اقتصاد المعرفة، اقتصاد العلم، knowledge economy، الاقتصاد غير المادّي، الاقتصاد المعلوماتي، أو ما بعد الفوردية؛ - كما يفضّل منظرو الرأسمالية المعرفية تسميته... كل هذه المصطلحات تدلّ على الاقتصاد الحديث بالمعنى الدّقيق الذي يركّز على إنتاج المعرفة وتوزيعها.
استخدم مصطلح «اقتصاد المعرفة» لأوّل مرة من قبل الاقتصادي النمساوي الأمريكي فريتز ماكلوب (Fritz Machlup) الذي ألّف كتابا في عام 1962 بعنوان «إنتاج ونشر المعرفة في الولايات المتحدة» معتبرا إياه أوّلَ دراسة منهجية تتناول المعرفة من منظور اقتصادي.
وإذا كانت الملكية الفكرية لمصطلح «اقتصاد المعرفة» تنسب إلى ماكلوب، فقد وضع خريجو جامعة فيينا الثلاثة: جوزيف شومبيتر (Joseph Schumpeter) وفريدريك هايك (Friedrich Hayek) وفريتز ماكلوب أسُس هذا الاقتصاد؛ ذلك أنّ الدّور المفتاحيّ في اقتصاد المعرفة تلعبُه المعرفة، والأصول غير المادية؛ وبخاصّة رأس المال الفكري؛ حيث يصبح العاملون في مجال المعرفة القوّةَ الإنتاجيةَ الرئيسة للمجتمع. وبهذه الطريقة؛ يتجلّى هذا الاقتصاد وتتّضح معالمه عندما تصبح المعرفة نفسُها منتجًا في السّوق؛ أي: منتجًا للشّراء والبيع له قيمته وأهمّيته، حينئدٍ؛ يُنظر إلى المعرفة على أنها: ناتج نشاط، ومنتج كامل قابل للاستهلاك، وعامل إنتاج ومضاعفة للأرباح، ووسيلة تسيير، ووسيلة لتخزين المعلومات الفكرية، ووسيلة للتوزيع والانتشار أو وسيلة للمعاملات في السوق...
وضمن هذا السياق يعتبر البنك الدوليّ أنّ اقتصادَ المعرفة يجب أن يُفهم على أنّه ذلك الاقتصاد الذي ينشئ المعرفة وينشرها ويستخدمها لتسريع نموّه وزيادة قدرته التنافسيّة. ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE، 1996م)؛ فإنّ عصر اقتصاد المعرفة هو العصر الذي يعتمد فيه الأداء الاقتصادي للبلدان بشكل متزايد على المعرفة والتعليم، والمعلومات والتكنولوجيا.
لا شكّ في أنّ مسألة «ما إذا كان اقتصاد المعرفة قد أصبح يشكّل حقبة جديدة من التنمية الاجتماعية»؛ والتي حلّت محل العصرين الزراعي والصناعي؛ لا تزال موضع نقاش؛ إذ لا يبدو أنّ التعريفات المقدّمة لاقتصاد المعرفة لديها قوّة الأدلّة التي من شأنها أن تحلّ محل التصنيفات الحالية لأنواع النظم الاقتصادية: التقليدية، والسوقية، والمخطّطة، وأكثر من ذلك؛ التكوينات الاقتصادية التي صنّفها كارل ماركس إلى: العبودية، الإقطاعية، والرأسمالية.
تدور المناقشات النظرية لاقتصاد المعرفة بشكل أساس حول دوره ومكانته في المجتمع الحديث؛ إذ يعتقد عدد من الخبراء أنّ اقتصاد المعرفة يختلف اختلافًا كبيرًا عن اقتصاد المجتمع الصناعي؛ الذي يرتبط فيه تراكم الثروة بالأصول المادية؛ فهم يرون بأنّ رفاهية الإنسان تقوم على الأصول غير المادّية؛ أي: المعرفة والدّراية والخبرة؛ ومع ذلك؛ فإنّ تقييم رأس المال لا يستدعي العمل في شكله الصناعي الكلاسيكي بقدر ما يتطلّب المعرفة كعاملٍ حاسمٍ في خلق القيمة السوقيّة.
