الإصـلاح يحتــاج لمنظومـة إحصائيـة عمـادها الرّقمنـة
إحصـاء 2022 يـؤسس قاعدة بيانـات دقيقـة
بالرغم من الجدل الكبير حول تخلي الدعم الاجتماعي، تصر الجزائر منذ استقلالها على دعم الفئات الهشة في المجتمع، لذلك لا يمكن قبول مغالطة يروج لها أصحابها لتأليب الرأي العام، لأن تغيير نمط الدعم من مباشر إلى موجه لن يكون تخليا عن أحد مبادئ الجزائر المستقلة بل هو إصرار وإلحاح متجدد على توجيه الدعم إلى مستحقيه، لتحقيق وتعزيز العدالة الاجتماعية في المجتمع.
اتفق الخبراء الاقتصاديون في حديثهم إلى «الشعب ويكاند» على ضرورة التحوّل من دعم اجتماعي يستفيد منه الجميع حتى السياح والشركات الأجنبية إلى دعم موجه تستفيد منه الفئات المعنية، مؤكدين في نفس الوقت على الدور المحوري والأساسي للمنظومة الإحصائية الحقيقية والشفافة، وكذا الرقمنة في إصلاح سياسة الدعم في الجزائر بوضعهما أسسا قوية للدعم الاجتماعي الموجه، من خلال أرضية بيانات دقيقة يسمح تحيينها المستمر من وصول الدعم إلى مستحقيه.
بن ناصر: إصلاح بثلاثة رؤوس
أوضح الخبير الاقتصادي الدكتور سليمان بن ناصر في اتصال مع «الشعب ويكاند»، أن الدولة تتبنى نوعين من الدعم غير مباشر يتمثل في التعليم والصحة المجانيين لن تتخلى عنه الجزائر، ومباشر يتمثل في دعم أسعار المواد الأساسية كالوقود، الخبز والحليب الذي يسبب صداعا مزمنا لحكومات متعاقبة، بالإضافة إلى الزيت والسكر، حيث تنفق عليها أموال طائلة، واصفا هذا النوع من الدعم بالسياسة الخاطئة، لاستفادة جميع فئات المجتمع منها وليس الفئات المعنية أو الهشة فقط، وهو ما استدعى –بحسبه- التحول إلى الدعم الموجه الرامي لاستهداف أمثل للفئات الفقيرة والمعوزة عن طريق الدفع مباشرة في أجور المستفيدين منه فقط.
وفي الوقت نفسه، لاحظ الدكتور تقليص المبلغ المخصص للدعم المباشر، حيث أقر قانون المالية لسنة 2021 مبلغا قدره 15 مليار دولار، بينما في قانون مالية 2022 نجده 14 مليار دولار، ما اعتبره مبلغا ضخما يمكن خفضه بالدعم الموجه فقد يصل إلى النصف أو الثلثين، خاصة وان البلاد تعاني من شح الموارد المالية.
أما عن الطريقة التي سيتم من خلالها تطبيق الدعم الموجه، أكد الخبير الاقتصادي ضرورة احترامها لإجرائين مهمين هما التدرج وحماية الطبقة الفقيرة بالتعويض، فمن غير المعقول أن يكون سعر الخبزة الواحدة مثلا 10 دينار لتصبح في اليوم الموالي 50 دينار (السعر الحقيقي)، لأن ذلك سيقود الى انفجار الجبهة الاجتماعية، لذلك لابد من تزامن التدرج مع حماية الطبقة الفقيرة عن طريق التعويضات فالتخفيض التدريجي يقابله رفع أجور الطبقة المستهدفة أو الفقيرة بالدعم الموجه، فمثلا رفع سعر الخبزة الواحدة من 10 دينار إلى 20 دينارا يقابله تعويض الفارق في رواتب الطبقة المستهدفة، وهكذا عند رفعه مثلا إلى 30 دينارا وحتى يبلغ السعر الحقيقي سيصب الفارق بصفة مستمرة في رواتب الفقراء.
