- للاتحاد العام للعمال الجزائريين دور في سير الإضراب
- قطاع الأشغال العمومية والمعادن سجلا أعلى نسبة
لبّى التجار كغيرهم من فئات الشعب الجزائري نداء قيادة جبهة التحرير الوطني للقيام بإضراب الثمانية أيام، من 28 جانفي إلى 04 فيفري 1957، لشلّ الاقتصاد الفرنسي وإسماع صوت الجزائر المكافحة في الأمم المتحدة.
كان الإضراب فرصة لإشعار الوفود الدولية في نيويورك بالوضعية القائمة في الجزائر وتعزيز جهود جبهة التحرير الوطني في الأمم المتحدة، وإسقاط الإدعاءات الإستعمارية بخصوص عدم وجود علاقة بين الثوار والشعب.
تجمع الشهادات على أنّ صاحب فكرة إضراب الثمانية أيام هو الشهيد العربي بن مهيدي، وفي دراسة للأستاذة الباحثة نبيلة أرباس من المركز الجامعي مرسلي عبد الله بتيبازة بعنوان» ثمانية أيام والقمع الإستعماري في المنطقة المستقلة 28 جانفي-4 فيفري1957» تؤكد أنّ الإضراب كان إختبارا حقيقيا لوطنية الشعب الجزائري ولفعالية النشاط النقابي الجزائري الممثل في الإتحاد العام للعمال الجزائريين.
وتضيف أنّه وسيلة آلية وظفتها الثورة في سبيل التعبير عن رفض الجماهير الشعبية والعمالية للنظام الإستعماري.
وتشير الدراسة إلى أنّ الإضراب على المستوى العسكري كان كارثيا بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، فقد ألقي القبض على الآلاف من المواطنين، إمّا قتلهم بدون سبب يذكر أو سجنهم، حيث تم تسجيل مفقودين في مدينة الجزائر. إضافة إلى ممارسة التعذيب في قلب العاصمة وتفكيك تقريبا معظم تنظيم المنطقة المستقلة وإعتقال مسؤوليها وحجز كمية هائلة من الأسلحة والمتفجرات ومغادرة لجنة التنسيق والتنفيذ الجزائر.
لكن بالرغم من بشاعة الأضرار التي أصابت التنظيم الثوري جراء القمع المسلط من قبل المظليين الفرنسيين وما ترتب عنه من نتائج سلبية، إلا أنه كان نصرا لجبهة التحرير الوطني على الصعيد السياسي.
وتضيف الدراسة:»بيّنت مدينة الجزائر للعالم بأسره أنّ جبهة التحرير الوطني هي الممثل الحقيقي للشعب الجزائري وهي الوحيدة في المنطقة المستقلة والمدن الأخرى وعلى المستوى الوطني وبرهن على تضامنه مع الثورة ومساندته لها».
وحسب شهادة محمد لبجاوي أثبت الإضراب نضجا سياسيا للشعب الجزائري بإتباعه أوامر جبهة التحرير في إنقطاعه عن العمل، وهكذا عبر فعلا عن وحدة المقاومة الجزائرية والإستجابة الشعبية الواسعة للثورة وتمسّك الشعب بمطلبه الأساسي المتمثل في إسترجاع السيادة الوطنية.
ومن أهم نتائج الإضراب خروج الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحادية عشر والتي أنهت أعمالها، يوم 15 فيفري 1957، بلائحة عبرت فيها عن ضرورة إيجاد الحل السلمي والعادل عن طريق الأمم المتحدة.
قام مسؤولو المنطقة المستقلة للجزائر بتوجيه نداء إلى سكان الجزائر من أجل التزوّد بما يحتاجون إليه طيلة فترة الإضراب، من خلال إصدار رخصة إلى المسؤولين في لجان الإضراب بإستخراج المقادير الضرورية من صندوق الثورة لتقديم الإعانات للعائلات المحتاجة خاصة.
وحسب شهادة المرحوم ياسف سعدي، تكفل أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ بتنظيم الإضراب من أجل إنجاحه، كان ذلك بعد لقائه بالشهيد العربي بن مهيدي في القصبة، الذي أبلغه قرار اللجنة بشنّ إضراب يدوم 8 أيام، ابتداء من إفتتاح دورة الأمم المتحدة.
في هذا الصدد، سلّم بن مهيدي كمية من المال لياسف سعدي من أجل ضمان تموين سكان المنطقة المستقلة، بإعتبار أنّ هذا الأخير هو ابن العاصمة يعرف أهلها جيّدا من فقراء ومساكنها، وحتى تجارها من أجل توفير المخزون الغذائي اللازم خلال مدة الإضراب.
