استقطاب ملايين المريدين للزوايا والمزارات
دور كبير للزاوية التجانية في أفريقيا
اعتبر الباحث في التاريخ المعاصر الدكتور أحمد غريسي في نقاش مع «الشعب ويكاند’»، السياحة الدينية قوة ناعمة، وأحد روافد التنمية المحلية والإقتصاد الوطني، واستثمارها وتطويرها وفق الوسائل والمناهج الحديثة سيدر عملة صعبة، ويسهم في تنمية ودعم الاقتصاد الوطني، مؤكدا أن الزوايا والمزارات في الجزائر تحظى بزيارات الملايين من مختلف أنحاء العالم، لا سيما من دول إفريقيا.
- «الشعب ويكاند»: ماذا عن السياحة الدينية في الجزائر، وأي الدول أكثر إقبالا لزيارة الزوايا والمزارات الروحية في بلادنا؟
الدكتور أحمد غريسي: للجزائر مؤهلات كثيرة مقارنة بغيرها من الدول تؤهلها لتصدّر السياحة الدينية أو الروحية المغاربية والإفريقية والعربية، وامتلاكها العديد من المساجد والقصور والزوايا والأضرحة والكنائس، غير أنّ السياحة الدينية بها محتشمة وضعيفة طيلة العقود الماضية بسبب فقدان الهياكل القاعدية اللازمة، ونقص في وسائل النقل السياحية، وكذلك لانعدام اتفاقيات بين الجزائر ودول في إفريقيا والعالم في مجال الرحلات الجويّة السياحية التي تُسهّل استقطاب مريدي المزارات الدينية والروحية.
وفي السنوات الأخيرة عرفت زوايا الطريقة التجانية بعين ماضي وتماسين وقمار، وأيضا بمدينة أبي سمغون مهد الطريقة، إقبالا كبيرا من الشعوب الإفريقية خاصة من دول السودان ومالي والنيجر والسنغال وتشاد.
وأحصى بشير مصيطفى ثلاثة وثلاثون طريقة صوفية في الجزائر، حيث يصل عدد أتباع هذه الطرق إلى 300 مليون مريد عبر العالم، وأكثر من 900 زاوية، وضرب على سبيل المثال أن استقطاب مليون مريد للطريقة التجانية وحدها في السنة يمكّن دعم الاقتصاد الوطني بمليار أورو، وهو ما يساوي كامل إيرادات التصدير الوطنية خارج المحروقات في السنوات الماضية.
وفي هذا الصدد صرّح الشيخ عبد الباسط عبد الرحيم ممثل المشيخة التجانية بدولة تشاد بأنّ الجزائر وتشاد تجمعهما رابطة الوحدة الإسلامية والرابطة الصوفية التجانية منذ بدايات القرن 19، وذكر أنّ التشاديين كانوا يزورون الجزائر عبر الجمال والخيل، ويتلقون النصائح من الشيخ التجاني، وإلى غاية اليوم شعب تشاد يزور عين ماضي وآثار الشيخ التجاني. والمعروف أيضا أن شعب تشاد دعم الجزائر وناصرها أثناء الثورة التحريرية، وبذلك تعمقت العلاقات التاريخية والدينية بين الشعبين، كما بيّن أحمد غومبو نائب رئيس مكتب الإعلام بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بتشاد بأنّ لتشاد طريقة واحدة هي الطريقة التجانية.
- هل سيكون للسياحة الدينية دور في التنمية المحلية موازاة مع إعطاء مجال السياحة الوطنية بكل أشكالها أولوية في مخطط عمل الحكومة؟
تمتلك الجزائر عدة معالم وآثار دينية ومزارات روحية، ومساجد وزوايا وأضرحة وقصور، مثل ضريح سيدي الرحمان الثعالبي بالجزائر، وضريح سيدي بومدين شعيب بتلمسان، ركب أولاد سيدي الشيخ، ومسقط رأس مؤسس الطريقة التجانية أحمد التجاني، وأول زاوية تجانية في العالم وهي زاوية قمار التي تأسست سنة 1789م، وزاوية تماسين ومؤسسها سيدي الحاج علي التماسيني، حيث تحظى كلّ هذه المزارات بزيارات سنوية بالملايين من مختلف أنحاء العالم خاصة دول إفريقيا، ومهد الطريقة التجانية بعين ماضي وأبي سمغون يزورها سنويا الآلاف من الأفارقة والمريدين وحتى رؤساء دول.