وفي ذات السياق، أكد المتحدث عدم إمكانية تطبيق ثلاث بنود من قانون المالية في الجزائر هي الدعم الموجه، منحة البطالة التي أقرها رئيس الجمهورية وأخيرا الضريبة على الثروة التي جاءت في قانون المالية لسنة 2020، لكنها لم تطبق إلى غاية اليوم، فحتى وان تمكنت من ذلك سيكون تطبيقها صعبا، بسبب غياب منظومة إحصائية قوية، شفافة، مُحيّنه ومضبوطة بمعطيات حقيقية بإلغاء المتوفين أو من عرفوا تحسنا في أوضاعهم الاجتماعية وعلى العكس إضافة من ساءت ظروفهم الاجتماعية.
وأشار بن ناصر إلى أن إصلاح سياسة الدعم في الجزائر يحتاج إلى منظومة إحصائية عصرية هي بدورها في حاجة إلى الرقمنة التي تعتبر أحد المحاور الأساسية لبرنامج رئيس الجمهورية، وهو ما يجعلها ركيزة أساسية لمنع التحايل أو استفادة من هم خارج الفئة المستهدفة، فبدون هذه الإجراءات المتصلة ببعضها سيعرف التحول إلى الدعم الموجه مشاكل كثيرة تجعل من مهمة تطبيقها على ارض الواقع صعبة، ما يؤدي إلى تراجع الدولة عن بعض القوانين التي وضعتها وهو ما حدث في سنوات فارطة.
في الوقت نفسه، أوضح الأستاذ بكلية الاقتصاد جامعة ورقلة تسهيل وجود منظومة إحصائية حقيقية مهمة الدولة في تحديد الأجور الحقيقية لضبط قوائم البطالين، وأصحاب الدخل الضعيف ومن له مداخيل متعددة، فعند وجود معلومات حقيقية يسهل تحديد العتبة الفاصلة بين مستفيد وغير مستفيد أو تحديد معايير الفئات المستهدفة في إعطاء معايير دقيقة للفقير أو الغني، وهو ما سيحقق في الأخير العدالة الاجتماعية التي تريد الدولة إرساء قواعدها القوية.
سعودي: دعم نقدي متناقص
في حديثه مع «الشعب»، قال المختص في المالية والقراءات الاقتصادية الدكتور عبد الصمد سعودي، إن أهم إيجابيات سياسة الدعم الاجتماعي هي تقديم المساعدات للطبقات الهشة والفقيرة وتحقيق العدالة الاجتماعية في الدولة، حيث تعتبر الجزائر من أهم الدول التي تتبنى هذه السياسة على المستوى الإفريقي حيث تتراوح ميزانية الدعم الاجتماعي فيها بحوالي 20% من موازنة النفقات العمومية، بينما يوصي صندوق النقد الدولي بألا يتجاوز الدعم الاجتماعي 10 بالمائة من النفقات الاجتماعية.
وفي المقابل، كشف سعودي أنها لا تخلو من سلبيات كثيرة من بينها غياب الفعالية والكفاءة الاقتصادية من خلال مبالغ هي تكلفة كبيرة على ميزانية الدولة، إلى جانب استحداث هذه السياسة لمستثمرين وهميين من خلال المضاربة في هذه السلع المدعمة، وتحويل هذه المبالغ إلى السوق الموازية وهو ما لا يتناسب مع سياسة الجزائر في تقليصها أو القضاء عليها، وكذا دخول هذه الطبقة من المهربين إلى السوق الموازية ما يساهم في توسعها.
واعتبر المتحدث الفساد والتهريب أكثر عقبات سياسة الدعم الاجتماعي الحالي في الجزائر لتسببه في عدم وصول الدعم لمستحقيه، إلى جانب مساهمتها في الزيادة والإفراط في الاستهلاك المحلي خاصة المواد الأكثر استهلاكا مثل الحليب والخبز لأسعارها المنخفضة، ما جعل الجزائر اليوم من أكبر الدول المستوردة لهذه السلع الإستراتيجية.
في ذات السياق، كشف المختص استفادة حتى الشركات الأجنبية التي تحول الأرباح سنويا إلى الخارج من سياسة الدعم المباشر، بل السياح والأجانب هم أيضا يستفيدون من التكلفة الرخيصة لكثير من السلع المخصصة في الأصل وحصريا للطبقات الفقيرة فقط من المجتمع، حيث خصصت الجزائر أكثر من 20 صندوقا خاصا بسياسة الدعم ما يؤدي –بحسبه-إلى غياب الشفافية.