المعرفة والعلم والمعلومات: تحديد المصطلح:
يُحيل اصطلاح Knowlegde إلى مصطلحين مترادفين: المعرفة والعلم، ووفقا لذلك، يصبح لدينا مشكلة في التعريف: فما الذي نقصده؟
من وجهة نظر فلسفية؛ هناك نوعان من المعرفة: المعرفة المقنّنة القابلة للفصل عن الشخص؛ والتي يتمّ تخزينها ونقلها باستخدام وسائط معينة (ورقية، إلكترونية...) أي: المعرفة العلمية المبنية على أساس العقل والملاحظة، في مقابل المعرفة التي لا تنفصل عن الشخص، والتي تنتقل أثناء عملية التّواصل (الإحساس، والعاطفة..)
تاريخيًا؛ حَدَّ فلاسفة العصور القديمة أمثالَ: سقراط، أفلاطون، أرسطو، بيكون، كانط، هيجل... وآخرين التعاريفَ الأولى للمعرفة ضمن أعمالهم؛ كما اعتبروا أنّ المعرفة تتراكم وتشفِّر القوة الاجتماعية للفرد، أمّا سميث؛ فقد شدّد على أهمية الوظائف المرتبطة بإنتاج المعرفة المفيدة اقتصاديًا؛ فيما اعتبر مارشال أنّ المعرفة عامل ضروريّ في تنفيذ نشاط ريادة الأعمال، ولاحقًا - بعد أن أيّد كوندراتييف (Kondratiev) نظرية الدورات الاقتصادية العظيمة- ربط الانتقال إلى دورة اقتصادية جديدة بموجة من الاختراعات والابتكارات. وأخيرًا؛ وسّع ماكلوب الرؤية إلى اعتبار المعرفة «knowledge» مصطلحا يشير إلى ما هو معروف «that which is known» وما نعرفه «our state of knowing» وفي هذا، يوازن بين المعرفة والعلم؛ فالمعرفة هي محصّلة الإنتاج الذي يستدعي الحدس والاكتشاف؛ إذ تُعدّ فرديّة وشخصيّة يصعب التعبير عنها أو نقلها. أما العلم؛ فهو أقرب بكثير إلى الخبرة والممارسة التي يمكن الحصول عليها ونقلها. ومع الارتقاء قليلاً في الرؤية، يمكننا أن نرى بوضوح أنّ الوضع الاقتصادي الحالي يرتبط بالمعرفة أكثر ممّا يرتبط العلم.
كان كينيث أرو (Kenneth Arrow) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1972م؛ أوّل من ساوى المعرفة بالمعلومة؛ ومع ذلك؛ فإن التمييز بين المعرفة والمعلومة يجعل من الممكن تحديد المعلومة باعتبارها مجموعة من البيانات والرسائل التي تمّ تفسيرها بالفعل؛ والتي ربّما أعطت معنى؛ في حين أنّ المعرفة هي قدرة معرفية، ونتاج استخدام المعلومات. فمجتمع المعرفة هو في الواقع مجتمع معلومة؛ إذ يشكّل تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتّصال (TIC) دعما رئيسا (مخرجات) لإنتاج وتوزيع المعرفة والعلم، وتعدّ تكنولوجيا المعلومات والاتّصال عندئذ أدوات للتصميم والمحاكاة والنّمذجة والحساب والتصوّر والمعالجة، وفي النهاية؛ يشكّل إنتاج المعرفة وتوزيعها واستخدامها أساس اقتصاد المعرفة ويصبح الويب بُنيَتَهُ التّحتية.
هل المعرفة مجال لإنشاء الثروة؟
بدءًا من فكرة روبرت سولو (Robert Solow) يمكن تفسير التنمية الاقتصادية من خلال ثلاثة معايير: رأس المال (الاستثمار)، ساعات العمل (الإنتاجية) والتقدّم التقني؛ حيث يرتبط هذا الأخير بالابتكار؛ كما يرتبط عضوياً بالتعليم والتكوين والبحث والتطوير.
