يبقى المسرح أب الفنون، كونه يجمع الرقص والغناء والإلقاء، يجمع المتعة والفرجة، فإن أردت أن تعرف ثقافة شعب قم بزيارة مسارحه، وقيل “أعطيني مسرحا أعطيك شعبا عظيما”، كل هذا ينطوي تحت ظلال الفن الرابع الذي يسحر العقول بالتفكير العميق، وإن تكلّمنا عن المسرح بالجزائر نحيل الحديث عن عميد المسرح الجزائري ولد عبد الرحمن كاكي، الذي يعد من الجيل الذهبي، سطع نجمه وتألّق على خشبة الفن الرابع، صانعا مجدا لا تمحوه الأيام ولا السنون، ملأ نفوسنا أنسا بحضوره ويقتدي المرء بتواضعه وحيائه، خلّد اسمه من ذهب في ذاكرة الأجيال وولج التاريخ من بابه الواسع، حيث اتخذ من المسرح وسيلة للنضال والكفاح من أجل تغيير حياة المجتمع إلى الأفضل آنذاك.
ولد عبد القادر ولد عبد الرحمن الملقّب بـ “كاكي” في 18 فيفري 1934 بحي “تيجديت” الشعبي بمدينة مستغانم، ينحدر من أسرة ذات حسب ونسب مولعة بالفن والتراث الشعبي، ومنذ نعومة أظافره نما على حب التقاليد البدوية، إذ كان عمه شغوفا بالموسيقى فكان يأخذه معه عندما تقام حفلات المديح الديني التي يديرها المداح الكبير “الشيخ حمادة”، ولذلك لم يتأخر في الانضمام الى إحدى الفرق الكشفية، حتى أصبح بعد ذلك جزءا من فرقة مصطفى بن عبد الله عام 1950، حيث شارك في تدريب خدمة التعليم الشعبي من إخراج هنري كوردان.
الثّقافة الشّعبية في مسرح كاكي
نشأة ولد عبد الرحمن كاكي في حي شعبي جعل للثقافة الشعبية مكانة هامة في مسرحه، كما أن رصيده الفكري والثقافي استلهمه من الحي “تيجديت” الذي ازدهرت فيه الفنون الشعبية الشفوية، ويعتبر الشعر الملحون وقصص المداحين والقوالين الوسيلة الوحيدة للتسلية والتعليم، فاتخذه “كاكي” كعامل جمالي في مسرحياته.
كاكي الرّجل
الباحث عن أفق رحب أضحى أستاذا للدراما، حيث أسس فرقة مسرحية سميت فرقة “القراقوز”، والتي اتخذ فيها أسلوبا جديدا للمسرح يختلف عما كانت تقدمه الفرق المسرحية الفرنسية، وذلك من خلال دمج المسرح بالواقع الثقافي والاجتماعي الجزائري، وهو ما جعله علامة مضيئة في سماء الفن الرابع الجزائري، بل وأحد أعمدته الكبار عبر مسيرة ضخمة تألق فيها كتابة وإخراجا..
تأسيسه فرقة “القراقوز” سنة 1958 غيّر من أسلوب حياته، منحه أسلوبا جديدا اختلف عمّا كانت تقدمه الفرق المسرحية آنذاك، وذلك من خلال دمجه المسرح بالواقع الثقافي والاجتماعي المستنبط من أصالة وجذور المجتمع الجزائري.
روح وطنية ومواقف نضالية
سعى عبد الرحمان كاكي جاهدا لزرع الروح الوطنية والمواقف النضالية عند كافة أفراد المجتمع، حيث لم تكن تهمه السياسة على الإطلاق، كما جاء في بعض كتاباته وأعماله عبارة عن قراءة لواقع الجزائريين آنذاك، باعتباره على دراية بكل ما يجري لأنّه ببساطة ابن بيئته، معتبرا أنه أدى دور الفنان فوق الركح، حيث صوّر وعالج يوميات الجزائريين، كما غذى فن الخشبة بمختلف أعماله التي اقتبسها من المسرح الأوروبي لاتزال آثارها بادية إلى غاية اليوم.
إضافة إلى عدم رغبته بوعي لتأسيس لغة جزائرية بات يطلق عليها “الجزائرية الثالثة”، وإنما جاءت عفوية نابعة من لغة الشارع والعائلة والثقافة الشعبية الجزائرية، التي أفرزت هذه اللغة الغنية بالمفردات والمعاني المشتقة من الأمثال، الحكم، المدائح والشعر الملحون، من خلال معاشرته لأصحابها.
تجربة كاكي في مسرح الحلقة
قدّم ولد عبد الرحمن كاكي الكثير من الأعمال المسرحية التي كان يبحث من خلالها عن مسرح جزائري أصيل وظف فيه التراث وعناصره، وقد اعتمد في تجاربه سواء في الكتابة أو في مستوى الإخراج على استعمال الحيز الفضائي المستوحى من الحلقة، باعتباره من الأشكال التعبيرية الواسعة الانتشار من جهة والراقية الأسلوب من جهة أخرى.
وتظهر أسباب توجه “كاكي” إلى أشكال التعبير الشعبي إلى محاولته تأصيل هذا الفن، والحفاظ على تلك الأشكال المسرحية التقليدية من الزوال.