وأضاف الدكتور أن سياسة الدعم تسببت في ضغوطات كبيرة على ميزان المدفوعات لكون أغلب السلع المدعمة مستوردة ما يؤدي إلى عجز في الميزان التجاري، وأخيرا نجد أن من بين السلبيات معاناة المؤسسات العمومية المنتجة للسلع المدعمة كـ «نفطال» بالنسبة للبنزين، وتلك المنتجة للفرينة وغيرها من اختلالات هيكلية لقيامها بتقديم سلع بأقل من أسعارها الحقيقية.
أما فيما يتعلق بأفضل نمط لتطبيق سياسة الدعم الموجه يرى المختص الاقتصادي أن يكون دعما نقديا متناقصا، ويتطلب وجود منصة رقمية لتحديد الفئات المستفيدة من الدعم، مؤكدا انه ممكن من خلال الإحصاء الثالث الذي سيكون في السنة القادمة 2022، فحسب الوزير الأول سيكون هذا الإحصاء ذو طابع اقتصادي، وقال «إن تقديم دعم نقدي متناقص سيكون ممكنا إن استطعنا القيام بإحصاء جيد لكل فئات المجتمع».
ولاحظ سعودي أن 30 دولة في العالم قامت بهذه التجربة كانت البرازيل أولها، حيث نجحت في تحقيقه من خلال برنامج «بورصة»، وهو برنامج ناجح تم نسخه وإعادة تطبيقه في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما تبنت المملكة العربية السعودية من الدول العربية هذا النمط من الدعم، وهي دولة مشابهة للجزائر في اعتمادها على المحروقات، وقامت بتقسيم فئات المجتمع بحيث كلما كان الأجر مرتفعا انخفض الدعم.
وحدد الخبير الاقتصادي ثلاثة مؤشرات لتحديد الفئات المستفيدة من الدعم الموجه أولها الدخل، الجانب الاجتماعي كعدد أفراد الأسرة وتركيبتها ثانيها، أما ثالثها فيرتبط بالدول التي تتميز بمساحة كبرى كالجزائر والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة السعودية، وهو معيار البعد عن المدينة والأماكن الإستراتيجية، وهذا ما هو موجود كمنحة الجنوب فالشركات الموجودة بالجنوب تستفيد من ضريبة منخفضة، والدعم الريفي أيضا يدخل في نفس السياق لذلك هو معيار يستعمل في الدعم النقدي لتحديد الفئات المستفيدة منه.
آفة الفساد
في تعريفه للدعم النقدي، قال إنه عبارة عن زيادة في الأجر مباشرة سواء كان عاملا في القطاع العام أو الخاص، وبالمقارنة مع ما تقدمه الجزائر اليوم من دعم بلغت قيمته حوالي 14 مليار دولار أي 1900مليار جزائري و195الف مليار سنتيم، نجد أنها إن استطاعت تطبيق الدعم الموجه ستتمكن من تقليص هذا العدد، ما سيحدث بحسبه منافسة حرة بين المؤسسات، بالإضافة إلى ضمان وصول الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين، كما ستتخلص الجزائر من الفساد فأغلب الفساد الموجود في القطاع التجاري نجده في السلع المدعمة كتهريب الزيت، السكر، الحليب وغيرها.
أما الدعم عن طريق البطاقية الذي تطبقه بعض الدول فهو امتلاك الشخص المستفيد من بطاقة إلكترونية ممغنطة تقدمها الجهات الوصية تكون فيها سلع من مناطق محددة بسعر مدعم، ولاحظ انه سواء كان دعما نقديا أو عن طريق بطاقية سترتفع الأسعار، لأن الدعم سيتحول من دعم أسعار السلع الواسعة الاستهلاك أو الأساسية إلى دعم نقدي في جيب المواطن.
في سياق حديثه، أكد سعودي استحالة التحول المباشر إلى الدعم الموجه، فيجب أن يكون تحولا تدريجيا على مراحل تبدأ بالسلع الأقل أساسية كالبنزين مثلا، أما السلع كالخبز والحليب فيجب أن تبقى لآخر مرحلة، وهو ما يتطلب -بحسبه- برنامج يستغرق من سنتين إلى ثلاث سنوات، وحتى بالنسبة للحكومة كشفت عن موجود فصل جديد في قانون المالية في تحويل الدعم الكلي إلى دعم موجه، أكدت فيه انه سيكون على مراحل بمعايير ومؤشرات محددة، لكن تبقى في المقابل النقطة الأساسية لهذا التحول هو إحصاء شامل واقتصادي لكل المواطنين من أجل تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية.