المرأة أدّت دورا في التوعية بأهداف الإضراب
تشير الباحثة أرباس إلى الدور الهام الذي قامت به المرأة الجزائرية في المدينة، خلال إضراب الثمانية أيام التاريخي، عبر شرحها لمبادئ الثورة وتوجيهاتها وسط النساء وعقد الإجتماعات على أسطح المنازل بالقصبة وشرح أهمية الإضراب وأهدافه، وتوفير الغذاء لكافة العائلات المحتاجة لمدة أسبوع كامل، وأعلمت مختلف فئات الشعب بقرار الإضراب عن طريق توزيع مناشير جبهة التحرير الوطني.
ولا يمكن إهمال دور الطبقة الشغيلة في إضراب الثمانية أيام وإسهامات فروع الإتحاد العام للعمال الجزائريين في شلّ المؤسسات الاقتصادية والخدماتية الإستعمارية طوال أيام الإضراب.
كان للاتحاد العام للعمال الجزائريين دور في سير الإضراب بإعطاء تعليمات صارمة للعمال الجزائريين بملازمة منازلهم وإجتناب التجمهر والتجمع بالخارج، وجاء في نداء الإتحاد: «...يجب أن ننتخب جبهة التحرير الوطني الناطق الوحيد باسم جيش التحرير الوطني والمرشد المحبوب والمجرب الواضح للثورة الجزائرية الظافرة عما قريب وستحرك الفئة العاملة الجزائرية هذه المعركة المجيدة برباطة جأش وبوحدة وبنظام وبطولة وثقة».
وبالرغم من كلّ التهديدات كانت الجزائر، يوم 28 جانفي 1957، في الموعد مع الحدث السياسي الهام مثلما كان مقررا من طرف جبهة التحرير الوطني وفي وقته المحدد، وسجلت إستجابة واسعة إذ شمل الإضراب تقريبا كل القطاعات، حيث أغلق التجار محلاتهم وغادر العمال حوض الميناء.
ولم يلتحق موظفو القطارات وعربات الترامواي والفنادق بمناصب عملهم وتوقفت كل النشاطات وبقي المواطنون في منازلهم وبدت المدينة خالية ما عدا الأوروبيين المتواجدين في أحيائهم.
ولم تتوان السلطات الفرنسية في تكسير حركة الإضراب، منذ يومه الأول، واعتبرتها حركة تمردية، واستعملت مختلف الوسائل والآليات منها إنشاء إذاعة سرية سميت بصوت الجزائر الحرة المجاهدة تقلد بها إذاعة (صوت الجزائر الحرة المكافحة)، وذلك لإذاعة أوامر متناقضة مع أوامر الجبهة بهدف تغليط الشعب، قيام مصالح الدعاية بطبع منشورات مزيفة تحمل إسم جبهة التحرير الوطني وصورة العلم الجزائري تحذر فيها من الوقوع في فخ الإضراب.
وكذا استدعاء مصالح الأمن الإستعماري التجار والعمال والموظفين الجزائريين لتحذيرهم من المشاركة في الإضراب وتهديدهم بالعقوبات، إذاعة بلاغات رسمية لتهديد المضربين بأقصى العقوبات، تكثيف جيش الاحتلال الفرنسي بقيادة الجينرال «ماسو» عمليات إعتقالات واسعة في صفوف الجزائريين وتوزيع مناشير كاذبة باسم جبهة التحرير تندّد فيها بالإضراب، إخراج العمال والموظفين عنوة من منازلهم ونقلهم إلى أماكن العمل. بالإضافة إلى تصعيد وتعميم عمليات القمع ونهب الدكاكين والمتاجر.
واستمرت حركة الإضراب، لمدة 8 أيام، أظهر فيها الشعب الجزائري المسلم تلاحمه مع جبهة التحرير وعدم الإنغماس في المناورات، وتنقل الباحثة في دراستها ما تناولته الصحف الإستعمارية وجريدة المجاهد حول الإضراب.
ما تداولته الصحف الإستعمارية
في هذا الصدد، يؤكد مقال جريدة «المجاهد» أنّ مدينة الجزائر كانت معقلا للإستعمار ورأس المال الوطني الفرنسي، حيث تتواجد وكالات الأنباء وهيئات الأخبار الدولية وتتمركز هيئة أركان القيادة الفرنسية.
وينصّ المقال: «كل ذلك إلا أنّ هذه الأخيرة (أيّ القيادة الفرنسية) كانت تجهل حقيقة تاريخ إنطلاق الإضراب وعدم مقدرتها على المناورة لإفشاله، حيث لم يبق أمامها سوى إستخدام القوة، إذ تقرر نشر قوات المظليين في الشوارع وأسندت عملية تكسير الإضراب وضرب الرأس المدبر والمخطط لذلك للجنرال جاك ماسو».
