طباعة هذه الصفحة

عرف تطوّرات غير مسبوقة

ملــــف الذّاكــــرة الوطنيـــــة..ديناميكيــــة وتطــــوّرات

سارة بوسنة

 سيطر ملف الذّاكرة الوطنية في السّنوات الأخيرة على المشهد السياسي الجزائري، لاسيما بعد الخطوات التي خطتها الجزائر من أجل الاهتمام بالذاكرة لما لها من دور فعاّل في صيانة مقوّمات الأمة وتحقيق الوحدة، وتعزيز الأطر المرجعية بهدف تحقيق الإقلاع الحضاري. 

  قال الأستاذ التاريخ بجامعة الجزائر مولود قرين، إنّ ملف الذاكرة الوطنية عرف ديناميكية وتطوّرات لم تشهدها السّنوات الماضية، حيث كانت البداية بفتح قناة تلفزيونية، قناة «الذاكرة» التي تعنى بالذاكرة، وبتاريخ الجزائر عبر برامجها المختلفة، وبالرغم من النّقائص وتركيزها على فترات من تاريخ الجزائر، إلاّ أنّها تعتبر لبنة مهمّة في عملية التأسيس للإعلام التاريخي والوثائقي في الجزائر. 

كما شهد الملف العام الماضي خطوات مهمّة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الفرنسية الجزائرية في موضوع الذاكرة، خاصة بعد تمكّن الجزائر في الذكرى 58 للاستقلال من استرجاع جماجم الشهداء 24 التي كانت رهينة متحف الإنسان بباريس لمدة تزيد عن 170 سنة. 

وحسب الأستاذ قرين لا يقتصر ملّف الذاكرة على هذا الحد، كون أبرز الملفّات وأهمها على الإطلاق لا زال عالقا بين الحكومتين، على غرار الأرشيف والاعتراف بالجرائم الفرنسية في الجزائر، بالرغم من الجهود إلا أن الملّف لا زال يراوح مكانه.

واعتبر أنّ تقرير المؤرخ الفرنسي «بن جامين ستورا» لم يكن في مستوى تطلّعات الجزائريين، والأكثر من ذلك أنّه حاول من خلاله أن يسوّي بين الجلاّد والضحية، ويطرح قضايا لا علاقة لفرنسا بها، منها قضية الحركى والأقدام السوداء، متهرّباً من ملف إعادة الأرشيف والاعتراف بالجرائم، فحسب ستورا الأرشيف ملك لفرنسا باعتبار أنّ الجزائر كانت في تلك الفترة جزءاً من المتروبول الفرنسي، متناسيا أنّ الاحتلال أتى على الأخضر واليابس، وفي نفس الوقت متناسيا القوانين الدولية التي تنص على أن الأرشيف هو ملك للدولة التي كتبت فيه. 

وعرفت العلاقات الجزائرية الفرنسية خلال الأشهر الماضية تصعيدا من فرنسا، بعد تصريحات الرئيس ماكرون، التي جاءت في الوقت الذي كان فيه الجميع ينتظر تسوية الملف، وخرج بتصريح استفزازي غريب ينكر فيه تواجد الدولة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي 1830م، متناسياً أنّ الجزائر كانت من بين أولى الدول التي اعترفت بالجمهورية الفرنسية الأولى سنة 1793م، وأنّ بلاده كانت تقتات من قمح الجزائر قبل 1830م.

فتصريحات ماكرون أدّت إلى توتّر العلاقات الجزائرية الفرنسية، وتسبّبت في أزمة دبلوماسية. 

وفي محاولة لرأب الصّدع بين الطّرفين، قام وزير خارجية فرنسا «جان إيف لودريان» بزيارة إلى الجزائر، وتلى الزّيارة تصريح وزيرة الثقافة الفرنسية «روزلين باشلو»، التي أقرت فيه رفع السرية عن الأرشيف الخاص بحرب الجزائر (1954- 1962م) قبل 15 سنة من المهلة القانونية. 

قرار أثار تساؤلات كثيرة بين النخب الجزائرية ـ وفق ما أكّد قرين ـ لعلّ أهمها لماذا اقتصر القرار على فترة الثورة فقط دون غيره من المراحل؟ ولما اقتصر على ملف التحقيقات القضائية للشرطة والدرك الفرنسي دون غيره من الملّفات الأخرى؟ وهناك من ذهب إلى القول إن نية فرنسا غير بريئة بفتحها لهذه الملفات المنتقاة، فإنها تزرع الشك وبذور الفتنة بين الجزائريين.

وتابع المتحدث، لكن بالرغم ممّا قيل، إلاّ أنّنا يجب أن نتعامل مع الملف بإيجابية، وأن نبلّغ الطرف الآخر أنّ مطلب الجزائريين ليس رفع السرية عن ملفات أرشيفية، وإنما مطلبهم الحقيقي هو استرجاع الأرشيف، ليس أرشيف الحقبة الاستعمارية فقط، وإنما كل كنوز الذاكرة المغتصبة من الجزائر (مخطوطات، كتب، أرشيف)، وكذا الاعتراف بالجرائم وما يترتّب عنها من مسؤوليات قانونية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فالجزائري الذي ضحّى بالنفس والنفيس لا يخيفه الأرشيف، وإن كان منتقى، لأن الأرشيف سيكون شاهدا أولا على بشاعة الاستعمار، وعلى عدم قانونية ممارساته في الجزائر.

وعلى الجزائري سواء كان من النخبة أو من العوام، أن يدرك بأن الأرشيف ليس التاريخ وحده، وإنما وثائق تساعد على فهم التاريخ، فهو مصدر كغيره من المصادر، يحمل الصّدق والكذب، ولا يجب أن ننسى أن فرنسا في هذه الفترة كانت تمارس الدعاية والتضليل، والحرب النفسية، لذلك ما هو موجود في تقارير الشرطة والدرك الفرنسي ليس هو الحقيقة المطلقة، وإنما المؤرخ هو الوحيد الذي يملك السلطة العلمية التي تؤهّله لتصديق أو تكذيب ما تتضمّنه تقارير الشرطة الفرنسية.

وأضاف قرين إن أردنا التقدم بملف الذاكرة، واسترداد تاريخنا المغتصب والمهجّر، فلا يجب أن تكون مواقفنا مجرّد ردود أفعال فقط، داعيا في هذا الشأن إلى تخطيط ممنهج، والعمل وفق استراتيجيات دقيقة للتعامل مع الذاكرة، خاصة بعد أن أفصح الطرف الفرنسي عن موقفه الرافض لتسليم الأرشيف والاعتراف بالجرائم. 

كما شدّد مولود قرين على ضرورة تكوين لجان من مؤرّخين وقانونيين للضغط على فرنسا في المحاكم الدولية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تشكيل فرق بحث توثق لمختلف الانتهاكات الفرنسية التي طالت الأرض والإنسان طيلة 132 سنة، ولازالت آثارها جسمية إلى يومنا هذا، فلا يمكن افتكاك أي حق من فرنسا التي لم تتمكّن للأسف من التخلص من عقدتها الاستعمارية، إلا بالتوثيق والبحوث التاريخية.