طباعة هذه الصفحة

الثورة الجزائرية (1954 - 1962):

مرجعية ومنطلقات سياسة الجزائر الخارجية

بقلم: أ.د. إسماعيل دبش، أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

سيسجل التاريخ للشعب الجزائري تعلقه بأرضه رغم أنه لم يؤسس أية تقاليد حكم ودولة عبر العصور ... أن أحدا لم يحاول أن يبحث ماذا كان التاريخ الرسمي للجزائر الحديثة ليس إلا تاريخ الظروف.     
كما كانت الجزائر مثالا لمستعمرة مورست فيها أعلى مراحل الرأسمالية، وكما يصفها الماركسيون بالإمبريالية، بما فيها تدمير الاقتصاد الجزائري الذي كان في بعض مجالاته ينافس الاقتصاد الفرنسي خاصة الفلاحة وبالأخص الحبوب التي كانت أحد الأسباب المباشرة للاحتلال الفرنسي نتيجة مطالبة الجزائر بدفع الديون الجزائرية المستحقة لدى فرنسا مقابل الحبوب التي اشترتها من الجزائر. كما اغتصب المستعمرون أهم وأخصب الأراضي الزراعية وتحويل أصحابها من مالكي أراضي إلى خدم. السيد بيار جوكس كتب (مارس 1998) معترفا ومؤكدا ذلك:

ميشال جوبار، وزير فرنسي سابق كتب مؤخرا (مارس 1998):