مخطط الحكومة الجديد الذي جاء لإعادة تفعيل دور السياحة الدينية في الجزائر التي طالها النسيان لعقود من الزمن، ومحاولة إخراجها إلى دائرة المنافسة السياحية سواء المغاربية أو الإفريقية أو العربية والإسلامية عموما، سيجعلها أحد روافد التنمية المحلية والاقتصاد الوطني، بما يتماشى مع سياسة الدولة للخروج من التبعية للمحروقات وتنويع مصادر تمويل الخزينة العمومية.
الإستثمار في السياحة الدينية هو قوة ناعمة حقيقية، وتطويرها وفق الوسائل والمناهج الحديثة من المؤكد سيدر عملة صعبة ويسهم في التنمية ودعم الاقتصاد الوطني.
- كباحث في التاريخ كيف ترون دور وتأثير الزوايا في إفريقيا، لا سيما الزاوية التجانية التي انتشرت في كل القارة السمراء؟
للطرق الصوفية والزوايا تأثير كبير على شعوب إفريقيا والعالم اليوم، وهذا يعود بنا إلى دراسة ماضي هذه الدول، فالطرق الصوفية عموما وخاصة السنوسية والقادرية والتجانية ساهمت بفعالية في نشر الإسلام في القارة الإفريقية وتصدّت للمخططات الاستعمارية الرامية إلى استغلال ثروات هذه الشعوب ونهبها، وبفضل هذه الطرق الصوفية عمّ الإسلام والسلام والأمن من خلال تأسيسها للمساجد والزوايا والكتاتيب ودور العلم، لهذا نجد معظم شعوب القارة الإفريقية منتمون للطرق الصوفية خاصة الطريقة التجانية التي تعرف انتشارا واسعا جدّا في القارة، وحتى في أوساط الحكام والرؤساء، ويحظى مشايخها بالتقدير والامتثال، ويرون فيهم القدوة الحسنة والنصح والإرشاد.
وبالرغم من ظهور الطريقة التجانية متأخرة في إفريقيا مقارنة بالطرق العتيقة الأخرى، إلا أنها استطاعت أن تنتشر بسرعة في القارة لا سيما في جنوب الصحراء، وبفضلها عمّ الإسلام في المنطقة، فالشيخ محمد الحافظ العلوي الشنقيطي الذي أخذ الطريقة سنة 1803 عمل على نشرها في موريتانيا، ومنها انتقلت إلى دول إفريقيا على يد الشيخ مولود فال (1774- 1818)، والشيخ عبد الكريم بن أحمد النقيل الفوتي الذي لقنها للشيخ الحاج عمر الفوتي (1788- 1864)، واستطاع هذا الأخير نشر الإسلام ومبادئ الطريقة التجانية في عدة دول إفريقية ما بين 1846 و1864م، وبلغت اثنا عشرة دولة إفريقية حاليا وامتدت من دولة مالي إلى غانا مرورا بالسنغال والنيجر ونيجيريا ووسط إفريقيا، إذ اصطدم رجال الطريقة بالمخططات الاستعمارية الفرنسية، إلا أنهم استطاعوا نشر الإسلام بين الجماعات الوثنية في وسط وغرب إفريقيا وبلاد السودان عموما.
