طباعة هذه الصفحة

الحفاظ علــى المناطـق الأثرية فـي الجزائـــر سبـل واستراتيجيـات

رصدتها: فاطمة الوحش

 تعتبر المناطق الأثرية أحد مقومات التراث الثقافي نظرا لقيمتها التاريخية والحضارية التي لا يستهان بها، كونها تربط المجتمع الحديث بجذوره التاريخية، اذ انها تمثل السجل الحضاري الذي ينقل الينا بصمات الماضي ويمكننا من معرفة مختلف الظروف السائدة في تلك الحضارات الماضية.
تتفرد الجزائر بمعالم تاريخية وحضارية متنوعة، وتعتبر من بين الدول التي تتوفر على عدد لا يستهان به من المناطق الأثرية، حيث تحتل المرتبة الثانية بعد إيطاليا من حيث المواقع الأثرية الرومانية، إضافة الى موقعي الهقار والطاسيلي المصنفين عالميا كأقدم الشواهد على تاريخ الانسان الأول، كما أن الجزائر تحتوي على 430 موقع ومعلم أثري منها سبعة مصنفة كتراث عالمي (قصبة الجزائر، تيبازة، جميلة، تيمقاد، قلعة بني حماد، طاسيلي ناجر، وادي ميزاب). وبقدر أهمية هذه المعالم وجب المحافظة عليها وضمان حمايتها من الأخطار التي تواجهها بكل الطرق والوسائل، فما هي السبل والاستراتيجيات الكفيلة لحماية وتثمين المناطق الأثرية والمراكز التاريخية في الجزائر؟ حول هذا السؤال استطلعت “الشعب” آراء بعض الدكاترة والباحثين المهتمين بالتراث، فكانت أجوبتهم كالآتي:

الدكتور حميد بوحبيب (أستاذ بجامعة الجزائر 2): “يجب تطوير معاهد الآثار في جامعاتنا وتحيين هذا التخصص بما تمليه علينا الرهانات التكنولوجية والثقافية اليوم، كل العالم يدرك أهمية التراث المادي واللامادي في بناء الهويات الوطنية، وترسيخ البعد التاريخي والعراقة في تشييد صرح الثقافات المحلية وتحصينها لمواجهة العولمة ومخاطر التنميط والذوبان، لذلك جاءت اتفاقية صون التراث اللامادي سنة 2003 برعاية اليونيسكو، والجزائر وقّعت هذه الاتفاقية، وبالتالي فهي ملزمة بالحفاظ على الكنوز التراثية وترقيتها، والعمل على التعريف بها على أوسع نطاق.
والآثار عموما جزء من هذا التراث المادي، فهي تشمل: المدافن (لجدار في تيارت، قبر الرومية في تيبازة، ضريح ماسينيسا في الخروب...الخ)، إلى جانب معالم المدن وبقاياها (تيمقاد، جميلة...)، فضلا عن الصروح العمرانية الأخرى التي ماتزال قائمة، وفي حالة جيدة مثل بعض المساجد التي تعود إلى بداية دخول الإسلام...ناهيك عن مختلف القصبات العتيقة، العاصمة، بجاية، قسنطينة...وبحكم الامتداد التاريخي المذهل للجزائر، فإن المناطق الأثرية تمتد أيضا في الجغرافيا، فالجنوب عامر بالقصور التاريخية، والشمال زاخر بالآثار الرومانية والنوميدية...ولكن للأسف فإن السياسات المنتهجة منذ الاستقلال في مجال حماية التراث التاريخي والمعالم الأثرية لا تحتكم إلى أية استراتيجية، فالأمور متروكة للإرادات الفردية للمسؤولين، وهو ما جعل الارتجال والتردد يطبعان السياسات الثقافية للوزراء المتعاقبين على هذا القطاع.
في رأيي المتواضع، لابد أولا من إرادة سياسية مناضلة ملتزمة.
ثانيا، لابد من مخطط وطني شامل يقوم في البداية بعملية جرد شامل لكل المعالم التاريخية والاركيولوجية في البلاد، وتوفير نتائج الجرد على شكل خريطة بمعايير علمية، بعد ذلك يجب أن نستعين بالخبرات الدولية في مجال الترميم، والتنقيب، والمحافظة والترقية. وعلى المدى المتوسط يجب تطوير معاهد الأثار في جامعاتنا وتحيين هذا التخصص بما تمليه علينا الرهانات التكنولوجية والثقافية. ولا يمكن ان تقوم قائمة البحث التراثي التاريخي إلا إذا أنشئ مركز وطني لحماية التراث المادي واللامادي، وجعل هذا المركز مستقلا ماليا وسياسيا عن وزارة الثقافة”.

