يعتبر التّعذيب لدى المستعمر الفرنسي منذ السّنوات الأولى للاحتلال من بين أهم الاستراتيجيات التي ركّز عليها لوأد المقاومات الشّعبية، ومختلف الثورات التي قام بها الجزائريّون وصولا لثورة نوفمبر المجيدة، حيث ركّزت فرنسا الاستعمارية على التعذيب إلى غاية الاستقلال عبر المحتشدات العسكرية، ومراكز التعذيب التي خرقت فيها أبسط حقوق الإنسان، والتي لا تزال آثارها قائمة في النفوس والأبدان لغاية اليوم.
يتّفق المؤرّخون والباحثون على أنّ فرنسا الاستعمارية بدأت في تعذيب الجزائريين منذ 1830، ولم تتوقّف عن التنكيل بهم مخلّفة بذلك جروحا لن تندمل وجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم نظرا للألم النفسي والجسدي الكبير الذي تسبّبت فيه هذه المحتشدات العسكرية.
«الشعب» التقت الباحث في التاريخ والاعلامي، شريف قوارف، للحديث عن ممارسة فرنسا الهمجية في حق المجاهدين والمدنيين العزل في مراكز التعذيب التي كانت تعد مسرحا ميدانيا لأبشع الجرائم التي لا تزال صورها راسخة وحيّة في ذاكرة المجاهدين، الذين استرجعوا في لحظات تأمّل وتفكير تلك المشاهد الصّادمة والمرعبة.
فيرمة طبيعية ورحى مركزان للتّعذيب
أكّد الأستاذ قوارف شريف أنّ فرنسا الاستعمارية تفنّنت في تعذيب الجزائريّين بشتى الأساليب والطّرق، محاولة منها طمس هويّتهم بتحويل فيرمات إلى محتشدات ومراكز تعذيب للمجاهدين والمدنيّين على غرار ما حدث بعين التوتة منذ دخولها أول مرة ذات سنة 1844م.
عادت «الشعب» إلى بعض هذه المحتشدات وما تحمله من تفاصيل مؤلمة تُخلّد لتلك المرحلة المفصلية من تاريخ الجزائر الضّارب في أعماق الحضارة الإنسانية وزيارة أحد أهم المعتقلات بمنطقة الأوراس المتواجد بمدينة عين التوتة المجاهدة، وهو معتقل «رحى ميير»، يقع في المدخل الجنوبي لمدينة عين التوتة بباتنة، ويعتبر معلما تاريخيا وشاهدا حيّا على فظاعة الجرائم التي ارتكبها الجلاّدون في حق المجاهدين والمدنيّين، الذين ضحّوا من أجل جزائر حرّة مستقلّة.
«رحى ميير» أو معتقل العار أو مركز الأشباح مثلما يحلو لكثيرين تسميته، هو قطعة أرضية ذات طبيعة فلاحية جزء منها مسقي، وقسم منها فيه بستان، وشجرتين من نوع الإجاص، يحدّها واد القصور من الجنوب الغربي، ويحدها واد سوناسي وجنوب شرق أرض البلدية، وفي الشمال تحدها أرض أولاد رداح، على هذه الأرض شيّدت عدة بنايات بالحجر والجير، والرمل، ومغطّاة بقرميد المنطقة، وهو عبارة عن بناية فيها طاحونة الفرينة، تشتغل عن طريق انحراف وادي القصور مجهّزا بتربينات، ومرفوعة من جهة على مستوى الأرض بطابق سفلي يحتوي الطابق الأخر على جهاز تنظيف وغسل.
أمّا الطابق الأرضي ففيه أسطوانة ذات سرعتين وعجلتين مزدوجتين من صنف La ferte، أما في الطابق الأول فهو حسب ما يتّضح من هذا المعلم التاريخي المهمل غربال مقسم، وثلاث رافعات وبكرات نقل إلى رمح القيادة مع مصعد الشحن.
وهناك بناية أخرى ذات طابق أرضي عادي مجاورة للسابق تستعمل كاسطبل لتربية الحيوانات على غرار الماعز، الخرفان، الدواجن وغيرها وهناك ايضا بنايتان آخرتان منفصلتان تستعملان كاسطبل أيضا، وبناية بالطوب سقفها قرميد فرنسي، ومستودع كبير مبني بأعمدة بقرميد فرنسي.
يتواجد بالمنطقة قطعتي أرض الأولى ذات مساحة 6.4 آر، وهي جزء من قطعة سهل رقم 14 من مخطط ماك ماهون (وهو الاسم الذي أخذت مدينة عين التوتة حاليا تسميتها الإدارية)، محاذية من الجانبين نفس القطعة المذكورة، ساقية منحرفة في الجنوب هي عبارة عن جدول في الشمال، والقطعة الثانية مساحتها حوالي 40 آر تشكّل القطعة رقم 15 من نفس المخطط، وتتّصل بالقطعة المذكورة سابقا بالفائض من قطعة 15 المحاذية لقطعة فيرنادي في الشمال.