وجاء في جريدة «صدى الجزائر» في صفحتها الأولى عنوان ببنط عريض يؤكد فيه صاحب المقال أنّ الإضراب قد فشل، حيث فتحت المحلات التجارية بالقوة، ويشير المقال إلى ارتفاع نسبة المسلمين المنقطعين عن العمل وأنّها مرشحة للتصاعد وأنّ كثيرا من الموظفين إنضموا للإضراب بعد منتصف النهار من اليوم الأول خصوصا في مدينة الجزائر.
وعن اليوم الثاني من الإضراب أكدت الجريدة أنّ 80 بالمائة من العمال المضربين إستأنفوا عملهم، وقد جاء تفصيل عن رجوع الحياة إلى شوارع العاصمة في مختلف القطاعات، خاصة التجارة وعدم تأثر القطاعات الأخرى كالغاز والكهرباء والماء، وتشير إلى أنّ عملية التموين الغذائي للسكان تسير بشكل عادي.
ووصفت صحيفة «لوموند» في عدد 29 جانفي 1957 أجواء الإضراب كما يلي:»صمت رهيب يخيّم على مدينة تكاد تكون مكفهرة تحت شمس شديدة الإشراق، لقد إندلع في هذا الصباح صدام قوي في الحواجز، حيث بدأ إضراب لمدة ثمانية أيام أمرت جبهة التحرير الوطني المسلمين الجزائريين بشنه، يبدو أنّ المدينة لم تستيقظ بعد».
ويضيف المقال:»...إنّ الصمت الذي يسود الأحياء الموجودة بمركز المدينة، حيث فتحت المتاجر الأوروبية أبوابها كالعادة، لم يعكر الصمت في مداخل القصبة والشوارع المجاورة إلا الضجيج المدويّ للمقالع الحديدية التي كان يستعملها الجنود لفتح أبواب المتاجر المغلقة أو تحطيمها، إنّ التجار المسلمين قد استجاب غالبيتهم إلى أمر الإضراب... وبينما كانت الوحدات العسكرية تتخذ مواقعها حول الأحياء العربية كانت السيارات المجهزة بمكبرات الصوت تجوب الأحياء طالبة من التجار أن يفتحوا أبواب متاجرهم، في أجل أقصاه نصف ساعة».
ونقلت في عددها الصادر يوم 4 فيفري 1957 ما يلي:»إدعت السلطات الفرنسية يومي الثالث والرابع من فيفري أنّ الإضراب قد انتهى فعلا، غير أنّ نسبة المضربين بقيت تزيد على 98 بالمائة وأنّ غياب التجار المسلمين الذين كانت أبواب محلاتهم مفتوحة وفارغة لدليل على أنّ الإضراب قد احترم بدقة».
ويؤكد مراسلو الجرائد الأجنبية بما فيها الفرنسية أنه في آخر يوم من الإضراب لم يبرز أيّ حادث ولم ترتكب أية عملية مسلحة ضد السكان الأوربيين، وقد أثبت ذلك أوجان مانوني Eugene Manonni المراسل الخاص لجريدة Le Monde في الجزائر العاصمة:» السلطات الفرنسية هي الوحيدة التي استعملت القمع والعنف ضد الجزائريين أيام الإضراب، فمنذ اليوم الأول ومنذ الساعة الأولى تم فتح أبوابها بالمطارق والدبابات العسكرية وتركها مفتوحة للنهب عمدا وإلى التخريب والتدمير من طرف الفرقة المظلية».
حرب نفسية ونهب المساكن
ابتداء من اليوم الرابع للإضراب غيرت فرنسا الاستعمارية سياستها ولجأت إلى تطبيق نفس مناهج الحرب النفسية التي استعملتها في حرب الهند الصينية، إستعمال سيارات بمكبرات صوت تنشر شعارات وأكاذيب خلال تجوالها في شوارع المدينة تأمر فيها الجزائريين بعدم القيام بإضراب وضرورة العودة إلى مناصب عملهم وتهديدهم بأقصى العقوبات.
وأدّت مصالح الدعاية دورا مهما خلال أسبوع الإضراب، فقد عمل المظليون على توزيع الحلويات على الأطفال وأظهروا اهتمامهم بدراستهم وحالتهم الصحية بأخذهم إلى المستشفيات وتقديم العلاج الضروري لهم وتشجيع النساء الجزائريات للإقتراب أكثر من ضباط المصالح الإدارية الحضرية لطرح مشاكلهم.
