طباعة هذه الصفحة

المستهلك في مواجهة ‘’بارونات’’ أسواق الجملة

اقتصاد النفقات وترشيد الاستهلاك في غياب الرقابة

سعيد بن عياد

لا يتوقف الحديث عن واقع أسواق الجملة للخضر والفواكه أساسا، فمنها ينطلق العمل التجاري نحو أسواق التجزئة بكل ما يرافقه من غلاء ومضاربة وتلاعب بالأسعار في غياب تنظيم محكم، كما سبق وأن أعلن عنه في الماضي دون أن تتحقق مشاريع لتنظيم هذه الأسواق. هذه الأخيرة يحج إليها التجار وغيرهم من المضاربين الموسميين ليفرضوا على المستهلك قانونهم الجائر، ويضاعف من ظلمهم تجار التجزئة الذين قادهم الجشع ونزعة الربح السهل إلى استهداف جيوب المواطنين واستنزاف الميزانية الغذائية للعائلات، مستغلين أيضا سقوط المستهلك عموما بغنيّه وفقيره في متاهة ‘’اللّهفة’’ والانصياع لنزوات المعدة التي سرعان ما تنسى في الغد ما استهلكته بالأمس.
تبقى أسواق الجملة خارج دائرة الشفافية، بالرغم من التصريحات التي يطلقها ‘’بارونات’’ التجارة محاولين عبثا إبعاد مسؤوليتهم في الارتفاع الفاحش للأسعار في ظل وفرة المنتجات والمواد التي تزخر بها الفلاحة. إلى اليوم لاتزال هذه الأسواق تستفيد من معادلة حرية الأسعار، لكنها تمتنع عن العمل بنظام الفاتورة التي تمثل الحلقة الأساسية في قطع دابر المضاربة ومن ثمة إرساء مسار شفاف لمسلك المنتوج وتحديد سعره وهامش الربح القانوني.
المشكلة القائمة اليوم في أسواقنا، تكمن في غياب معايير لضبط هامش الربح لتاجر الجملة ونظيره للتجزئة، وهو من اختصاص ومسؤولية مصالح قطاع التجارة المكلفة بمهام ضبط التجارة ومنع تحويل الأسواق إلى فضاءات تعمل خارج القانون وتدوس على الأخلاقيات.
شهر رمضان لهذه السنة كشف من جديد الواقع المقلوب لأسواق الجملة التي تحتاج لإعادة تحكم في دواليبها بضرورة تدخل جهات إدارية مختصة تلزم أصحاب المربعات بالعمل بالفوترة، خاصة مع وجود منظومة الوسائل التكنولوجية والرقمية، وإخضاع المحلات حيث تودع السلع المستقدمة المنتجين للمراقبة من أجل الحد من التخزين والتلاعب بها. الوسطاء في هذه الأسواق يتحملون من جانبهم مسؤولية في التهرب من الوضوح، خلافا لما تقتضيه شروط الاحترافية التي ترتكز عليها مهنة التاجر المهني الذي يقتنع بهامش معين من الربح ويساهم في ترقية النشاطات التجارية مسقطا من سلوكاته كل الممارسات المنبوذة بما فيها الغش في الميزان وبيع مواد فاسدة مضرة بالمستهلك.
تمتد المسؤولية في ضبط النشاط التجاري لباعة التجزئة، الذين وقع أغلبهم في المحظور باعتماد ممارسات غير شريفة تجاه الزبائن، مستغلين فوضى السوق وارتفاع نسبة الاستهلاك لعوامل عديدة، منها التحسن الملموس للدخل الفردي ونمو نسبة السكان. أكثر من هذا، تنتهز هذه الفئة من التجار أو جانب معتبر منهم غياب مرافق التجارة في الأحياء السكنية الجديدة ليفرضوا قانونهم على المواطن، الذي يستسلم في نهاية المطاف للأمر الواقع. لكن هناك قلة من التجار المتنقلين على متن مركباتهم المحملة بمواد من الخضروات والفاكهة الموسمية بالأخص، يجوبون الأحياء والقرى لفائدة المستهلكين بأسعار تبدو أحيانا في المتناول، لكن في أحيان أخرى على حساب النوعية التي يجب أن يحسم فيها المستهلك بالدرجة الأولى.
وبالفعل، يبقى أمر إعادة التوازن إلى أسواق الخضر والفواكه على عاتق المستهلك بالدرجة الأولى، كونه الضحية والسبب في الغلاء.
لمواجهة هذه الظاهرة المزمنة يمكن للمواطنين المساهمة في الحد منها بالتزامهم جملة من السلوكات المتمدنة، مثل التقليل من التردد على الأسواق خارج إطار الحاجة الملحة، الامتناع عن اقتناء مواد يلاحظ عليها ارتفاع السعر بشكل مستهجن أو تفتقر للجودة، اقتناء الحاجة الملحة لليوم الواحد ونبذ تخزين المواد بفضل وفرتها هذه السنة بشكل غير مسبوق، الحرص على إلزام التاجر ببيعه مواد جيدة وذات نوعية ورفض التعامل معه إذا لم يحترم التاجر زبونه، وإفهام التاجر بأن المستهلك يعي ما يقتنيه ويحسن قراءة السوق ومن ثمة لا مجال للتحايل عليه. غير أنه لا تبدو المهمة سهلة في مواجهة فئة “تجار فجار” يمتهنون التحايل والغش بحيث يضعون في الواجهة نوعية جيدة ويبيعون للمواطن أخرى ذات جودة أقل.
في انتظار استكمال إنجاز مشاريع أسواق الجملة التي طال انتظارها، يمكن الشروع في إعادة ترتيب تلك الموجودة بإخضاعها لمعايير الشفافية والاحترافية. أمر آخر جدير بالتناول، يتمثل في تأطير الأسواق الجوارية مع تنظيم حركة التجار الذين يحتلون الطرق، خاصة في المناطق ذات الازدحام الكبير، بانخراط البلديات في تطبيق حلول كإحداث مواقع لأسواق مؤقتة تنشط لنصف يوم أو مرة في الأسبوع مع جرد كافة الباعة وإلزامهم بدفع إتاوة مقابل ما يحدثونه من ضجيج وتلوث.
لقد حان الوقت لأن يلتزم كل بمكانته، فلا تترك التجارة عرضة للتسيّب بلا حسيب ولا رقيب، وخير علاج يبدأ من أسواق الجملة بكسر إرادة بارونات يتداولون مواردَ وأموالا يجب أن تشملها الشفافية، إلى تاجر التجزئة الذي يجب أن تطبق عليه قواعد النظافة، مرورا بالمستهلك الذي يجب أن ينتقل إلى درجة متقدمة في التمتع بثقافة اقتصاد النفقات وترشيد الاستهلاك. والأهم أن تلعب الجهات المكلفة بالمراقبة دورها كاملا والتوقف عن التحجج بأن التجارة حرة، ويا لها من حرية حولت أسواقنا إلى غابة لا يحكمها قانون.