وقد اتّخذ كاكي لأجل خلق علاقة بين المسرح والجمهور العرض الشعبي المتمثل في مسرح الحلقة، مستعينا بشخصيتي “القوال والمداح”، اللذين كان لهما الفضل في إعادة الاعتبار لهذا الشكل الفني العريق، حيث يرفض كاكي الشكل الدرامي الأرسطي كمحاكاة لفعل مضى ومحاولة إعادته إلى الحاضر بمشاركة الجمهور العاطفية، ويرفض سرد الفعل في العرض لمشاركته الجمهور العقلية، حيث يعمل “كاكي” على بداية عروضه المسرحية بالمداح الذي يروي الأحداث التي ينقلها من الموروث الشعبي وإعادة تمثيلها.
لقد ساهمت مسرحة الحلقة في التعبير عن شتى القضايا السياسية والاجتماعية، وذلك لسهولة تمريرها للخطابات السياسية والأيديولوجية للجماهير الشعبية، كما ساعد تمسرح الشكل الحلقوي على مد جسور التواصل مع المتلقي، من خلال جمالية شكلها الدائري الذي يتلاءم مع الخلفية الشعبية لهذا المتلقي.
وشكلت القضايا التاريخية مكانة هامة في مسرحه خاصة في مسرحية “132 سنة” ومسرحية “إفريقيا قبل واحد”، حيث عالج قضايا الاستغلال ومراحل الثورة التحريرية وكذا الوحدة الإفريقية، إلى جانب مسرحية “الشبكة” التي ألّفها عام 1957، “السيف” و«الكوخ” عام 1958 و«القراقوز” عام 1960، وتصب معظمها في الميدان الثوري دعما للثورة التحريرية، كما أولى الكاتب اهتماما للمشاكل الاجتماعية بواقعيتها، إلى جانب تحجر العقليات خاصة فيما يتعلق بالعادات والتقاليد البالية، وهذا ما جسّده في مسرحية “كل واحد وحكمه”.
الموروث الأسطوري المحلي والعربي
إنّ استلهام “كاكي” للموروث الأسطوري المحلي والعربي وربما العالمي، كان له الأثر الجلي في فك العزلة بين مسرحنا الوطني وبين هويّته، وأزاح الكثير من العقبات والعراقيل التي وضعها المستعمر الفرنسي ليحول بين الجمهور الجزائري وبين ثقافته العربية والأمازيغية على حد سواء.
أنهت كتابات كاكي المسرحية عهد التبعية للعروض والمسرحيات المستنسخة من التراث الفرنسي، الأمر الذي جعل من كتابات كاكي المسرحية نوعا من المقاومة والتحرر والانعتاق من كل ما هو فرنسي.
إنّ استحضار كاكي للأسطورة لم يكن من قبيل الصدفة أو العبث، ولكنها عملية إبداعية معقدة لا يتقنها سوى كاتب فذ من طينة هذا الأخير، ويعتبر توظيفه لتلك الأساطير التي مضى عليها حقب زمنية كبيرة لسبب أول هو جمالية أدبية واستنطاقية تعطي للنص معالمه الثقافية المرتبطة بهويته، أما السبب الثاني فهو خلق مكان للماضي على خشبة الحاضر وجعل السهم الزمني المستقيم دائرة زمنية تدور حول محور واحد وهو الكاتب لتمكنه من استعادة أي حدث قديم بغية تفعيله لما يناسب الزمن الحاضر.
وفي جانب آخر لم يكن “كاكي” يهمل المسرح الأجنبي، كان متذوّقا مميزا لأعمال رواد المسرح الغربي حيث قلّد وأعطى معنى للاقتباس، كما أدخل العجائبية والغرائبية في بعض مسرحياته ونصوصه، وأنه أحد عشاق المسرحي ستانيسلافسكي، الذي استلهم منه المسرح الملحمي بالتمثيل، واهتمامه بـ “بريخت” الذي يوظف “التغريب”، كما عمد كاكي إلى توظيف النظريتين في مختلف أعماله التي كتبها أو اقتبسها، وتمكن من خلق وتطوير نموذج الحلقة أو ما يصطلح عليه محليا بـ “القوال” لتبدو التجربة في مسرحيته “القراب والصالحين” سنة 1966، فضلا عن عمله النقدي اللاذع “كل واحد وحكمو”، والتي نالت استحسان أهل الشام لدى عرضها في دمشق سنة 1967.
جوائز وتكريمات دولية
من أشهر أعماله “132 سنة” التي عرضت سنة 1963 بحضور الرئيس الراحل احمد بن بلة والثوري الكوبي “تشي غيفارا”، الذي أعجب بهذا العمل الذي يحمل إسقاطا للوضع الراهن بالجزائر سياسيا، اجتماعيا واقتصاديا، إضافة الى “ديوان القراقوز”، “القراب والصالحين”، “شعب الليل”، “بني كلبون”، “كل واحد وحكموا”، “دار ربي”..وغيرها من الإبداعات الأخرى التي ناغم فيها بين التأليف والإخراج.
حظي ولد عبد الرحمن كاكي بالتقدير والاحترام في مختلف العواصم العربية والأوروبية، وحظي بالعديد من الجوائز والتكريمات أبرزها تتويجه بالميدالية الذهبية في القاهرة في نهاية ثمانينات القرن الماضي 1989، وتوفي كاكي في ربيع العام 1995، بيد أنّ بصماته بقيت جلية ويتناقلها المبدعون على نحو لا يزال معه كاكي حيّا، كاكي الذي نافس بيتر بروك المسرحي العالمي الذي يرفض الحضور للجزائر اليوم بعدما علّمه كاكي الاحترام في 1989 بمهرجان عالمي.
وبهذا يبقى عبد الرحمن كاكي علامة مضيئة في سماء الفن الرابع الجزائري، وأحد أعمدته الكبار عبر مسيرة ضخمة تألق فيها كتابة وإخراجا.