كما انتشرت الطريقة أيضا في غرب إفريقيا على يد الشيخ محمد الحفيظ بادي، والشيخ محمد المختار سال (1860- 1930)، والشيخ أحمد باه المسمى الشيخ صمبليللي الفولاني، والشيخ إبراهيم نياس الذي ذاع صيته في أمصار العالم الإسلامي وحتى في أوروبا وأمريكا، وكلّ هؤلاء ساهموا في نشر الإسلام والطريقة التيجانية في القارة الإفريقية خاصة في المناطق الساحلية: الغابون، غانا، الطوغو، كوت ديفوار وغيرها، وكانوا يؤسسون المساجد والزوايا في كل منطقة.
ويذكر الأمير شكيب أرسلان في كتاب حاضر العالم الإسلامي «أن إفريقيا كادت أن تكون كلها إسلامية لو لا قضاء فرنسا على السلطنة التجانية هذه»، مؤكدا أن الشيخ أحمد التجاني كان يتظاهر بالتسامح مع غير المسلمين ثمّ استعملت الطريقة التجانية القوة في نشر العقيدة الإسلامية، وبذلك أصبحت مسيطرة على بلاد السودان طوال أربعين سنة، وانتشرت في القارة السوداء كلها، وعرفت العاصمة دكار بالسنغال وحدها ما يقارب مائة زاوية. كما صرّح رئيس جمعية رابطة الأشراف آل البيت الفاطمي بدولة تشاد محمد شريف بأنّ عدد التجانيين في دولة تشاد يعدّ بالملايين وأنّ «هدف الطريقة في العالم نشر الإسلام والبحث عن سبل العيش بسلام لكل المسلمين في العالم».
وأثناء مشاركته في الملتقى الدولي الثاني للطريقة التجانية بعنوان الخطاب الصوفي التجاني «زمن العولمة، علم- عمل- عبادة» أيام 4 و5 و6 نوفمبر 2008، بزاوية قمار في ولاية الوادي ذكر الشيخ «لمين نياس السنغالي» في محاضرة له أنّ الطريقة التجانية تختلف عن بعض الطرق الأخرى لكونها منفتحة ومنسجمة وتعمل على تكوين الأجيال بدرجة عالية من قيم الإيمان والصدق والرحمة والحرية والعدالة والعمل، لذلك فهي تتميّز بشهرة خاصة في إفريقيا. كما يضيف الشيخ يحيى جبريل نيانغ بدكار-السنغال، أنّ الطريقة التجانية بثّت روح الأخوة والمحبّة والتسامح بين الأفراد والجماعات من أجل الوقوف ضدّ المحتلّ، وبفضلها عمّت «الحركة الجهادية في كافة مناطق إفريقيا الغربية».
- هل لدى الزوايا برامج ترويجية للتعريف بموروثها الديني والحضاري في الداخل والخارج، وماذا تقترحون لتفعيله موازاة مع إجراءات دعم السياحة الدينية؟
طبعا للزوايا برامج ترويجية خاصة بها من أجل التعريف بموروثها الديني والحضاري والتاريخي، غير أنّ هذه البرامج محتشمة ولا تحقّق الغاية المنشودة، ولا تليق بدورها الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهناك زوايا تروّج لموروثها بإمكانياتها الخاصة، إذ لابدّ من تظافر جهود الدولة والزوايا من أجل التعريف أكثر بهذه المعالم والمزارات، وهنا يأتي دور الإعلام الوطني من خلال تخصيص مساحات وحصص تلفزيونية وإذاعية هادفة، والترويج للسياحة الدينية بإبراز معالمها وأدوارها التاريخية والحضارية، إضافة لإدراج الزوايا والمزارات الروحية في البرامج المدرسيّة، والتعريف بمشايخها وأعلامها واعتبارها كمزارات سياحية دينية، وتقنين الحفاظ عليها وتثمينها وتفعيل دورها.
