ارتبط فن المسرح بالهبة النضالية لتحرير الجزائر من نير الاستعمار وانخرط في العمل الوطني بجرعات مختلفة قياسا إلى السياق والظرف التاريخي، كما واصل العمل على الموضوعات الوطنية والذاكرة والهوية منذ بداية الاستقلال، فالجزائر عرفت المسرح بمفهومه الحديث بما يقارب القرن بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر، وكان ميلاده عصيبا عسيرا لأن السلطة الاستعمارية التي تعي جيدا قوة الفن وتأثيره على الجماهير ضيقت هامش الحريات الفنية مثلما ضيقت مجال الحريات السياسية، وحاربت كل المسرحيات ذات الطابع الوطني المحافظ على الهوية وكل ما يخص الثقافة والذاكرة الوطنية ذات الأبعاد الدينية واللغوية، التي تميز الجزائري عن الآخر (المستعمر).
إن ملامح المقاومة ورفض الاستعمار تجلت في المسرح الجزائري في فترة سابقة على اندلاع الثورة التحريرية، فحضور الأفكار الوطنية والروح النضالية في المسرح الجزائري سبق فترة الخمسينيات وتجلى بصورة أقوى في فترة الأربعينيات التي تنامى فيها الوعي الوطني وكان منذرا باندلاع الثورة في كل لحظة، وهو ما يعد جهدا كبيرا وبارزا في سبيل الحفاظ على مقومات الهوية الذاكرة الوطنية.
وقد تنامى الوعي وازداد إيمان الجزائريين في استقلال بلادهم خلال الأربعينيات، وذلك بفضل جهود: المدارس الحرة التي أنشأتها جمعية المسلمين الجزائريين، والتي كونت قاعدة ثقافية معتبرة لتهيئة الشعب لقبول الأفكار الجديدة، والوعي بالهوية الثقافية، إضافة للمنشورات والصحف التي راجت بفعل توسّع دائرة التعليم ونشأة الأندية الثقافية والرياضية، فتأسست جمعية الشبيبة الإسلامية بالمدية وفرقة رضا باي للتمثيل والموسيقى، وكذا فرقة المسرح الجزائري التي أسسها مصطفى كاتب وانضم إليها كل من رضا حوحو محمد الصالح رمضان محمد الطاهر فضلاء عبد الحليم رايس محمد العيد أل خليفة، أحمد توفيق المدني وعبد الرحمان الجيلالي..
غلبت الموضوعات الاجتماعية الإصلاحية على مسرح ما بعد الحرب الكونية الثانية، الذي يعبر عن رؤية أكثر نضجا من ناحية الموضوع والمعالجة الفنية. وعالج قضايا شتى كالخمر والنفاق والدجل والسحر والبخل في المجتمع الجزائري خلال تلك الفترة، لأنه تعذر طرح الموضوعات القومية والسياسية، لكن هذا المسعى كان يعمل في اتجاه المحافظة على الهوية الوطنية.
آمن رواد المسرح هذه القوة وهذه المهمة لفنهم من البداية، وأرادوا استعمال هذا السلاح في خدمة الثورة تماما كما استعملوا هذا السلاح في خدمة الأفكار الوطنية ومعالجة الآفات الاجتماعية وإعداد مجتمع خلال المرحلة السابقة. ومن المسرحيات الثورية التي نمت الوعي بالذاكرة الوطنية مسرحية (مصرع الطغاة) للكاتب عبد الله الركيبي وتروي المسرحية نضال الشباب المتشبع بالأفكار الوطنية والحامل رسالة جبهة التحرير الوطني في التعبئة والنضال ضد المستعمر، ويسعى لإقناع مزيد من الجزائريين بالحرب والتحرّر من الاستعمار، واستكمال طريق الجزائريين الأوائل حيث يقول بطل المسرحية بشير في ما يشبه بيان الثورة: رفاقي الأحرار.. باسم الله.. وباسم الشعب الجزائري الحر.. نرفع علم الكفاح في وجه الاستعمار الفرنسي اللعين.. وباسم الحرية المقدسية التي كافح من أجلها الأمير عبد القادر وذهب ضحيتها مئات الملايين من أبناء الجزائر الأحرار.. باسم هؤلاء جميعا: نعلنها صرخة مدوية في وجه فرنسا الظالمة..
وأما المسرحية الثانية التي تبرز انخراط المسرحي في العمل الثوري هي مسرحية (دم الأحرار) للمسرحي عبد الحليم رايس، وتتعرض للثورة الجزائرية، ونضال مجموعة من المجاهدين الذين يخوضون المعارك باحترام شرف الحرب، حيث يتم تحرير أسيرين فرنسيين يحسن المجاهدون معاملتهما، بأمر من قيادة الحكومة المؤقتة فيصيرون أحرارا، كما حرروا جنديا ألمانيا لكنه يأبى العودة إلى القوات الفرنسية ويفضل البقاء مع الجيش الجزائري والانضمام إلى صفوفه.
ومن جهتها آمنت جبهة التحرير بسلاح الفن وقوته في إسناد الثورة والتعريف بها، وتمكينها من تحقيق ثمارها، ولذا أنشأت فرقة مسرحية في تونس عام 1958 وعُيّن المسرحي الكبير مصطفى كاتب رئيسا لها، ولعبت دورا رائدا في مجال التعريف بالقضية الجزائرية للرأي العام العربي والدولي.
وتعكس مسرحيات مصطفى كاتب هذا الارتباط بالهوية والذاكرة من خلال أعمال عنترة بن شداد، الجثة المطوقة لكاتب يسين، الكاهنة، حجا باع حماره.
ففي ديسمبر 1954، أي بعد شهر من اندلاع الثورة التحريرية كتب كاتب ياسين مسرحيته «الجثة المطوقة» ونشرت في المجلة الفرنسية esprit قبل أن تمثل خارج الوطن في بلجيكا عام 1958، وكانت الثورة الجزائرية قد أخذت سيطا واسعا وانتشارا مبهرا في العالم، وعكست هذه المسرحية فلسفة الثورة الجزائرية وحملت معاناة الجزائريين واضطهادهم من طرف الاستعمار، بهدف إطلاع الرأي العام العالمي على مأساة الشعب الجزائري بما في ذلك الرأي العام الفرنسي لأن المسرحية عرضت أيضا بباريس عام 1959. كما استمر آلق الثورة حتى بعد الاستقلال يلهم المسرحيين الجزائريين أمثال ولد عبد الرحمان كاكي في مسرحيته (132 سنة)، وهي مسرحية تلخّص تاريخ نضال الجزائري منذ الاحتلال الفرنسي إلى الاستقلال.
ويسعى المسرح بإعادة الكثير من أعمال النضال والثورة ومدى الارتباط بها بعد الاستقلال، ويحاسب كل الذين يحيدون عن نهج هذه الثورة المقدسة ورسالة شهدائها، كما ينصّ على ذلك عرض (الشهداء يعودون هذا الأسبوع) وكانت سير الكثير من الشخصيات الوطنية مادة لفن التمثيل الجزائري، (المسرح، التلفزيون والسينما) ورسخّت صور الكثير من الأبطال في مخيلة وذاكرة الجزائريين، وهي طريقة سلسلة للمحافظة على الذكرة وأقوى من الدروس التاريخية المباشرة.