وكل هذه القطع حسب الباحث في شؤون التاريخ بالمنطقة، شريف قوارف، تعبرها القناة التي سبق ذكرها، ومجموع مصنع الكهرباء بمركز عين التوتة، آلات، عجلات ميكانيزم، أجهزة تشغيل، آلات قياس ودلاء، وغيرها.
وتوجد بالقرب من هذا المعلم الذي حوله الفرنسيون لمحتشد لتعذيب المجاهدين بئر عميقة بداخل إحدى بناياتها كانت تستخدم لأغراض متنوعة يعود تاريخ بناء الرحى بين 1880 إلى 1904، نظرا لدخول قوات الاحتلال إلى مدينة عين التوتة سنة 1844، والكولون عام 1872، حيث كان الرحى ملكا لأحد المعمرين اليهود، ثم صار ملكا لمارسيل ميير.
معتقل العار يُوثّق لهمجية الفرنسيّين
يتحدّث شهود التّاريخ عن عرض البناية وكل ما فيها للبيع في المزاد العلني ذات ثلاثاء من عام 1939 عن طريق المحكمة، لأنّ صاحبها أثقلته الديون، فاضطر إلى بيعها عن طريق المحكمة، وإبان الثورة التحريرية المباركة وبالضبط سنة 1956 تحوّلت هذه الفيرمة إلى محتشد ومعتقل ومركز تعذيب (اليد الحمراء)، ويكفي أن يُذكر لدى الأسرة الثورية بالمنطقة لتعود إلى أذهان المجاهدين وعائلاتهم فصول العذاب الأليم، الذي ذاقوه على أيدي المستعمر الغاشم.
وفي هذا الصدد، يشير الأستاذ قوارف إلى أن الآراء والشهادات الحية حول محتشد اليد الحمراء بعين التوتة متباينة، بين من كان يدير والمسؤول الأول عن المعتقل، فمنهم من يرى أنّ فيلكس وأحدهم يقول النقيب «شابو» ومجاهد آخر يقول «جعفر» كان سيد التعذيب بالمحتشد، وفعلا قام بأعمال وحشية في حق المجاهدين وذويهم وأذاقهم أشد نواع العذاب، وهو من أصل يهودي حيث قُتل أبوه في الجزائر العاصمة من طرف المجاهدين، وجاء إلى عين التوتة بنية الانتقام والثأر لأبيه.
وقد حاولت اليد الحمراء، في هذا المركز بشتى الطرق والوسائل أن تطيح من عزيمة المجاهدين وتقهرهم ليعود عن هدفهم الأساسي، وهو مواجهة الاستعمار والسعي بكل ما أوتوا من قوة للتحرر، فلم تنفع الأساليب الوحشية ضدهم من الفرنسيين، لأن الثبات والإيمان بعدالة القضية كان أقوى من كل مخططات الاستعمار الفرنسي.
مجاهدون يتذكّرون تفاصيل صادمة
لا يزال المجاهد عمار تواتي يتذكّر تفاصيل صادمة وقاسية عن هذا المعتقل، وكيف ألقي عليه القبض بقرية «بتافرنت» ليتم نقله مباشرة إلى منطقة الغجاتي، ثم إلى مركز التعذيب حرى ميير، ومُورست عليه شتى أنواع العذاب وفصوله، حتى أنه أجبر مع آخرين من الجنود على الغطس في حوض ماء متجلد، وهم مجردين من الثياب في طقس بارد أفقد غالبيتهم الوعي نظرا لقساوة الطبيعة في فصل الشتاء في المنطقة التي تتميز بانخفاض شديد في درجات الحرارة.
أما المجاهد إبراهيم بوعكاز، الذي كان عضوا في اللجنة المكونة من 35 عضوا منهم بلحسن، معتصم ومحمد هوادف السويسي، والشهيد الرمز قوارف لخضر الذي يترأّس اللجنة، ألقي عليهم القبض جميعا في فسديس، ليأخذوا نصيبهم من حقد الفرنسيين وغطرستهم عبر تعذيبهم بطرق وتقنيات بشعة جدا تقشعر لها الأبدان بمجرد تذكرها، ليحولوا حسب قوارف إلى بورعباس بالقنطرة.
أما المجاهد موسى زيتوني فيتذكر رحى ميير بكثير من الألم، ويشير إلى أنه كان من بين المجاهدين الذين تلقوا تعذيبا قاسيا بالمحتشد في مدينة عين التوتة من طرف أحد الحركى المعروفين، ويروي تفاصيل أحد فصول العذاب أنه أجبر على الجلوس على كرسي مقيد اليدين والرجلين، ووضعوا الخيط المكهرب في أماكن حساسة من جسمه عدة مرات، حتى فقد وعيه، وهم يسألونه بخصوص علاقته بأحد المجاهدين الذي نغص عليهم عيشهم بسبب بطولاته، ليتم تحويله إلى الرحى (مركز التعذيب) ووضعوه في إحدى الغرف المظلمة والموحشة، وكأنه في مدينة أشباح والهدف هو تخويفه ليعترف بما يملك من معلومات عن الثوار.