وحسب جوزيف شومبيتر، مؤلف كتاب دورات الأعمال في عام 1939، ومن خلال أعمال كوندراتييف؛ تتوافق كلّ مرحلة من مراحل دورة النمو الاقتصادي أو اتّجاه النموّ مع تطوّر ابتكار رئيسٍ. وهكذا؛ حدّد تشومبيتر ثلاث مراحل: الأولى (1792-1815م) شهدت انطلاق صناعة الصلب والمنسوجات، والثانية (1847-1873) توافقت مع تطوّر السّكك الحديدية، والثالثة (1896-1920) تعود إلى عهد الكهرباء. ويمكن أن تُتبعَ هذه المراحل بالمرحلة الرابعة (1945-1975) من تطوير قطاعي السيارات والبترول، ثمّ بداية التوجّه إلى المرحلة الخامسة في أواخر التسعينيات مع تطوّر الإنترنت. إنّها الثورة الصناعية الثالثة؛ كما يسمّيها جيريمي ريفكين (Jeremy Rifkin) التي تأسّست على تقارب تقنيات الاتّصال والطاقات المتجدّدة؛ والتي أدّت إلى شكل جديد من أشكال الاقتصاد، وإلى اضطرابات عميقة؛ لإنشاء سوق جديد وسلسلة قِيَمٍ جديدة قائمة على الإنترنت الذي يعمل على الإبداع والاستقلالية والابتكار المفتوح والموزّع. واقتصاد المعرفة يقوم على ديمقراطية الابتكار؛ فالكلّ لديه القدرة على الإنتاج والاختراع والابتكار، إنّه المفهوم المشترك مع قيم التعاون والمعاملة بالمثل؛ وعلى هامش الاقتصاد الكلاسيكي للإنتاج والخدمات تظهر طرق جديدة للفعل؛ وبالتالي للعمل، إنّه عصر التصنيع حسب ميشيل لالمان (Michel Lallement).
ونتيجة لذلك؛ يمكننا القول: إنّ هناك علاقة متبادلة بين النموّ والتقدّم التقني؛ إذ ينبع هذا الأخير من الزيادة القوية في الاستثمار في مجال الابتكار وإنشاء المؤسسات السياسية والاجتماعية المواتية لاقتصاد المعرفة.
في حالة الجزائر، يعدّ المصدر الرئيس للنموّ الاقتصادي هو الاستثمار في الأصول الثابتة، وسيستمرّ هذا الوضع على الأمد القصير جدًا؛ لأنّ البلاد أصبحت تواجه مهامًّا تختلف اختلافًا أساسيّا عن مهامّ الدول المتقدمة؛ إذ بات يجب علينا تحديث الإنتاج، زيادة الصناعات عالية التقنية بشكل كبير، وبناء المساكن، وإنشاء البنية التّحتية الحديثة للنقل والخدمات اللوجستية، وتطوير الطرق السّريعة والسّكك الحديدية عالية السرعة؛ ومع كل ذلك؛ فقد أصبح النموّ الاقتصاديّ القائم على المعرفة يجذب انتباه السلطات العامّة، كما أصبح مصدر اهتمام في ظل إنشاء وزارة منتدبة مسؤولة عن اقتصاد المعرفة والشركات الناشئة.
لماذا نستثمر في اقتصاد المعرفة وكيف؟
إنّ اقتصاد المعرفة ليس متغيرًّا بسيطًا يغذي نمطًا من أنماط تنظيم الدولة؛ ولكنّه يشمل أيضا المؤسسات والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ ولذلك؛ فهو خيارُ مجتمعٍ مؤطَّر بأشكال هيكلية تحكم توليد وتراكم وتعزيز رأس المال غير المادي؛ إذ يعتمد الانتقال إلى هذا الاقتصاد القائم على التقدّم في تكنولوجيا المعلومات والاتصال والمعرفة في المقام الأول على الاستثمار في مدخلات المعرفة؛ ذلك أنّ المنافسات القائمة بين الاقتصاديات الحالية قد أصبحت تدور حول القدرة على إنتاج المعرفة، والقدرة على الابتكار.