- ماذا تقترحون لتطوير السياحة الدينية في الجزائر والرقي بها؟
من المهم وضع إستراتيجية وميكانيزمات ملائمة لإعادة الاعتبار للسياحة الدينية في الجزائر، وترميم كلّ المزارات والمعالم الروحية المنتشرة عبر ولايات الوطن، وتهيئتها لاستقبال الأجانب، وتخصيص رحلات جوية وبرية سياحية إليها، وإنجاز هياكل وفنادق مناسبة وقريبة منها، إضافة لاستغلال كل المعالم الدينية العتيقة، والعمل على الترويج لها داخليا وخارجيا.
التوجّه نحو تحسين وضع السياحة الدينية في الجزائر والإهتمام بالزوايا والمزارات والمعالم الروحية المتواجدة على مستوى ولايات الوطن، من شأنه أن يستقطب ملايين الزوار من أفريقيا ومختلف أنحاء العالم، ويُتيح دعما للسياحة والتنمية والاقتصاد الوطني.
- بما أن أغلب مسلمي دول إفريقيا من مريدي الزاوية التجانية، هل سيكون لذلك تأثير إيجابي مع الجزائر؟
الطريقة التجانية كان لها دور ايجابي ولا زال موجودا، وسيظل دورها فعالا في سبيل تحقيق السلام والأمن لكلّ الشعوب الإسلامية في إفريقيا والعالم، فالطريقة تتميّز بفكر عالمي وسطي المنهاج، شعارها المحبة وسيرتها الإصلاح المستمر حسب العصر ومقتضياته، وفي هذا الصدد صرّحت مديرة المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية بدولة نيجيريا البروفيسور «فينمى بارا» أثناء زيارة لها رفقة وفد رفيع المستوى لمقر الخلافة العامة بعين ماضي في ولاية الأغواط، بأنّ زيارتها جاءت من أجل توطيد العلاقات بين البلدين، وأكّدت بأنّ الطريقة التجانية لها باع طويل في حل المشاكل والنزاعات بنيجيريا، وإرساء السلام بين الإخوة الفرقاء.
وقد ساهم الشيخ عبد الجبار التجاني الراحل في حلّ الكثير من النزاعات التي شهدتها الدول الإفريقية، ولا أدلّ على ذلك أزمة دارفور بالسودان التي أرسى لها قواعد السلام والإصلاح، كما قام الشيخ محمد الحافظ التجاني المصري بالصلح بين دولتي مصر والسودان عندما اشتدّ الخلاف بينهما في القرن الماضي.
وفي الجزائر أيضا، نجد أنّ الطريقة التجانية دائما تجنح إلى السلم والسلام الأمن، ورافقت ودعمت مؤسسات الدولة في كل المراحل السياسية منذ الاستقلال وإلى غاية اليوم، وعلى سبيل المثال ما صرّح به الشيخ بلعرابي التجاني والشيخ محمد العيد التجاني التماسيني حول ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2019، ودعمهما للاستفتاء على الدستور الجزائري وكل مسارات بناء مؤسسات الجمهورية وتحقيق استقرارها وقوتها.
- إضافة للزاوية التجانية العتيقة، ما هي الزوايا الأخرى الممتدة في إفريقيا ولها مريدين؟
سعت كل الطرق الصوفية إلى الانتشار وبثّ رسالتها في العالم منذ قرون، وأولى الطرق التي دخلت إلى إفريقيا هي الطريقة السنوسية والقادرية ثمّ التجانية، ثمّ ظهرت عدّة زوايا أخرى متفرعة من الطرق الكبيرة ولها مريدين كثر في إفريقيا مثل المريدية والفاضلية والعينية القادرية، حيث يؤكّد في هذا السياق الأستاذ «محمد الفاتح شعيب محمد السوداني» في محاضرة له حول التربيّة الصوفية بأنّ التربية الروحية القائمة على تجريد النفس من الرذائل وتزكيتها بالفضائل تمثّل القاسم المشترك بين جميع الطرق الصوفية، ولكل طريقة صوفية منهجها وأسلوبها الخاص في تحقيق هذا الهدف المتمثل في الوصول إلى مقام الإحسان الذي هو مقام المعرفة الكاملة بالله.