تحوي تبسة أكثر من 50 في المائة من الآثار الموجودة في الجزائر، حسب المواقع المصنفة بـ27 موقعا مصنفا ضمن التراث الوطني، بالإضافة إلى مواقع أخرى سجّلت ضمن الجرد الإضافي، وظلّ وسط مدينة تبسة «شاهد تاريخي» على تعاقب الحضارات القديمة، حيث إن كل زائر للمدينة يكتشف سحرا مميزا من طراز المدن الأثرية العالمية تضاهي أقدم المعالم التاريخية في القارات الخمس.
«قوس كركلا» المخرج الرئيسي للسور البيزنطي يضفي جمالا طبيعيا، وصمود القرون الطويلة في وجه المتغيرات الطبيعية والإجرام المنظم للنهب، لا يزال شامخا يعانق تاريخ تيفاست القديمة وتبسة الجديدة منذ القرن الثالث الميلادي، ومعبد «ليبازيلك» من القرن الرابع ينتظر وعود وفود وزارية وولاة متعاقبون باحتضان تظاهرة فنية وطنية أو عالمية لم يتحقق منها شيء إلى يومنا هذا، يرافقه أمل التبسيين في استرجاع بريق الحضارات القديمة بمدرجات المسرح الروماني الذي يتعرض للتدهور يوميا، بالرغم من تحرّك الوصاية في عمليات التنظيف والتسييج..
نهب وبناءات فوضوية
كادت تبسة الخالية بأعالي منطقة الميزاب أن تتعرّض للنهب من طرف مافيا العقار والبناءات الفوضوية، التي أتت على جزء كبير منها والتي شيّدت قبل العاصمة «لامباز» في تاموقادي «تيمقاد ولاية باتنة حاليا في القرن الـ69 ميلادي، ومعبد «مينارف» الذي حوّل سنة 1920 إلى متحف للتحف الأثرية، ومنطقة قسطل ببلدية عين الزرقاء التي أضحت محط أطماع كبيرة لشبكات النهب المنظمة، بالإضافة إلى معصرة الزيتون القديمة ببرزقان بالماء الأبيض ووادي الجبانة ببئر العاتر، لتشكّل المواقع الأثرية ومنها «الهناشير» 54 نقطة مصنفة وطنيا وأخرى في قائمة الجرد الإضافي، على مستوى 28 بلدية بالولاية تنتظر عملية التصنيف تقابلها إجراءات إدارية معقدة ولا تكتسب أولوية في مخططات الوزراء المتعاقبين على قطاع الثقافة.
مواقع تحتاج لالتفاتة ملموسة
شهدت السنوات الأولى من الاستقلال إلى غاية سنة 2000 محطات إهمال خطيرة للمواقع الأثرية التي مثلت للجارة تونس موردا سياحا مدرا للربح، ويضخ نسبة معتبرة من الأموال في خزينة الدولة من خلال اقتران هذا الموروث التاريخي بمقومات الاقتصاد السياحي، كما عرفت فترة العشرية السوداء توسعا كبيرا لشبكات نهب التحف وتهريب الآثار.
تملك تبسة أكثر من 2000 موقع أثري ما يجعلها تحتل المرتبة الأولى وطنيا، من حيث كمية ونوعية المعالم الأثرية، إلا أن معظمها عرضة للإهمال بسبب طبيعة هذه الآثار التي تتزاوج والنسيج العمراني للمدينة، ما يجعل العنصر البشري السبب الأهم في تدمير هذا الموروث التاريخي الذي يشهد على تعاقب الحضارات المختلفة على هذه المدينة العريقة، ما يستوجب.
«البازيليك» ضمن حسابات الوصاية
وبالرغم من المجهودات المبذولة لتهيئة المواقع الأثرية على مستوى دائرة الممتلكات الثقافية بمدينة تبسة، إلا أنها لا تكفي لتغطية كل هذا المواقع الأثرية أو حتى المهمة منها، يقول مجدي عزالدين مسؤول المتاحف والمواقع الأثرية بتبسة أنه تمّ وضع دراسة لحماية الموقع الأثري «البازيليك» الذي يعدّ من أكبر البازيليك في شمال إفريقيا، مشيرا إلى أنه سيتمّ التدخل من أجل حمايته بإقامة سياج محيط بالموقع من الجهة الخلفية، بطريقة تقنية دون المساس بطبيعة الموقع الأثري والمحافظة على تفاصيله، كما سيتمّ تثمين هذا المعلم وترميمه وتركيب إنارة تتماشى مع العناصر المعمارية الايكولوجية للموقع.
شيد البازيليك في القرن الرابع ميلادي، وما يميزه أبراج المراقبة، وكنائسه الأربعة، إضافة إلى سرداب «سانت كريستين» أو ما يعرف بـ»الكاتاكومب»، ونظرا لأهمية هذا الموقع الكبير وتصنيفه ضمن التراث الوطني، يعمل الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات على تجسيد المشروع الخاص بإعادة الاعتبار لهذا الموقع، من خلال التأمين والتنظيف وكذا التوعية والتحسيس.
وفي ذات الصدد، انطلقت منذ سنة 2015 مشاريع هامة لتهيئة محيط السور البيزنطي بوسط مدينة تبسة وساحة النصر «كور كارنو»، من خلال عملية سمحت بالكشف عن مقومات جمالية للمكان لاقت استحسانا كبيرا للسكان وبات عامل جذب للزوار.
