طباعة هذه الصفحة

الثورة الجزائرية (1954 - 1962):

مرجعية ومنطلقات سياسة الجزائر الخارجية

بقلم: أ.د. إسماعيل دبش، أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

لم تعتمد ثورة أول نوفمبر على العمل المسلح فقط كوسيلة لتحقيق أهدافها، بل اعتمدت كذلك على العمل السياسي والدبلوماسي من أجل تدويل القضية الجزائرية وجعلها “حقيقة واقعة في العالم كله، وذلك بمساندة كل حلفائنا الطبيعيين”.
كما سبق ذكره لم يكن استعمال العمل المسلح هدفا في حد ذاته بل في الواقع كان خيار أخير بعد فشل الخيارات السياسية. توظيفه كان وسيلة مؤقتة للضغط على فرنسا وعلى المؤسسات الدولية خاصة منظمة الأمم المتحدة للوقوف بجانب حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. وبما أن اختيار غير مبدئي وغير مرغوب فيه فقد كان سلوك وممارسة جبهة التحرير الوطني داخليا وخارجيا منذ بداية حرب التحرير هو احتواء العمل المسلح عن طريق إقناع المجتمع الدولي ككل حول ضرورة استرجاع استقلال الجزائر في أسرع وقت. النشاط الدبلوماسي كان يهدف إلى:

ثامنا: لم تعتمد ثورة أول نوفمبر على العمل المسلح فقط كوسيلة لتحقيق أهدافها، بل اعتمدت كذلك على العمل السياسي والدبلوماسي من أجل تدويل القضية الجزائرية وجعلها “حقيقة واقعة في العالم كله، وذلك بمساندة كل حلفائنا الطبيعيين”.
كما سبق ذكره لم يكن استعمال العمل المسلح هدفا في حد ذاته بل في الواقع كان خيار أخير بعد فشل الخيارات السياسية. توظيفه كان وسيلة مؤقتة للضغط على فرنسا وعلى المؤسسات الدولية خاصة منظمة الأمم المتحدة للوقوف بجانب حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. وبما أن اختيار غير مبدئي وغير مرغوب فيه فقد كان سلوك وممارسة جبهة التحرير الوطني داخليا وخارجيا منذ بداية حرب التحرير هو احتواء العمل المسلح عن طريق إقناع المجتمع الدولي ككل حول ضرورة استرجاع استقلال الجزائر في أسرع وقت. النشاط الدبلوماسي كان يهدف إلى:
•محاولة احتواء الحرب عن طريق الضغط الدولي على فرنسا للاعتراف بحق تقرير مصير الشعب الجزائري.
•تنوير الرأي العام العالمي بالأهداف المشروعة وبالوسائل المفروضة لتحقيقها.
•تكذيب الدعاية الفرنسية حول وصف ممارسات جبهة التحرير الوطني بالأعمال الإجرامية والإرهابية وبعدم شعبية ومصداقية جبهة التحرير الوطني وغيرها من الأوصاف لتغطية الأهداف الوطنية والإنسانية لحرب التحرير الجزائرية.
•التضامن مع الشعوب المستعمرة وكل حركات الاستقلال وقوى التحرر في العالم.
•كسب الاعتراف الدولي على مستوى الدول وعلى مستوى المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة.
•التحالف مع كل القوى المناهضة للعنصرية والهيمنة الاستعمارية.
•البحث عن مصادر للتمويل والتدعيم المادي والمعنوي لحرب التحرير الجزائرية.
•كسب تأييد الشعوب حتى داخل مراكز القوى الاستعمارية.
على المستوى غير الحكومي وجدت القضية الجزائرية اهتماما متزايدا وأخذت حيزا هاما سواء في لقاءات وبيانات الأحزاب المعارضة للاستعمار، أو على مستوى التنظيمات والنقابات والاتحادات والتجمعات الإقليمية والعالمية الإنسانية التحررية بما فيها من داخل فرنسا نفسها، معبرين عن تضامنهم مع أهداف ومطالب جبهة التحرير الوطني، وعن إدانتهم الشديدة للاستعمار الفرنسي مطالبين حكوماتهم بالضغط على فرنسا من أجل تقرير مصير الشعب الجزائري.
لعب ممثلو جبهة التحرير الوطني، مدعمون بالأعمال التحررية المسلحة م طرف جيش التحرير الشعبي، دورا أساسيا للتحسيس بالقضية الجزائرية وإعطائها صدى عالميا وجماهيريا من خلال تواجد ممثليها عبر مناطق مختلفة وهامة في العالم.
فقد كان لتمثيليات جبهة التحرير الوطني والحكومة الجزائرية المؤقتة في أماكن إستراتيجية مختلفة من العالم دور أساسي إعلامي وسياسي ودبلوماسي في التحسيس بالقضية الجزائرية وشرعية حرب التحرير الجزائرية، من نيويورك (مقر منظمة الأمم المتحدة) إلى جاكارتا (أندونيسيا)، نيودلهي (الهند)، كراتشي (الباكستان)، بيجينغ (بكين: الصين)، بلغراد (يوغسلافيا)، روما (إيطاليا)، بون (ألمانيا)، لندن (بريطانيا)، ستوكهولم (السويد)، أكرا (غانا)، كوناكري (غينيا)، باماكو (مالي)، غينيا بيساو، المكسيك، البرازيل، كوبا...
النشاط الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني كان متنوعا بحيث تضمن أي مجال أو وسيلة تدعم القضية الجزائرية وإعادة الاعتبار للدولة الجزائرية. في هذا الإطار انضمت (جويلية 1960)، الحكومة الجزائرية المؤقتة لإتفاقيات جنيف الأربعة (المبرمة في أوت 1949) بشأن حقوق الإنسان. كان لهذا الانضمام تأكيد وجود قانوني للدولة الجزائرية في اتفاقية دولية بدلا من الوصاية الفرنسية عليها.
كما تميز النشاط الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني بإدخال القضية الجزائرية في الحياة الدولية من الباب الواسع. حدث ذلك في الشهور الأولى من بداية (نوفمبر 1954) حرب التحرير وذلك بمشاركة جبهة التحرير الوطني في مؤتمر باندونغ (أفريل 1955) الذي ضمن أهم وأنشط الدول في إفريقيا وآسيا والتي لعبت الدور القيادي في الحركة الأفرو ـ آسيوية المناهضة للاستعمار. طبعا مؤتمر باندونغ لم يكن بداية النشاط الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني ولكن نتائجه كانت لها آثار إيجابية ترقى لتصنيفها كأهم نشاط دبلوماسي، شهور بعد انطلاق الثورة الجزائري وبآثار إيجابية خاصة فيما يتعلق بـ:
•تبني مؤتمر باندونغ لاستعمال أية وسيلة تضمن استقلال وحرية شعوب العالم المستعمر. بمعنى تدعيم واعتراف ومساندة لوسيلة الجزائر من أجل التحرير وهي العمل المسلح. كان لممثلي جبهة التحرير الوطني في المؤتمر تأثيرا إيجابيا في إبراز تجربة حرب التحرير الجزائرية بأهداف إنسانية نبيلة تحررية وشرعية وطنيا ودوليا. حرب التحرير الجزائرية التي بدأت (1 نوفمبر 1954) خمسة أشهر قبل مؤتمر باندونغ (أفريل 1955) كان لها تأثير على المؤتمر لإصدار قرارات وتوصيات غير مساومة مع الإستعمار ومطالبة بالاستقلال اللامشروط لكل المناطق المستعمرة في العالم. هذه التوصيات التي كانت صادرة عن تجمع قوي ومكثف يمثل أكثر من نصف سكان العالم ونصف الكرة الأرضية وبالتالي لم تمض أكثر من 5 شهور على بداية حرب التحرير الجزائرية حتى وجدت القضية الجزائرية ممثله في أهم حضور دولي جماهيريا وحكوميا شهدته، قارتا إفريقيا وآسيا بعد الحرب العالمية الثانية.
    •    ما يميز حرب التحرير الجزائرية وتوجه جبهة التحرير الوطني هو الابتعاد عن الصراعات الدولية وعن الولاء لقوة معينة أو لتحالف دولي ما في مواجهة قوة أو تحالف دولي آخر. مؤتمر باندونغ ضم دولا بتوجهات سياسية مختلفة وأحيانا متناقضة مثل الهند الليبرالية التوجه والمعتدلة في تعاملها مع القوى الاستعمارية والصين الاشتراكية بمواقف متشددة مع الدول الرأسمالية بصفة عامة والاستعمارية بصفة خاصة. تاريخ انطلاق الثورة الجزائرية تزامن مع التأثير المطلق تقريبا للمعسكر الاشتراكي والتوجه الثوري اليساري على الحركات المناهضة للاستعمار والإمبريالية. رغم ذلك فجبهة التحرير الوطني لم تتأثر بهذا المد، وثبتت مبادئ موثقة في بيان أول نوفمبر، أن هدفها هو استرجاع استقلال الجزائر، وبناء دولة في إطار المبادئ الإسلامية، بالتعامل مع جميع القناعات والتوجهات لمختلف شعوب ودول العالم، مادام أنها تساند الشعب الجزائري في مطالبه لاسترجاع استقلال الجزائر.
كما تزامنت الثورة مع البداية العلنية للخلاف

