لن يُعْلِنَ الزمن أبدا عن انتهاء المسيرة الفنية الطويلة الحافلة بالنجاحات والذكريات الجميلة، لنجم يعد من ألمع نجوم التراث الأصيل الذي رحل قبل سبعة أيام فقط عن الساحة الفنية الجزائرية عن عمر ناهز 87عاما، صاحب الروائع الخالدة في قلوب المجتمع الجزائري ملك الأغنية البدوية الحاج رابح درياسة رحمة الله عليه، المعروف ببساطة ما قدّمه من فن راق وبما أسسه من مدرسة متفردة في عالم الموسيقى التي مهدت لأغانيه الموسومة بدوية جزائرية أصيلة مئة بالمائة طريقا مستقيما إلى مختلف البيوت العربية الذواقة للفن الراقي والنظيف.
اعترافا لما قدّمه الراحل الحاج رابح درياسة حرّي بصُنّاع الثقافة والقائمين عليها، التفكير في بداية لتأسيس مرحلة التدوين لحياة رجل قدّم معظم سنوات عقوده التسعة في سبيل الفن البدوي في الجزائر، بل وكل من سبقوه من عمالقة الفن الجزائري بمختلف طبوعه، بدلا من ترك زخما فريدا يحتضن أرصدة فنية الضاربة جذورها في عمق أصالة الوطن بين أيدي التهميش أو للرجوع إليها في كل مناسبة تستدعينا لاستذكار أرواحهم الحيّة في قلوبنا التي لا تحتاج حينها إلى وقفة بكاء على الأطلال بقدر ما تحتاج إلى تجسيد أفكار ملموسة تعنى ببقاء إرثهم حاضرا عبر مختلف أوجه الثقافة، في حين لم تبخل أرواحهم عن تزويد المشهد الثقافي بروائع قدّموها بكل حب ونخوة طيلة حياتهم.
واكب فنّه وفترة انطلاق ثورة التحرير المجيدة
تزامنت فترة انطلاق الحاج رابح درياسة بفنه، وانطلاق أوّل رصاصة من جبال الأوراس الجزائرية لتعلن ثورة التحرير، ليقدّم موسيقاه دعما للمجاهدين، عن الحرية والاستقلال، عن النضال من أجل الكرامة، عن الجزائر المقاوِمة، بعد أن عمل في الكثير من الميادين، لكن الفن كان المحطة الأبرز في تاريخه، عاش عندليب الجزائر بعد استقلال بلاده، فرافق وطنه في كل مرحلة وكان وعاء للأغنية الملتزمة بالهمّ الجماعي.
رصيد فنّي تجاوز حدود الإبداع
خلف الحاج رابح درياسة، أكثر من 100 أغنية، راج معظمها وعاشت لعقود طويلة، فما زال يردد الجزائريون في المحافل الدولية أغنية «يحياو ولاد بلادي»، و»الممرضة»، وآخرها أغنية «أنا جزايري»التي يقول فيها: أنـا الـقـبـايـلي وأنـا الـعـربـي … أنـا الـبـدوي وأنـا الـحـضـري …وأنا الشـاوي وأنـا الـمـزابـي وأنـا الـتـرقـي يالي ماتدري، سميني شرڤي سميني غربي …سميني ڤبلي سميني بحري … أنت تقولي شرڤي غربي وأنا نقولك أنا «جزائري»، حيث دعا من خلالها إلى اللحمة الوطنية التي ستظل شوكة في حلق أعداء الأمس واليوم. وغيرها مما جادت به حنجرة الرّسام الذي ترك الريشة ليعزف العود في موسيقى الأمل والإنسانية، لحّن للعديد من الفنانات الجزائريات أمثال نادية بن يوسف وسلوى كما نشأ ابنه عبدو درياسة على حب الموسيقى وأصبح مغنيا معروفا، وبجانب تميزه في مجال الموسيقى برع درياسة في الفن التشكيلي وأقام عدة معارض لأعمال زخرفية ومنمنمات.
مُطرب يُشبه البسطاء
يعني درياسة الكثير للجزائريين، فهو المطرب الذي يشبه البسطاء، رغم نجوميته ظل وسط الجماهير مواطنا يعشق الشّعر الملحون والقصيدة، وقد استمد إلهامه من معلّمه المعروف لحبيب حشلاف هذا الأخير الذي أصرّ على تقديمه عبر الإذاعة بحر خمسينيات القرن الماضي، انطلق بعد ذلك نحو زملائه في الطرب العربي، على غرار فهد بلّان ومصطفى نصري، فقد غنى بلّان من كلمات وألحان درياسة أغنية بيضاء على كحلة وبنت الجزائر التي كتبها الراحل درياسة ولحنّها تيسير عقلة.
درياسة.. من أشهر روّاد الأغنية البدوية محليا
يعد الحاج رابح درياسة من أشهر رواد الأغنية البدوية في الجزائر، إضافة إلى: خليفي أحمد، قدور بن عاشور، عبد الرحمان عزيز، عبد الله المناعي، عبد القادر خالدي، ووصلت أغانيه حدود الوطن العربي حيث أثارت فضول وإعجاب العديد من المطربين والفنانين، من بينهم المطرب السوري مصطفى نصري، الذي أعاد غناء «خلخالك مال» على مسرح دمشق الدولي سنة 1976، إلى جانب غناء أصالة نصري لعدد من أغنيات الموسيقار الجزائري الذي أغوى أسماء فنية عربية بارزة للّحن الجزائري والكلمة البدوية الأصيلة من بلاده، كما وقف درياسة على أكبر المسارح العربية والدولية، فغنى على الأولمبيا وعلى مسرح قرطاج، إلى جانب وقوفه على أكبر المسارح بسوريا والمغرب.
توفي الحاج رابح درياسة في فجر يوم 08 أكتوبر في منزله، وسط مدينة البليدة، وفي عصر الجمعة نفسه شيع جنازته وبكاه محبيه وعشاقه من مختلف شرائح المجتمع، وودّعوه بورود مدينة البليدة مسقط رأسه، حيث علت أغنياته الملتزمة من البيوت، أين يرقد جثمانه في مقبرة «سيدي حلو» راجيا السّلام الذي بثّه عبر الرسالة التي حملها طيلة سنوات مشواره الفني الطويل.