وفقًا للمتخصّص في الإدارة الأمريكية مايكل بورتر (Michael Porter) يعتمد اقتصاد المعرفة على دوائر مبتكرة مثل السيليكون فالي» Silicon Valley» ويقاس الجهد الاستثماري لبلد ما في هذا المجال بمجموع الإنفاق على وجه الخصوص في البحث والتطوير، البرمجيات، الصحة والتعليم، وبكلّ ما يتعلق برأس المال البشري. ويشمل التعليم هنا التكوين الأولي (المدرسة والجامعة) ويمكن أن يمتدّ إلى التكوين المستمرّ، والتعليم غير الرسمي، ويتمّ التعبير عن الاستثمارات في قطاع المعرفة بشكل عامّ كنسبة مئوية تقريبية من الناتج المحلي الإجمالي. فبالنسبة لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوربية؛ يمثل الاستثمار حوالي 4.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي (باستثناء التعليم العالي، فهو يتجاوز 10٪ من إجمالي الناتج المحلي) هذا المؤشر نجده أعلى في الولايات المتحدة والسويد وكوريا الجنوبية وفنلندا (5,2 إلى 6,5٪ من الناتج المحلي الإجمالي) وأقل في المكسيك واليونان والبرتغال (أقل من 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي) إذ يهيمن اقتصاد المعرفة على تكوين الناتج المحلي الإجمالي: ويعدّ محدِّدا للنمو الاجتماعي والاقتصادي بنسبة 60 إلى 70٪ في البلدان المتقدمة.
وفي الجزائر؛ حيث يتمّ تراكم جزء رئيسٌ من الناتج المحلي الإجمالي بفضل عائدات المحروقات، هناك مستوى منخفض من النشاط في البحث والتطوير والابتكار، حيث كانت المصاريف بشكل أساسٍ على الأموال العامة من خلال الصندوق القومي للبحوث (FNR) وكانت حوالي 118 مليار دينار جزائري، أو مليار دولار (دون رواتب الموظفين) أو
0.006 - 0.087٪ من الناتج المحلي الإجمالي من سنة 2000 إلى 2018م؛ وفقًا لبيانات المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي (DGRSDT ، 2019 م)
ويعدّ هذا المستوى من الإنفاق منخفضا بشكل ملحوظ مقارنة بالمعايير الدولية لتطوير الابتكار.
ووفقًا لمؤشر الابتكار العالمي لعام 2019 IMI تحتل الجزائر المرتبة 113، برصيد 23.98 درجة على مقياس 100 من بين 129 دولة تمّ تقييمها من قبل منظمة الملكية الفكرية العالمية (الويبو) إذ يعدّ أكبر ثلاثة مبتكرين عالميين على التوالي هم: سويسرا، والسويد، والولايات المتحدة الأمريكية بـ: 67.24 و63.65 و61.73.
