي اهتمامه بالإصدارات السابقة التي تعنيه، فمثلا رواية “لعنة اليربوع” لقيت اهتمام القراء منذ الوهلة الأولى لدخولها المعرض، على الرغم من أنّها لم تكن محل بيع بالإهداء، ومضى على صدورها ثلاث 3 سنوات (صدرت عام 2019 عن موفم – الجزائر).
أنوّه أنّ هذه الرواية تجمع بين الخيال العلمي والنكهة البوليسية والحقيقة التاريخية، كوكتيل سردي، يستنطق لوحتين عميقتين من صلب الواقع، الأولى تتعلق بوضعية العقول الخلاقة في مجتمعات تتباكى على النمو وتتجاهل بذرته التي تسكنها، والثانية يمكن اعتبارها استصراخ لشفاه الأدب من أجل عرض أعماق وأبعاد حقيقة تاريخية مفجعة، هي الجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبتها سلطات الاستدمار الفرنسي في بداية الستينيات في حق الشعب الجزائري الأعزل، وضد الطبيعة والإنسانية جمعاء، بسبب تجاربها وتفجيراتها النووية في الصحراء الجزائرية، لاسيما منطقتي (رقان) و(عين أنكر). كان من نتائج هذه التفجيرات التحاق فرنسا بمصاف الدول المتطورة والمهيمنة سياسيا واقتصاديا، وبالمقابل، تمّت إبادة سكان منطقة بكاملها وانقراض سلالات من النباتات والحيوانات وتحوّر أخرى.. إضافة إلى مخلفات إشعاعية خطيرة ستظل المنطقة تعاني منها لمئات السنين.
الإرادة قوام الإنجازات الكبرى في أيّ مجتمع، والعلم هو الدعامة، وفي ذلك تجتمع صَبْريّة بصديقات الدراسة (ربّة بيت، وإعلامية، وقانونية). صبرية فتاة مُنْكَفئة على نفسها، ومتوارية، بسبب رواسب نفسية اجتماعية، تضخّمها إعاقتها الجسدية، لكنّها مولعة بالبحث العلمي. غيّرت تلك المصادفة التي جمعتها بصديقاتها منحى حياتها، جعلتها تُعاين عن كثب مُخلَّفات التّفجيرات النّوَوية الفرنسية في الصّحراء الجزائرية، ومعاناة ضحاياها، فكبُرت الفكرة في رأسها، ووصلت إلى تحقيق إنجازٍ غير مسبوق، يتعلّق بالإشعاعات النووية، ووجدت نفسها فجأة تكتشف نفسها من جديد، وتتحمّلُ مسؤولية قضية كوْنيّة كبيرة، وهكذا تتوالى الأحداث لتسقط أقنعة وتظهر ملامح جديدة للوجود.
- كيف كانت مشاركتكم مع الوفد الثقافي الجزائري، من حيث المشاركة الأكاديمية وفعاليات صالون الكتاب؟
على الصعيد الشخصي، كانت مشاركتي في معرض القاهرة الدولي للكتاب في طبعته 53 محطة مميّزة وجميلة، خاصة وأنها جاءت بناء على دعوتين غاليتين، تجسّدان أواصر المحبّة والتّشارك الثقافي بين الشعبين الشقيقين الجزائري والمصري، فقد كان لي مشاركات في نشاطات ثقافية وندوات فكرية، تم تنظيمها على هامش المعرض.
كما شاركت بإصدارات قانونية وأدبية، منها روايات “لعنة اليربوع” و«ذاكرة هجرتها الألوان” وكتاب “حماية حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة”، بجناح الجزائر ورواية “رميم” الصادرة عن دار هاشيت أنطوان – نوفل- لبنان عام 2019، إضافة إلى روايتي الجديدة “حينما تشتهيك الحياة” الصادرة مؤخرا عن دار العين المصرية، والتي جرى حفل توقيعها بجناح دار العين المصرية، بحضور نخبة من المثقفين والأدباء والإعلاميين والطلبة، المصريين والعرب، وأبناء الجالية الجزائرية بالقاهرة، وأعضاء من تمثيليات دبلوماسية وهيئات قانونية وجمعوية محلية ودولية، وكان لي شرف المساهمة في تمثيل جانب من ثقافة وطننا الغالي في الخارج. عموما، جسّد معرض القاهرة الدولي للكتاب في طبعته 53 لوحة ثقافية جميلة، فسيفساء حضارية متنوّعة الأذواق والمنابت والتوجّهات الفكرية، سواء من خلال الإنتاجات الفكرية المعروضة، أو من خلال الندوات الفكرية والأمسيات الأدبية، وكذا العروض الفنية التي رافقت فعالياته.