سيسجل التاريخ للشعب الجزائري تعلقه بأرضه رغم أنه لم يؤسس أية تقاليد حكم ودولة عبر العصور ... أن أحدا لم يحاول أن يبحث ماذا كان التاريخ الرسمي للجزائر الحديثة ليس إلا تاريخ الظروف.     
كما كانت الجزائر مثالا لمستعمرة مورست فيها أعلى مراحل الرأسمالية، وكما يصفها الماركسيون بالإمبريالية، بما فيها تدمير الاقتصاد الجزائري الذي كان في بعض مجالاته ينافس الاقتصاد الفرنسي خاصة الفلاحة وبالأخص الحبوب التي كانت أحد الأسباب المباشرة للاحتلال الفرنسي نتيجة مطالبة الجزائر بدفع الديون الجزائرية المستحقة لدى فرنسا مقابل الحبوب التي اشترتها من الجزائر. كما اغتصب المستعمرون أهم وأخصب الأراضي الزراعية وتحويل أصحابها من مالكي أراضي إلى خدم. السيد بيار جوكس كتب (مارس 1998) معترفا ومؤكدا ذلك:
إن الاستغلال الاستعماري كان مسلسلا طويلا للبشاعة... وجلب خاصة جرائم القمع والتعذيب واستغلال القوى العاملة والثروة البشرية للبلدان المستعمرة ومواردها الأولية.
الاستعمار مسلسل طويل للبشاعة
وفي كتابه أضواء على الثورة الجزائرية، وصف (1956) السيد “إبراهيم كبه” المعاناة الجزائرية من الإمبرالية الفرنسية كما يلي:
لعل من أروع خصائص كفاح الجزائر في الوقت الحاضر هو أنه مبني على إدراك عميق واع للحقيقة الجوهرية [وهي الحرب من أجل التحرير] من النظام الكولونيالي المتمم اليوم لنظام الاستعمار الحديث. إنها كولونيالية مترابطة الأجزاء، متفاعلة الوجوه لا يمكن بالمرة فصل جوانبها الاقتصادية، والاجتماعية عن طبيعتها السياسية كما يفعل اليوم سادة الإصلاحات الجزئية من الاستعماريين الفرنسيين ودعاة المساومة والحلول التدريجية من أذنابهم ]إن العدو المحارب[ في الجزائر هو النظام الكولونيالي نفسه وسيدته الإمبريالية الفرنسية ومن ورائها نظام الاستعمار العالمي.
لقد قدمت الثورة الجزائرية نموذجا لإخراج استعمار عاش فترة في الجزائر من بين أطول الفترات التي شهدها الاستعمار في التاريخ المعاصر. فترة مارس فيها الاستعمار كل الوسائل المادية والمعنوية الممكنة من أجل تشويه ثقافة وحضارة وقيم المجتمع الجزائرية وجعلها تحت وصاية ثقافة وحضارة غريبة. تلك الأنواع من الممارسات الاستعمارية أهلت الجزائر لتصبح حلقة ربط وتجربة مثالية لأنواع الاستعمار عبر أنحاء العالم. أو كما لقبت بـ:«مكة الثوار”.
رابعا: أحدثت الثورة الجزائرية شللا في مخطط وإستراتيجية فرنسا الاستعمارية بإفريقيا. فبعدما كانت المستعمرة الجزائرية بالنسبة إلى فرنسا تمثل عمقا إستراتيجيا ومجالا حيويا للمحافظة على مصالحها الاستعمارية، تحولت الجزائر إلى قاعدة إستراتيجية لمحاربة الوجود الاستعماري ومنطلقا لإفشال المخطط الفرنسي بإفريقيا. ذلك ما دفع فرنسا ليس فقط إلى تركيز معظم نشاطها وطاقاتها الاستعمارية ضد حرب التحرير الجزائرية داخليا، بل كثفت نشاطها إعلاميا وعسكريا لقطع مصادر التأييد الخارجي للثورة الجزائرية. السبب الأساسي وراء مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر (1956) كان تأييد هذه الأخيرة إلى الثورة الجزائرية. بالنسبة إلى فرنسا ضرب مصر هي وسيلة الهدف منها إضعاف المصدر الأساسي لتدعيم حرب التحرير الجزائرية.
روبرت لاكوست (Robert Lacoste)  الوزير الفرنسي المقيم بالجزائر عبر عن ذلك كما يلي: “فرقة عسكرية فرنسية واحدة بمصر أحسن من أربعة بالجزائر”.
تاريخ انطلاق الثورة الجزائرية لم يترك لفرنسا الوقت الكافي لتدعيم وترتيب وجودها الاستعماري في العالم. بدأت الثورة الجزائرية (أول نوفمبر 1954)، بعد أقل من 6 أشهر من هزيمة فرنسا في معركة ديان بيان فو (ماي 1954) بالهند الصينية، وفي نفس الفترة بدأت حركات الاستقلال الوطني الإفريقية تصعد من نشاطها مطالبة بالاستقلال بدءا بتونس والمغرب.
أدى التخوف من تصاعد انفجار الوضع بمستعمرات فرنسا بإفريقيا إلى التفكير في استقلال المستعمرات الإفريقية على الأقل بشروط تساير استمرار المصالح الفرنسية مع تركيز قواها على المستعمرات الأهم بإفريقيا وعلى رأسها الجزائر. ذلك ما تضمنه تصريح “لادغار فور”، رئيس الحكومة الفرنسية (27 ديسمبر 1955) عقب الشهور الأولى لبداية (نوفمبر 1954) حرب التحرير الجزائرية.
كسب السباق ضد الساعة
علينا أن نكسب التسابق مع الساعة ... لأن مشاكل إفريقيا السوداء ستطرح وتفرض نفسها علينا تماما مثل مشاكل شمال إفريقيا.
وبنفس المحتوى كان وصف “شارل دي غول”، الرئيس الفرنسي لسياسته أثناء الفترة (1958 - 1962)، مقدرا أنه لو رفضت فرنسا مطالب حركات الاستقلال الإفريقية لتحولت هذه الأخيرة إلى ثورات ضد فرنسا على غرار “الحرب المتواصلة في الجزائر” وبالتالي تخسر فرنسا مستعمراتها ونفوذها وتؤثر سلبا حتى على وحدة الجيش الفرنسي والوحدة الوطنية لفرنسا نفسها.
