من قلب جنوب الجزائر، بولاية المغيّر حاليا ــ الوادي سابقا ــ إلى قصر زيغود يوسف بالجزائر العاصمة، مسافة طويلة اختصرت نضالا سياسيا لامرأة مكافحة، لتستمرّ رحلتها النيابية التي انطلقت سنة 2017، تحت قبّة البرلمان، إلى اليوم صعودا إلى غاية الطابق الرابع ببناية المجلس الشعبي الوطني، هي صليحة قاشي، التي تشغل حاليا منصب نائب الرئيس ابراهيم بوغالي، هي الوحيدة من بين “نون النسوة” التي تتقلّد حاليا هذه الرتبة، رفقة 8 زملاء محسوبين على صنف الرجال.
هي واحدة من بين بنات الصحراء، أو بنات العرجون، اللاّتي تغنّى بهن الفنّانون وبجمالهن الرّوحي والجسدي، خرّيجة المدرسة العليا للأساتذة بورقلة، علوم فيزيائية، حيث اشتغلت أستاذة للمادة بمنطقتها، لكنّها كانت قد انخرطت في العمل السياسي، فاختارت أن تكون “حمامة السّلام”، ضمن “الحمائم البيضاء”، حيث أطلق عليهنّ الفقيد هذه التسمية، نظير رسالتهن التي كلّفن بها، والتي تحمل في طيّاتها إحلال السّلام وتبرئة الدين الإسلامي من كل تطرّف وعلو، خاصة في تلك الحقبة من الزمن التي عرفتها بلادنا.
وبالرّغم من المحيط المحافظ بالولايات الجنوبية، قرّرت صليحة الذّهاب بعيدا في نضالها، كامرأة، والصّمود في وجه كلّ العوائق، التي تقف حجر عثرة في طريق الجنس اللطيف، وتمنعها من اقتحام عالم السياسة، وما أدراك ما هذا العالم الذي استعصى حتى على بعض الرجال، ووصلت صليحة لتقلّد منصب أمينة بلدية نسوية لعهدتين بمقر بلديتها، بدأت من خلالها أولى الخطوات، التي قادتها مرة أخرى لشغل منصب عضو مجلس شعبي بلدي في الفترة بين 2012 و2017، هذه التجربة التي أكسبتها خبرة، جعلت طموحها يزداد يوما بعد يوم، ويتدحرج مثل كرة الثّلج، وهي تقاوم بكل بسالة حرارة الجنوب الكبير.
اقتحام عالم النّيابة
تجربتها في التسيير، سمحت لها الدّخول لمعترك تشريعيات 2017 بكل ثقة، لتنجح في أوّل عهدة لها كنائب بالمجلس الشعبي الوطني في العهدة التشريعية الثامنة، اكتشفت خلال تلك الفترة عالم “النيابة”، كممثلة لساكنة الوادي، وعرفت ما هو التّشريع والقوانين، وواكبت مناضلي الأحزاب السابقة الذّين عمّروا في المبنى التشريعي لسنوات، وصلت حدّ ربع قرن من الزمن، حيث اكتسبت قاشي من خلال احتكاكها مع الجميع، تجربة كبيرة في مهمتها النيابية، التي اقسمت بأغلظ الأيمان على أن تكون أهلا لتلك المسؤولية التي ألقيت على عاتقها.
استمرّت صليحة في عملها، وهي تتنقّل داخل المبنى البرلماني كنحلة تارة تدخل “غرفة العمليات” لكتلتها البرلمانية، وتارة أخرى تلج قاعات الجلسات لعرض التدخلات أمام الوزراء، ومساءلتهم شفويا وكتابيا، وقد ظلت على ذلك النحو لغاية صدور قرار حلّ المجلس في سنة 2021، في إطار تجديد مؤسّسات الدولة وإعادة بناء الصّرح المؤسّساتي على أنقاض صرح متهالك ومتهلهل بناه النّظام السّابق.