- كيف كان إقبال القارئ المصري والعربي على فعاليات المعرض وخاصة، جناح الجزائر؟
عرفت هذه التظاهرة الثقافية الدولية توافدا كبيرا للزائرين إلى أروقة الكتب والقاعات والأماكن التي تضمّنت الفعاليات المرافقة له، ومن الطبيعي أن يلقى جناح الجزائر اهتمام مختلف الفئات والجنسيات، بما فيهم أبناء الجالية الجزائرية في مصر، بالنظر إلى عامل الانتماء الوطيد، والمهتمين بالثقافة الجزائرية على وجه الخصوص، بالنظر إلى مكانة الجزائر على مختلف الأصعدة، دون إهمال عامل الارتباط المعنوي للجاليات المختلفة التي أقامت في الجزائر في فترات مختلفة، لاسيما المواطنين المصريين الذين عاشوا في الجزائر وأبنائهم المتأثرين بذاكرتهم الإيجابية.
يمكن القول، بموضوعية، أنّ الجزائر قارة ثقافية بكل المقاييس، بفعل عوامل تاريخية وجغرافية وطبيعية وبشرية. فهي تتميّز بخزّان ثقافي عريق ومتنوّع.. تنوّع اللّسانات والموروث الثقافي المادّي والمعنوي والمنتوج الفكري.. والتفرّد في تجسيد ثنائية فكرية مبهرة ( التنوّع - الانسجام)، والتي قوامها النواة الصلبة للمجتمع الجزائري، وهي مقوّماته الأساسية. لكن هذه الثروة الوطنية الحيوية، الخزان الثقافي، بحاجة إلى المزيد من الخطوات من أجل تثمينها، وتفعيل دورها في التنمية الوطنية، باختلاف مناحيها. يؤكد التاريخ والواقع أنه ما من نهضة حضارية إلا وسبقتها، ورافقتها، نهضة ثقافية.
- تطرّقتم في روايتكم الأخيرة “حينما تشتهيك الحياة” إلى موضوع الهجرة السرية، ما هي الأبعاد التي تتناولها؟
رواية “حينما تشتهيك الحياة” هي عرض مفصل لحياة الإنسان على رُكح العالم المعاصر. أحداثها عابرة للحدود، ومتعدّدة الأمكنة والأزمنة، والأحاسيس. مشاهدها تجوب العالم بأسره، غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، لتستنطق تناقضات عالمنا المعاصر وغرائبه، من خلال تحليل مجهري لظاهرة الهجرة السرية (الحَرْقة).
(الحرقة) في هذه الرواية لها دلالاتها العميقة. أن يحرق الإنسان أوراقه ورجاءه في وضع ما وينتقل إلى وضع آخر يظنه آخر ما بقي أمامه في الحياة. إنّها هجرة الداخل، أيّ الذات، التي تحاول التملّص من شباك الظروف، أو الإحساس بالقيد، قبل أن تكون هجرة جسد.
هذه الرواية تُصوّر بدقة كيف تتقاذف أمواج البحار، والتواطؤ، أبناء العالم الثالث، من عرب وأفارقة قادمين من مختلف مناطق المعاناة، بلا هوادة ولا رحمة ولا بوصلة، وكيف تتشكل شبكات العاملين على تسفير الشباب في هجرتهم السرية، وتوصلهم إلى رموز عولمة استعباد وإذلال الشعوب، بداية من خنادق اليأس التي تتواطأ الظروف على حفرها لهم.
تضع الرواية عين القارئ على عدسة ميكروسكوب عملاق، عالي الحساسية، لتجعله يرى الهجرة السرية عن كثب، ويحدّد بنفسه الثمن الذي يمكن أن يدفعه المهاجر السري (الحراق)، في مختلف الأوضاع، لاسيما حين تحترق المراكب كلها، ويتعذّر الاستمرار في الحياة على ضفة الحلم، ولا يسهل الرجوع إلى ضفة الانطلاق. قد جاء على لسان أحد أبطالها في لحظة معاناة على ضفة الأحلام: “ليس سهلا أن تعيش في مكان لا يراك خارج الوَرق، من دون وثائق هويّة، ولا بطاقة إقامة، ولا مال.. لا تملك من المُبرّرات غير اشتهاء وجودك فيه”.
أشرعة الإبهار والإغراء لها سفن ومرافئ في هذه الرواية، وبالموازاة تتعالى أمواج الوجع، والخيانة.. والموت.. وتتلاطم معها المآسي التي تخلفها الفرص الضائعة، والأحلام المحطّمة، والحقوق المهدورة، والهوية المجروحة.. لكن تبقى شطآن العودة إلى الذات، وإلى المنطق الآمن، ملاذا وقرارا. يقول البطل حميد في لحظة مكاشفة للنفس: “يفتح الوطن بابه لأحاسيسك، عندما تسُدُّ الغربة أبوابها في وجهك”.