خفاش: الهدف المنشود
ومن جانبه يرى الخبير الاقتصادي كمال خفاش أن تطبيق الدعم الموجه يحتاج لتحديد قائمة الفئات المستهدفة إلى هيئات على مستوى الولاية أو الدائرة هي بمثابة لجنة تتكون من مسؤولين محليين حيث تؤدي البلدية دورا أساسيا لتحقيق إستراتيجية الدعم الموجه بالإضافة إلى لجان الشبكات الاجتماعية التي تملك خلايا جوارية موجودة في الميدان للتكفل بالمصالح الاجتماعية.
لتبدأ بعد ذلك المرحلة ثانية وهي تحديد المعايير التي يتم على أساسها اختيار الأفراد المستفيدين من الدعم، حيث أوضح خفاش إنهم ينتمون للفئات الهشة كالعائلات المعوزة والفقيرة، ذوي الاحتياجات الخاصة، المسنين الذين يعيشون بلا معيل، وذوي الدخل الضعيف، حيث يقوم الخبراء الاقتصاديون على مستوى الولايات بتحديد المعايير التي على أساسها يتم وضع القائمة وضبطها، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه الوكالة الوطنية للإحصاء.
وأكد أن لها دورا مهما في وضع إحصائيات دقيقة من أجل تحديد المبلغ الذي يسمح بحياة كريمة للفئات الهشة، فمبلغ 18 ألف دينار أو 20 ألف دينار غير كاف لسد المصاريف الشهرية للمواطن، لذلك سيحدد الأجر الضعيف بأقل من 30 ألف دينار، طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار عدد أفراد الأسرة الواحدة فمصاريف تلك المتكونة من ثلاثة أفراد ليست نفسها لتلك المتكونة من ثمانية أفراد، فأخذ عدد الأفراد في الأسرة الواحدة مهم لتحقيق العدالة الاجتماعية.
وفي الوقت نفسه، أكد الخبير ضرورة سد ثغرات ونقائص المنظومة الإحصائية الموجودة، لأنها أساس تطبيق الدعم الاجتماعي الموجه، فالواقع يثبت عدم امتلاك الجزائر لإحصائيات دقيقة، ما جعل عدد العائلات المصنفة في خانة المعوزة أو الحاجة غير دقيق، بالإضافة إلى سد تلك النقائص الإحصائية لا بد من تدخل أطراف أخرى هم المعنيون بالأمر كالبلدية، الدائرة، بالإضافة إلى استحداث لجنة تتكفل بدراسة القواعد المتعلقة باختيار القائمة، من أجل تقييم التكلفة العامة السنوية لهذا النوع من الدعم، لإجراء مقارنة مع المتبع في السنوات الماضية، فيجب القياس على الفرد، إلى جانب تحيين القوائم بصفة مستمرة والمراقبة وكذا المتابعة في الميدان سنويا لبلوغ الأرقام الحقيقية.
وعن طريقة تطبيقه، تحدث خفاش عن إمكانية أن يكون نقديا عن طريق البريد أو بنكي أو استحداث صناديق من أجل تحقيق الشفافية في صرفها، لأنها أموال الخزينة العمومية يجب تتبع مسارها حتى تبلغ الفئات المستهدفة، ما يعطي الرقمنة دور كبير في تحقيقها، فهي تسمح بالتحيين الآني للقوائم وتحقيق الشفافية وإجراء التعديلات اللازمة من اجل تحقيق عدالة اجتماعية، فبالنظر إلى التحولات الاقتصادية العالمية ممكن تسريح العمال ما يحولهم إلى فئات مستحقة للدعم لفقدهم منصب شغلهم ومن تحسنت ظروفه يتم إلغائه من القائمة بطريقة آلية وآنية، كل ذلك من أجل أن يعيش كل جزائري حياة كريمة تتحقق فيها العدالة الاجتماعية.