سرداب سانت كرسبين
يقع سرداب سانت كرسبين بالموقع الأثري البازيليك بتبسة على بعد 460 متر من السور البيزنطي وقوس النصر كركلا، شُيّد السرداب في القرن الثاني للميلاد فيما يقول بعض المؤرخين أنه أنجز في الفترة البيزنطية، يمتد على طول 200 متر بارتفاع 1.5 متر وبعمق 9 أمتار تحت الأرض.
الملاحظ في سرداب سانت كريسبين، أنه أنجز بطريقة مقوّسة وذلك لتحمل الثقل الموجود فوقه، حيث فكر الأشخاص الذين أنجزوا هذه السراديب في المادة التي يصنع منها والتي يغلف بها السرداب، وهي الطين المقوى بالحجارة ما أعطى للجدران والسقف صلابة وأمان، والدليل على نجاعة هذه الهندسة هو انعدام أي انهيارات على طول السرداب بعد أكثر من 2000 سنة من إنجازه.
البعد الروحي للسراديب
أثبتت الدراسات والنقاشات عدم وجود أي إشكالية في اختيار الأرضية لبناء البازيليك في القرن الرابع ميلادي، حيث تمّ مباشرة بناء الكنيسة فوق السراديب التي كان لها بعد روحي آنذاك، ففي القرن الثاني والثالث ميلادي كانت هذه الأماكن مخصّصة لنشر الديانة المسيحية، ومن المعروف وقوع ضحايا في سبيل نشر المسيحية في ذلك الوقت، ومنهم القديسة كرسبين وقبلها بثمان سنوات الفارس ماكسمليانو من أبناء تبسة الذي تمّ قتله وصلبه.
تمّ اكتشاف هذا السرداب خلال فترة الاستعمار الفرنسي سنة 1944 ووجدوا أنها سراديب وأماكن للعبادة في ذات الوقت، أين عثروا على أول مكان للعبادة بوسط السرداب وهو عبارة عن صليب وبه مكان قربان، وبعد البحث وجدوا عائلة مدفونة يرجح أن تكون لعائلة حاكمة اعتنقت المسيحية.
وبعد فتح السرداب الذي يبلغ طوله حوالي 200 متر عثروا في آخره على خمس قبور لخمسه نساء، من بينهن القديسة كرسبين بالرغم من أنه لم يتمّ إعدامها في هذا المكان، بل أعدمت في فورم تبسة إلا أنه تمّ نقل جثمانها ودفنها في السرداب.
استراتيجية وتصور لتثمين السرداب كمنتوج سياحي
منذ اكتشاف السرداب سنة 1944، إلا أنّه بقي مغلقا ومسدودا، ولم يتمّ التصرّف فيه خاصة خلال العشرية السوداء، ليتم فيما بعد وضع استراتيجية وتصور جديد لتثمين هذا الموقع وتحويله لمنتوج سياحي من طرف وزارة الثقافة والسياحة.
وفي ذات السياق، تمّ جلب خبراء لمعرفة طبيعة الموقع، وهل يمكن للزوار استغلال هذا المكان حفاظا على سلامتهم، حيث أن أول ما لاحظه الخبراء أنه لا يوجد أي انهيارات بالموقع رغم مرور آلاف السنين على انجازهم بسبب اختيار نوعية الأرضية لحفره، ففتح هذا المعلم مرهون بإتمام الإجراءات التقنية الخاصة بهذه العملية من ناحية التأمين والإضاءة وإعداد كل التجهيزات الخاصة، ليتوفر هذا المعلم على كامل المواصفات المعمول بها لاستقطاب الزوار.
فتأمينه وتهيئته وفتحه أمام الزوار سيكون قفزة نوعية وخطوة مهمة في تاريخ تسيير المواقع الأثرية على مستوى الوطن، وذلك لانفراد هذا النوع ببازيليك تبسة، حيث يوجد سراديب في مواقع أثرية أخرى عبر التراب الوطني، لكن ليس بطول سرداب سانت كرسبين وخصوصيته وطريقة انجازه ومواصفاته حسب ما أفاد به الخبراء.
ضعف الترويج الإعلامي للسياحة الثقافية
يجمع المختصون في الاقتصاد السياحي، أن الإعلام الترويجي للسياحة الثقافية ومنها المواقع الأثرية، هو العمود الفقري لعرض وفرض جاذبية هذه المقومات المهملة على خلفية ضعف كبير في سياسة الإعلام السياحي بجميع صيغه، سيما منها الملتقيات والتواصل الذي يعتمد على التكنولوجيات الحديثة في الاتصال، بحيث غابت نهائيا تظاهرات عرض هذه الإمكانات الهائلة لبعث طريق للاقتصاد الثالث بعد الفلاحة والبترول.
ويبدو اليوم، أنه من الأهمية بما كان، أن تتحرّك الجهات المعنية لتطوير وسائل وتقنيات الحماية والرفع من مستوى التغطية الأمنية لمرافقة أجهزة الشرطة والدرك وحرس الحدود والجمارك، وتفعيل دور المجتمع المدني لتبني قناعة اعتبار الموروث الحضاري من ذاكرة الأمة، ويشكّل أحد مقومات الاقتصاديات العالمية المتطوّرة التي تعتمد السياحة الثقافية عمودا فقريا في تحقيق تنمية مستدامة، من أجل مخطّط صلب وجدار منيع في الحفاظ على ذاكرة الأمة على الصعيدين الأمني والمجتمع المدني للتحرّك ضد الاعتداء الصارخ على قانون حماية البيئة والمحيط المرتبطة بالمعالم الأثرية.