يُظهر أداء تكنولوجيا المعلومات والاتّصال في الجزائر حسب احصائيات 2019 تأخرًا مقارنةً بالدول المتقدمة؛ وعلى هذا النحو؛ يؤكّد عديد المختصين على وجوب تعزيز الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصال، واستخدامها، واستخدام الخدمات الحكومية عبر الإنترنت؛ لأن الدرجات التي تمّ الحصول عليها هي على التوالي: 53.1 و46.3 و21.5 نقطة من أصل 100. وبالتّالي؛ فإنّ نتيجة الابتكار في الجزائر حسب مستوى الدخل في عام 2019، هي أقلّ من المتوقّع؛ فيما يتعلّق بمستوى التنمية؛ ممّا يفرض عددا معيّنا من التحديات التي يجب مواجهتها في اقتصادنا القائم على المعرفة؛ والتي ترتبط أولاً؛ بالمدخلات (الاستثمار في التعليم والبحث والتطوير..) وثانيًا؛ بتأثير الناتج (الإنتاج وتسويق منتجات الابتكار) أي: إجمالي القيمة المضافة لدافعي الضرائب من الصناعات والخدمات التي تستهلك منتجات المعرفة الجديدة، وثالثًا؛ بالبحث والتطوير المؤسّسي؛ وهو نقطة الضعف لدينا؛ إذ يجب إطلاق نظام البحث في المستقبل، ورابعًا؛ بالإطار المؤسّسي؛ لتشكيل نظام ابتكار وطني، وخامسًا؛ بتطوير تكنولوجيا المعلومات والاتّصال. ومن خلال الربط بين تكاليف المدخلات وتكاليف المخرجات في الناتج المحلي الإجمالي؛ أي: مستوى دعم المعرفة واستخدامها في الاقتصاد الجزائري؛ يمكننا تقييم اتّجاه التنمية في هذا القطاع من خلال دراسة الوضع الاقتصادي للدّولة، ومقارنتها باقتصاد البلدان المتقدّمة الأخرى.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاستثمار في رأس المال البشري يعمل لصالح اقتصاد المعرفة؛ نتيجة الاهتمام المتزايد بالأشخاص الحاملين للمعارف والمهارات والخبرات المكتسبة والمحدّدة والمتراكمة من جهة؛ والحاجة إلى تهيئة الظروف لتراكم وتنفيذ هذه القدرات في الممارسة العملية التي من شأنها أن تسمح بالفعل بمكاسب إنتاجية مواتية للنموّ والتوظيف وتحسين حياة السكان من جهة أخرى.
لقد وُجد مفهوم «رأس المال البشري» منذ زمن طويل، وسلّط الاقتصاديون المشهورون الضوء عليه؛ مثل: دبليو بيتي (W. Petty) وأ. سميث (A. Smith) وك. ماركس (K. Marx) وإي فيشر (I. Fisher) وآخرين ... وتمّ تطويره بواسطة شولتز (T. Schultz) وبيكر (G. Becker) ومنسر (J. Mincer) وهنسن (L. Hansen). وعرّف شولتز مفهوم رأس المال البشري على أنّه «مجموعة من موارد العمل غير الملموسة التي تسمح بالتحسين المستمرّ في الإنتاج». وبالنظر إلى نهج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوربية «يغطّي رأس المال البشري جميع المعارف والمهارات والكفاءات والخصائص الفردية التي تسهّل انشاء الرفاهية الشخصية والاجتماعية والاقتصادية». يحتوي هذان الاقتباسان على العناصر الرئيسة التي تشكّل أساس رأس المال البشري. وبالنسبة لبيتر دراكر (Peter Drucker) مؤسّس الإدارة بالأهداف؛ فإنّ العامل الحاسم في العلم هو في قلب اقتصاد المعرفة، ومن ناحية أخرى، يتمّ تضمين مفهوم رأس المال البشري في مفهوم «الإمكانات البشرية»؛ لأنه في كلتا الحالتين يكون لدى الشخص بعض التكوين والصحة والتعليم والأفضليات والقدرات الرئيسة الأخرى. وللوهلة الأولى؛ يكون مفهوم رأس المال البشري أكثر ارتباطًا بالنشاط الاقتصادي، في حين أن الإمكانات البشرية هي مفهوم اجتماعي - نفسي أوسع بكثير، كما يمكن تبسيط هذا التمييز من خلال تعريف رأس المال على أنه إمكانات محقّقة، يعتمد مستوى إنجازها ـ بالطبع- على العديد من العوامل؛ مثل: الحوكمة.