هنا قرّرت بنت الجنوب، التي ذاقت حلاوة النيابة، ومرارة المسؤولية مواصلة المشوار، بالتّرشّح لعهدة ثانية وأخيرة طبقا للدستور الذي يمنع النواب شغل الكراسي الخضراء بالمجلس لأكثر من عهدتين، وفعلا عادت صليحة مجدّدا لمقاعد البرلمان، وجدّد أهلنا في المغيّر ــ بعد التقسيم الإداري الجديد وإضافة 10 ولايات جنوبية ــ الثقة فيها بالرّغم من زوال نظام “الكوطة” أو الحصص، الذي كان يتيح للمرأة الوصول إلى المجالس المنتخبة بكلّ أريحية، وكما كان الحال صوّت عليها الجميع، إيمانا منهم بأنها صاحبة كلمة وهدف، لخدمة أبناء المنطقة الّذين يعانون التّهميش منذ عقود طويلة.
الصّعود من دون مصعد
عادت صليحة إلى البرلمان، لكن ليس كما المرة السابقة، بل صعدت من دون مصعد كهربائي إلى الطّابق الرابع، وجلست على كرسي نائب رئيس المجلس الشّعبي الوطني، في الفترة التشريعية التاسعة، حيث أخبرتنا أنّ المسؤولية زادت وتوسّعت، بل أصبحت تثقل كاهلها، ولم تعد مجرّد نائب عن ولاية المغيّر تمثّل ولايتها فقط، بل باتت تحمل هموم 58 ولاية بحكم تعاملها مع الجميع اليوم، وأضحى مكتبُها مزارا للجميع، من قبل نوّاب، مواطنين، جمعيات، فدراليات، هيئات، وحتى موظّفي المجلس ــ وباتوا بمثابة الولاية رقم 59 ــ الذين شهدوا لها بتواضعها في التعامل معهم، وأكّدوا أنها باتت مقصد الكثير منهم لحلّ مشاكلهم الادارية، وبأنّها لا تتوانى عن فعل ذلك بصدر رحب.
ولخّصت المرأة الخمسينية كلامها عندما سألناها حول ما هو الفريق بين نائب بسيط، ونائب رئيس المجلس الشعبي الوطني، بالقول “هي زيادة المهام وضخامة المسؤولية، خاصة وأنا مكلفة بالتكوين، والإشراف على تنظيم دورات تكوينية للنواب من أجل كسب بعض المهارات حتى نجعل ممثل الشّعب يؤدي مهامه بدور احترافي”.
وأضافت تقول “في المنصب الحالي، أنا لا أنقل انشغالات ولايتي فقط بل انشغالات ساكنة كل ولايات الوطن، وأتولّى مهام ضبط مواعيد مع الوزراء للنواب، نقل انشغالات النواب الحاليّين والسابقين وغيرها من المسؤوليات، فضخامة المسؤولية أعتبرها مهمة لابد وأن أنجح فيها”.
الحنين إلى “الكوطة”
في خضم الدردشة معها، حول التمثيل النسوي في العهدة الحالية الذي تقلّص، تعتقد صليحة أنّ “الكوطة” بما فيها من سلبيات، لكنها كانت فرصة لإبراز طاقات نسوية صنعت الفارق خلال العهدة الماضية.
أمّا عن تقاطع مهامها البرلمانية وحياتها الشخصية، بحكم أنّها امرأة، أخبرتنا بنت العرجون، أنّها مسؤولية مضاعفة أكثر من مرّتين، بحكم مسؤوليتها عن البيت وتربية الأبناء، وهي سيّدة متزوّجة وأمّ لطفل يدرس في السنة الثالثة ابتدائي، والذي يحتاج لمرافقة دائمة له.
وأخيرا وليس آخرا، تمنّت ابنة الاستقلال، التوفيق في المهمة، وأن تكون بمعيّة زملائها وزميلاتها، مفاتيح خير على الجزائر، للمساهمة في تحقيق آمال وطموحات كل الجزائريين والشهداء، وهي التي رأت النور ذات الـ 5 جويلية من سنة 1971.