ونفس المعنى تضمنه رد الآن سافاري، كاتب الدولة الفرنسي للشؤون المغربية والتونسية أثناء مناقشات (03 جوان 1956) الجمعية العامة (البرلمان الفرنسي):
«لو كنا في ظروف طبيعية لإشترطنا تفصيل وتوضيح ذلك التداخل (L’interdépendance)  مع المغرب وتونس قبل الاعتراف لهما بالاستقلال ...  ولكن في الظروف السائدة ]يقصد تصاعد تأثير حرب التحرير الجزائرية في الشهور الأولى[ لو تشردنا لفقدنا كل شيء وتستقل المغرب وتونس بدوننا أو ضدنا”.
صدى الثورة يعم افريقيا
لم يكن تأثير حرب التحرير الجزائرية محسوسا فقط على مستوى الدول المستعمرة بل امتد حتى إلى الدول التي نالت استقلالها من فرنسا أثناء حرب التحرير الجزائرية. كانت غينيا نموذجا لذلك بحيث رفضت هذه الأخيرة الاستقلال الشكلي () أو الاستقلال المشروط من فرنسا. أصرت غينيا، بقيادة الرئيس “أحمد سيكوتري”، على الاستقلال التام دون شرط، مما أدى إلى دخولها في مواجهة، من جديد، مع فرنسا. رد هذه الأخيرة هو شل الاقتصاد الغيني وتدمير المنشئات القاعدية الحيوية في غينيا.
كان لقادة جبهة التحرير الوطني وعي بصعوبة وطول أمد حرب التحرير الجزائرية أمام حجم قدرات العدو الفرنسي الذي كان يتضاعف يوميا:
إن كفاحنا مازال طويلا وشاقا، ومازالت الطريق أمامنا مفروشة بالمصاعب و...... بالضحايا ومازال الشعب الجزائري مطلوبا بكثير من الدماء والدموع لأن بلادنا أصبحت اليوم ملتقى أطماع
المستعمرين الذين يريدون من خلال ضرب الجزائر ضرب استقلال تونس والمغرب وإيقاف التحرر في إفريقيا كلها. هذا هو السبب في إطالة أمد الكفاح الذي يجعل معركتنا معركة طويلة الأمد.
خامسا: شكلت الثورة الجزائرية أول رد فعل عربي جماهيري بعد نكسة العرب أمام إسرائيل سنة 1948 (الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى). قد يتساءل البعض حول عدم اعتبار الثورة المصرية (جويلية 1952) كأول رد فعل عربي بعد النكسة. يجب التذكير بأن الثورة المصرية أطاحت بنظام ملكي وقادها ضباط داخل النظام السياسي المصري الملكي. فلم تأخذ الثورة المصرية بعدا جماهيريا شاملا إلا بعد تأميم قناة السويس (1954)، وتضاعف ذلك بعد العدوان الثلاثي على مصر (1956).
سادسا: ساهمت حرب التحرير الجزائرية بفعالية في دعم تصاعد المطالب المتزايدة في أجزاء كثيرة من العالم المستعمر بهدف الاستقلال والحرية. استعمال
القوة العسكرية من طرف الدولة الاستعمارية بحدة وكثافة لفرض إرادتها واستمرارية وجودها واجهه أسلوب تحدي فعال متمثل في مواجهة شعبية عن طريق الحروب الشعبية وحرب العصابات لتجسيد أهداف إنسانية سامية ووطنية نبيلة وهي حرية واستقلال الشعوب المستعمرة وأدى ذلك بالدول الاستعمارية إلى الإسراع بالتفاوض مع الكثير من حركات الاستقلال الوطني وبالتالي احتواء انتشار العمل المسلح الجماهيري والمجابهة الشعبية المتزايدة ضد السلطات الاستعمارية ليبقى الاستعمار المباشر ومتواجدا أكثر في مناطق إستراتيجية محدودة مثل الجزائر بالنسبة إلى فرنسا، وإفريقيا الجنوبية بالنسبة إلى بريطانيا.
سابعا: حاربت الثورة الجزائرية الإرهاب الدولي المنظم من طرف القوى الاستعمارية. فإذا كان من بين مفاهيم ومظاهر الإرهاب هو التقتيل والإبادة الجماعية لأبرياء عزل من السلاح فإن هذه كانت الوسيلة الأساسية للوجود الاستعماري الفرنسي منذ بداية الحملة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر والأسلوب المستمر للمحافظة على مستعمراتها. ليس المجال هنا لتحليل ذلك، ولكن يكفي التذكير بمجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبت ردا على خروج السكان الجزائريين في المداشر والقرى والمدن عبر أنحاء الوطن منادين باستقلال الجزائر ومشاركين في احتفال الأوروبيين بالانتصار على الفاشية والنازية. رد فرنسا كان الإبادة الجماعية لـ45 ألف من الجزائريين العزل.
استمرت فرنسا في هذه السياسة، وبالتنسيق مع حلفاؤها، تمت إبادة مليون ونصف مليون من الشعب الجزائري خلال فترة حرب التحرير الجزائرية (1954 - 1962). وأصبحت المواجهة والتضحية الجماهيرية الجزائرية وسيلة عملية لوقف استمرارية الإبادة الجماعية الفرنسية.
وضع حد لهذه الإستراتيجية الفرنسية من طرف المواجهة الشعبية الجزائرية لم تكن نجاحا للشعب الجزائري فقط وذلك باسترجاع سيادته واستقلاله وبالتالي أمنه وحريته وكرامته، بل نجاحا لكل الإنسانية التي تعاني من الهيمنة والممارسات غير الإنسانية للقوى الاستعمارية خاصة المستعمرات الحيوية والإستراتيجية التي كانت الدول الاستعمارية متمسكة بها وعملت على بقائها تحت سيطرتها ولو بالمواجهة العسكرية.
يتبع