وكانت هذه المصالح تطبع منشورات مزيّفة تحمل صورة العلم الوطني الجزائري يكتب في أعلاها جبهة التحرير الوطني يحذر فيها الجزائريين باسم الجبهة والجيش من الوقوع في فخ الإستعمار الفرنسي، وكان الجنرال ماسو يلقي من الطائرات المروحية مناشير في القصبة يحث فيها الجزائريين على ضرورة الإلتحاق بعملهم من أجل تخفيض عدد البطالين خوفا من حدوث عمليات إرهابية كما كان يدعي.
ويصف المناضل الشيوعي هنري قمع الفرقة المظلية العاشرة خلال هذه الفترة كما يلي:» كانت المنطقة المستقلة تختنق تحت وطأة الحواجز والأسلاك الشائكة وعمليات التفتيش والمراقبة الليلية المستمرة من طرف الوحدات العسكرية في الأحياء العربية في كل من القصبة وبلكور وكلوصالمبي».
ويضيف:» يقتحم رجال الشرطة والجنود المنازل ويقوموا بتحطيم الأبواب التي يتباطأ سكانها في فتحها غير أبهين بصراخ الأطفال والنساء المرعوبين ليقوموا بإخراج السكان من منازلهم شبه عراة ويرغمونهم تحت تهديد السلاح والهراوات على ركوب الشاحنات ونقلهم إلى مراكز الفرز، وهي تسمية تدل على معناها لإخفاء الوجه الحقيقي لها كمراكز للتعذيب، أين لقي العديد من أصدقائي حتفهم تحت التعذيب مثل موريس أودان وعمر جغري الذي توفي جراء التنكيل به من بين الأخرين».
وتنقل الدراسة الأساليب الوحشية التي اتبعها المظليون وهي نهب المساكن وحتى إغتصاب الفتيات أمام أهلهن مثلما تشير المجاهدة زهرة ظريف بيطاط في شهادتها: «تعرضت الكثير من الفتيات إلى الإغتصاب في منازلهن وأمام والديهن وحتى جيرانهن في حي القصبة، وكذلك في أماكن مختلفة من المنطقة المستقلة».
وتضيف: «لقد أغلقت الطرق التي تربط القصبة ببقية الأحياء المجاورة بواسطة الحواجز والأسلاك الشائكة التي ترتفع إلى 3 أمتار أحيانا وانتشار الدبابات في الشوارع».
ويصف الصحفي جاك دوكسن Jaques Duquesne وضعية المنطقة المستقلة سنة 1957: «...وضع الأسلاك الشائكة في الأحياء، الدوريات اليومية للشرطة الفرنسية في الشوارع، إقامة الحواجز في الطرقات، تمشيط وتفتيش مستمر للمنطقة، هكذا كانت الحرب عنيفة وشرسة».
خسائر كبيرة تكبدتها الخزينة العمومية.
وإحتوت دراسة الباحثة على إحصائيات حول نسب الإمتناع عن العمل في مختلف الفروع الصناعية أيام الإضراب والتي كانت مرتفعة خاصة في قطاع الأشغال العمومية، حيث كان معظم العمال الجزائريين يشتغلون في أعمال البناء وعرف قطاع المواد الغذائية شللا شبه كامل وصلت نسبته إلى حوالي 92 بالمائة.
وتؤكد الباحثة أنّ ما تداولته بعض الجرائد الفرنسية بخصوص فشل الإضراب لا أساس له من الصحة إذا ما قورنت بما جاء في تقرير الشرطة الفرنسية، وكانت استجابة العمال للإضراب بالرغم من الإرهاب الفرنسي كبيرة بدليل الإحصائيات التي تداولتها التقارير الفرنسية.
وحسب ذات الدراسة فإنّ نسبة إستجابة العمال المضربين في مدينة الجزائر لنداء جبهة التحرير الوطني كبيرة خاصة في قطاع المعادن مقارنة بالقطاعات الأخرى، وسجلت نسبة 100 بالمائة من الإضراب على مستوى المخابز، الأسواق، الألبان، النقل العمومي، سيارات الأجرة، محطة أغا، محلات الألبسة العامة، العاملين في الميناء، الصيدليات وغيرها من القطاعات.
وقد تكبد الاقتصاد الإستعماري الفرنسي خسائر كبيرة في ميزان الخزينة العمومية. ممّا دفع الإدارة الإستعمارية لإتخاذ إجراءات عقابية مست العمال الدائمين بتسريح الإطارات، طرد عمال في إطار التجربة، توجيه آخر إنذار مع تخفيض درجتين، آخر إنذار مع التحويل، آخر إنذار فقط، تخفيض درجة واحدة، تحويل لظروف تأديبية، توبيخ مع تأخير الدفع من شهر إلى 4 أشهر، توبيخ من طرف المدير، بينما العمال المؤقتين فقد طردوا نهائيا وهناك من وجه له أخر إنذار.