فيما يتعلّق بالجزائر؛ يعتبر رأس المال البشري أحد أهمّ العوامل التنافسية المتاحة للبلاد من حيث التنمية المبتكرة، في هذا الصدد؛ من الضروري عرض حالِ رأس المال البشري الوطني، وتحليل شروط ومتطلبات تكوينه من أجل تحديد الأجزاء الرئيسة لخارطة الطريق للتنمية المبتكرة في الجزائر؛ حيث صنّف مؤشر التنمية البشرية (IDH) الذي أنشأه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الجزائرَ في المرتبة 82 من بين 189 دولة في نسخته السنوية لعام (2019م). وفي المستوى 0.759 يصنف مؤشر التنمية البشرية الجزائر في الكوكبة «العالية». في هذا الصدد؛ يبدو من الضروري تحديد الإجراءات الرئيسة التي ستساعد نتائجها في جذب الاستثمار؛ لتكوين رأس مال بشري جديد يلبي المتطلبات الحديثة لاقتصاد المعرفة، ويتعلّق الأمر بـ:
تنمية الإمكانات البشرية في مجالات التعليم والتكنولوجيا والابتكار، وإصلاح المشهد التعليمي؛ من خلال إجراءات لصالح النجاح الأكاديمي والكفاءة والتقييم؛ بما يتماشى مع معايير الأداء، وتجسيد ثقافة الابتكار على جميع المستويات؛
(تحفيز الابتكار في الأعمال التجارية؛ إذ يجب ألا تنظر الشركة إلى الابتكار على أنّه نشاط ثانوي، أو واجب تجاه الدولة؛ ولكن كنموذج للسلوك (مؤشر تجاري) الحيوي لآفاق تطورها؛ ولزيادة الكفاءة وتولّي مناصب قيادية في الأسواق؛ إذ يجب أن تلعب الشركات الجزائرية الكبرى دورًا رئيسًا في اقتصاد المعرفة كما يجب على الشركات إنشاء شركات بحث وتطوير صغيرة؛ خاصة من خلال تمويل رأس المال الاستثماري (في الولايات المتحدّة يتركّز 65٪ من رأس المال الاستثماري في ثلاث ولايات: كاليفورنيا ونيويورك وماساتشوستس).
إنشاء نظام ابتكار وطني يتبنى تدريجيًّا مبادئ التشغيل الرئيسة للدول الصناعية المبتكرة، ويزيد من انفتاحها الدولي.
زيادة الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والاتّصال؛ والتي أصبحت عاملاً في تسريع وتيرة الابتكار، ودعمًا للإنتاج المشترك والتفاعلي للمعرفة، وأداة فعالة لنموّ مخرجات المعرفة، وأداة لتطوير الإبداع ودمقرطة الابتكار.
تعزيز مشاركة المواهب الجزائرية بالخارج في شؤون البلاد، وتنمية التبادل مع البلدان المضيفة.
خاتمـــــــــة:
يرتبط بناء اقتصاد المعرفة بتنمية رأس المال البشري، تكنولوجيا المعلومات والاتّصال، قطاعات التكنولوجيا العالية، موارد الاستثمار، الخدمات، المنافسة، وبالسياسة الاقتصادية الفعّالة والجذّابة. وسيزداد تأثير اقتصاد المعرفة مع نموّه، وبسبب تأثيره المضاعف القوي؛ فإنّ اقتصاد المعرفة يحفّز تطوير الصناعات والخدمات الأخرى عالية الجودة؛ وبالتالي؛ يمكّن من نموّ أسواق جديدة.
إن دفع الاقتصاد الجزائري إلى مسار اقتصاد المعرفة يمرّ بثلاثة نواقل: زيادة الاستثمارات في رأس المال المعرفي (التعليم والتكوين والابتكار) وفي الصناعة؛ من خلال تكنولوجيا المعلومات والاتّصال الوطنية، وأخيراً؛ في الصناعات المعرفية التي توظّف بقوّة التكنولوجيا ورأس المال البشري (الصناعات التحويلية العالية والمتوسطة إلى عالية التقنية، والشركات المبتكرة الصغيرة جدًا، والشركات الناشئة والخدمات).
* أستاذ تعليم عالي في الرياضيات والفيزياء والخبير الاستراتيجي في ت.ع.ب.ع وإدارة التغيير
- جامعة المسيلة -