ففي هذه الرواية تترنّح الأحاسيس عبر مشاهد وأزمنة، بين عتمة النفس ودهاليز الآمال الموصدة، لكن أبواب الحياة تبقى مفتوحة على المصراعين، لمن يكتشف موضع المفتاح، ويعرف كيف يستخدمه.. ويحسن التملّص من قيعان الظروف، وأولها قيعان النفس، ويبقى ذلك الظفر المبين قائما، وممكنا: “كيف تشتهيك الحياة”.
- فضيلة ملهاق تجمع بين تخصّصات مختلفة: دكتوراه في القانون، دراسات عليا في الدبلوماسية، ومؤلفات أدبية.. كيف تم توجّهكم إلى هذه التوليفة؟
دراسة القانون والعلوم الإدارية كانت اختيارا، لأنّني حاصلة على شهادتي بكالوريا، إحداهما في الرياضيات وأخرى في علوم الطبيعة والحياة، وجدت فيها ما يتناسب مع بنائي الفكري وتكويني القاعدي، وهو الرياضيات، التي عوّدتني على الدقة والجدية والمنهجية، وهو ما يتطلّبه أساسا إنشاء القاعدة القانونية أو تطبيقها. أما الكتابة الأدبية، فيصعب عليّ أن أحدد أيّنا اختار الآخر، أنا أم هي. أظنّها ولدت معي، لأنني كنت أرسم الحروف وأناغيها قبل أن أعرف القراءة والكتابة أساسا. بدأت الكتابة فعليا في السنة الأولى ابتدائي، وكتبت شعرا بمناسبة ذكرى اندلاع ثورة أول نوفمبر المجيدة.
بالنسبة للدبلوماسية، كدراسات عليا متخصّصة، جاءت تجسيدا لرغبتي في الإلمام بمدارك ومهارات، أراها ضرورية ومتكاملة مع مجال القانون، لا سيما وأنّها تتقاطع بامتياز مع تخصّصي الأكاديمي- دكتوراه في مجال حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني- كلاهما مادة حيوية تعتمد على مهارات وعمليات ذهنية دقيقة، من أجل إيجاد الحلول للمسائل المطروحة واتخاذ القرارات الصائبة، ولا يختلف الأدب عنهما في بعض مناحيه. هذا طبعا دون إهمال الفوارق الأساسية، فبينما تتسم القاعدة القانونية بالعموم والتجريد والالزام، ترتبط الممارسة الدبلوماسية بمجموعة من المتغيّرات والأطر الاتفاقية، ويظل الأدب يحتفظ بالنزعة الذاتية، ويميل إلى المباغتة وتجاوز المعتاد، حتى وإن توخّى الموضوعية.
- صدر لك كتاب “حماية حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة- واقع ورهانات”، ما الذي تم تناوله بالدراسة تحديدا، وما هي الرهانات المقصودة؟
صدر كتاب “حماية حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة”- واقع ورهانات في عام 2018 عن (موفم) للنشر- الجزائر. هي دراسة قانونية أكاديمية تتناول أهم إشكالات حماية حقوق الإنسان أثناء النزاع المسلح، الدولي وغير الدولي، في وجود ترسانة من القوانين الدولية والوطنية، سواء تعلق الأمر بقواعد القانون الدولي الإنساني المطبقة مبدئيا أثناء النزاع المسلح، أو قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، التي تسري ضمن شروط معينة أيضا أثناء النزاع المسلح، وفي وجود قواعد القانون الجنائي الدولي، المنوط بها تأطير مجال المتابعة القضائية عن انتهاكات حقوق الإنسان وردعها. هذا البحث يضع حماية حقوق الإنسان على الميزان، بين كفتي القانون وواقع تطبيقه، لا سيما مع “التّسييس” المتزايد لقضايا حقوق الإنسان في العلاقات الدولية، وتطور تقنيات القتال وأشكاله، وتضمّن الكتاب رصدا لبعض الحالات الواقعية، وتقديم توصيات قانونية وأخرى عملية، وهذا هو الرهان الحقيقي، أيّ ضمان أكبر قدر من الحماية لحقوق الإنسان أثناء النزاع المسلح، مع مختلف المؤثرات، وعلى رأسها السياسية والميدانية، التي يفرضها واقع العلاقات الدولية، وكذا تداعيات النزاعات المسلحة.