السوفيتي ـ الصيني حول سياسة التعايش السلمي. وفقت جبهة التحرير الوطني في الإبتعاد عن الصراع أو الخلاف الدولي الذي قد يؤثر سلبا على هدفها الأسمى وهو الإستقلال والتحرير ومحاولة كسب كل القوى المناهضة للإستعمار حتى ولو كانت داخل المعسكر الرأسمالي.
    •حدث وتوقيت مؤتمر باندونغ ونتائجه وآثاره على المستوى الحكومي والشعبي في آسيا وإفريقيا خلق مجالا له تأثير إيجابي على النشاط الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني وأعطى دفعة قوية لتدويل القضية الجزائرية، خاصة وأن نشاط وتنظيم الحركة الأفرو - آسيوية كان ينطلق من القاهرة، العاصمة المصرية، مقر منظمة التضامن الشعبي الأفرو ـ آسيوي.
مصر التي لعبت دورا هاما في تعبئة منظمات وأحزاب وشعوب القارتين الإفريقية والآسيوية والعالم ككل للتأثير على حكوماتهم لمساندة حرب التحرير الجزائرية وخاصة موضوع تدويل القضية الجزائرية. بحكم تواجد مقر منظمة التضامن الشعوب الإفرو ـ آسيوية بالقاهرة وبرئاسة مصرية (محمد أنور السادات) الذي أصبح من بعد رئيس جمهورية مصر العربية: (1971 - 1980) وتحت التأثير المباشر للرئيس “جمال عبد الناصر” مصحوبة بالنشاط المكثف لممثلي جبهة التحرير الوطني بالمنظمة كلها مجتمعة أعطت للقضية الجزائرية ديناميكية دولية وحضورا دوليا فعالا.
داخل القارتين الإفريقية والآسيوية شكل الوطن العربي المجال الطبيعي لتنسيق وتفعيل النشاط الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني من أجل تدويل القضية الجزائرية. عقب مؤتمر باندونغ (أفريل 1955) مصر والسعودية، وخلال نفس السنة، طالبتا بتسجيل القضية الجزائرية في منظمة الأمم المتحدة في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة (أكتوبر 1955). وفعلا تم تسجيل القضية الجزائرية في هذه الدورة بـ28 صوتا ضد 27 صوتا. شهور بعد ذلك (جوان 1956) تمكنت الدول المساندة لحرب التحرير الجزائرية من طرح القضية الجزائرية على مجلس الأمن الدولي.
ورغم أن المجلس لم يصدر أي قرار بشأن القضية الجزائرية بسبب هيمنة الدول الكبرى صاحبة حق النقض (الفيتو) فإن مجرد طرحها كان إعترافا بحضور ووجود مسألة دولية.
    لعبت المواقف العربية الموحدة في الهيئات الدولية تجاه القضية الجزائرية الدور الأساسي في تعبئة الرأي العام الدولي لمساندة القضية الجزائرية رغم المعارضة الفعالة للدول الرأسمالية الكبرى.
ونتيجة لإستراتيجية حرب التحرير الجزائرية لتدويل القضية الجزائرية المتمثلة في الضغط الداخلي عن طريق العمل المسلح ضد القوات الإستعمارية، ونتيجة كذلك للنشاط المكثف لممثلي جبهة التحرير الوطني بالتنسيق مع الوفود العربية في المنظمات والهيئات الدولية مصحوبة بالتأثير الفردي للأقطار العربية في علاقاتها الثنائية وافقت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في دورتها الحادية عشر (1957) على طرح القضية الجزائرية وأصدرت الجمعية قرارا يعتبر القضية الجزائرية قضية دولية خلافا لإدعاء فرنسا بأنها قضية فرنسية داخلية:
إن الجمعية العامة التي استمعت إلى تصريحات الوفود المختلفة وناقشت القضية الجزائرية، تعتبر أولا أن الحالة في الجزائر تسبب كثيرا من الآلام والخسائر في الأرواح البشرية وتعبر عن أملها في إيجاد حل سلمي ديمقراطي عادل، مطابق لروح التعاون بالوسائل المناسبة، ووفق مبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
انتهى