ويواصل الأستاذ قوارف سرده لتفاصيل تعذيب المجاهدين في هذا المركز بالقول، إن المجاهد موسى زيتوني تعرض للاستنطاق في منتصف الليل من طرف اثنين من العسكر، وهما جزائريان مجندان مع فرنسا، طرحا عليه عدة أسئلة حول هوية بعض المجاهدين، ويؤكد أن كل ردوده كانت دائما بالنفي، لتحدث المفاجأة ويقدم له الجنديان خدمة جليلة تتمثل في مساعدته على الهرب، حيث تقدم إليه أحدهم مبتسما وقال له: هل تريد الهروب؟
فصول مؤلمة وصور همجية للتّنكيل
قاما بمساعدته فعلا على ذلك وإعطائه حقيبة ظهر فيها ألبسة وخراطيش وقنابل يدوية وبعض الأغراض، وجهاه إلى المسلك الذي سيأخذه وقالا له: اجتز الوادي لتتجنب نباح الكلاب، وغيرها من التوصيات، وأعطياه رسالة شفهية ليبلغها لأحد، ويضيف انه اجتاز الوادي، واتجه صوب قرية تمارة، ثم معافة محملا بالغنيمة حتى وصل إلى معسكر جيش التحرير.
ومن بين العائلات التي اعتقلت وعُذّبت نجد حسب الباحث قوارف عائلة مجاهدة من دوار أولاد سلطان بعين التوتة دائما، اعتقلت بكاملها، ونقلت إلى مركز التعذيب، حيث تعود تفاصيل مأساة هذه العائلة، عندما كان العدو الفرنسي في عملية تمشيط واسعة ودقيقة بجبل أولاد سلطان، وشى أحد العملاء بأن عائلة بوهنتالة تدعم المجاهدين، وتقدم لهم المؤونة والمساعدة في كل مرة، ويكشف مكان تواجدهم داخل المركز «المخبأ»، فتحوّلت مباشرة عناصر جيش الاحتلال الفرنسي وبسرعة نحو المكان المذكور، ليلقوا عليهم القبض داخل «الكازما»، فأخرجوهم الواحد تلو الآخر مع الضرب والشتم والإهانة، وقام أحد الجنود الفرنسيين بضرب الشهيد موسى بوهنتالة بمؤخرة الكلاش ضربة واحدة على صدره أسقطته أرضا، وعندما سقط أضاف له ضربتين من الخلف، فسقط شهيدا بعين المكان وعلى مرأى ومسمع من باقي أفراد عائلته بغية ترهيبهم.
وكان الشّهيد معلم القرية، وكاتب مع المجاهد أحمد أو بالة المكلف بتموين المنطقة الأولى (دلندة أحمد)، حيث كان يمون جزءا من المناطق الشرقية، من المخازن الموجودة في «إقرعمر» وهي كازمة بأولاد عوف، ثم اقتادوهم نحو مركز التعذيب، بعد حرق المنازل واتلاف المحاصيل وكل من صادفهم حتى الحيوانات لم تسلم من بطشهم وتجردهم من الإنسانية.
وكان من بين أفراد العائلة الذين اعتقلوا وتعرضوا للتعذيب المجاهد مسعود بوهنتالة، مسؤول الفدائيين، عذب أشد العذاب، حيث تفنّن الجلاّدون في تعذيبه بالمناوبة، لكنه بقي صامدا شامخا كصمود جبال الاوراس الأشم، وقبل الاستقلال بأيام حول إلى المستشفى، وأطلق سراحه بعد الإستقلال مباشرة، أما عبد السلام بوهنتالة ومجيد بوهنتالة، فأطلقا سراحهما لصغر سنهما بعد تخويفهما واهانتهما بالضرب على الخد، حيث مكثا قرابة عشرين يوما.
أما المجاهد أحمد رحمون، فيتذكر تعذيبه بهذا المركز أين تم وضعه رفقة 12 معتقلا في غرفة واحدة، لا تتسع إلا لـ 5 أفراد، وهذه هي الإهانة والتمهيد للعذاب النفسي ثم الجسدي، ونظرا لكبر سنه وقساوة التعذيب الذي تعرض له في تلك الفترة، حال ذلك دون تذكره لإسم الجندي الفرنسي الذي قام بتعذيبه، مرجحا ان يكون اليهودي فيلكس، هذا الأخير كان يأتي ليلا، ذو لحية سوداء، وفي النهار لا توجد تلك اللحية، يبدو أنها مصطنعة لإدخال الرعب في قلوبهم، ويتلذذ بتعذيبه برميه في الماء المتجلد في الشتاء ومجرد من الثياب، وربطه من رجليه ورميه في الجب بالحبل رأسه من تحت ورجليه من فوق، حتى يفقد وعيه، وتتكرر هذه العملية عدة مرات، وآخرها أجلسوه بعنف وقوة على زجاجة خمر، ثم أجبروه على شربها.
إنّ معتقل رحى ميير عيّنة بسيطة عن المعتقلات ومراكز التعذيب التي تجرّدت فيها فرنسا من إنسانيتها بتحويلها إلى مراكز تعذيب ومحتشدات، لا تزال شاهدة على الجرائم التي ارتكبتها في حق الجزائريّين.