الدكتور رضوان شافو:
 (أستاذ بجامعة الوادي):
تشديد العقوبات الرّدعية على المعتدين
تزخر الجزائر بالعديد من المناطق الأثرية والمعالم التاريخية، لها ارتباط وثيق بمختلف الأمم التي تعاقبت على أرض الجزائر منذ الآف السنين، حيث أصبحت تشكل حاليا أحد أهم مكونات الهوية الثقافية والحضارية والخصوصية الاجتماعية الجزائرية، ومقوما سياحيا يحظى باهتمام كبير من طرف السياح الجزائريين والأجانب، هذا الاهتمام دفع بالجهات الوصية التي لها علاقة مباشرة بالتاريخ والثقافة وعلى الخصوص وزارة الثقافة والفنون ووزارة المجاهدين وذوي الحقوق إلى بذل مجهودات كبيرة في اطار الحفاظ على هذا الموروث الثقافي والتاريخي المادي، واستحداث من الوسائل والإمكانات والاستراتيجيات التي تحقق  صيانة مستدامة لهذه المناطق الاثرية والمعالم التاريخية، زيادة على ذلك فقد انتقلت ثقافة الحفاظ على هذا الموروث الثقافي والتاريخي المادي إلى منظمات المجتمع المدني، ولم يعد الأمر مقتصرا على المؤسسات الرسمية للدولة الجزائرية، إذ ساهمت مختلف الجمعيات الثقافية والتاريخية الفاعلة مساهمة كبيرة في حفظ وصيانة معالمها التراثية والتاريخية في مناطق تواجدها، بل ونفضت الغبار عن الكثير من المعالم التي تم إهمالها سواء بقصد أو عن غير قصد.
وعلى الرغم من جهود الدولة الجزائرية في حفظ وصيانة المناطق الأثرية والمعالم التاريخية، إلا أن هذه الأخيرة لم تسلم من التخريب والتشويه وانتهاك لقدسيتها الأثرية والتاريخية من طرف أعداء التراث والتاريخ والسياحة الثقافية من جهة، ومن طرف تجار الآثار من جهة أخرى، حيث شهدت العديد من المناطق الأثرية والتاريخية في الجزائر اعتداء تخريبيا عن طريق التكسير أو الحفر العشوائي  أو تشوية الرسومات الحجرية، وأن إحصائيات ديوان تسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية يشهد على ذلك. ومن هذا المنطلق يتوجب على الجهات الوصية إعادة النظر في الاستراتيجية المتبعة في صيانة وحماية المناطق الأثرية والمعالم التاريخية على النحو الآتي:
- إقامة حملات تحسيسية وتوعية دوريا على كافة الأصعدة حول أهمية الحفاظ على المناطق الأثرية والمعالم التاريخية كمورث ثقافي مادي وجب الحفاظ عليه، ونشر ثقافة التبليغ ضد أي اعتداء على هذه المواقع.
- زيادة التنسيق الأمني مع جمعيات المجتمع المدني ذات العلاقة المباشرة بحفظ وصيانة المعالم الاثرية والتاريخية.
- تشديد العقوبات الردعية على المعتدين على المواقع الأثرية والتاريخية.
- إنشاء مراكز أمنية على جوانب المواقع الأثرية من أجل حراستها وتأمين السياح الزائرين لها.
- تركيب أجهزة مراقبة الكترونية على المواقع الأثرية والتاريخية، حتى تسهل عملية حراستها ومتابعتها بخصوص أي تشويه أو اتلاف.
- إشراك جمعيات المجتمع المدني في الإشراف والتسيير على المواقع الأثرية والمعالم التاريخية نيابة عن المؤسسات الرسمية للدولة.
- إنشاء فرق تدخل مكونة من علماء جزائريين متخصصين في الآثار والتاريخ بهدف التدخل الآني لإصلاح أي إتلاف أو تخريب للمواقع الاثرية.
- محاربة الخطاب الايديولوجي المتطرف ضد أي حضارة تعاقبت على الجزائر، حتى لا ينعكس ذلك على المواقع الأثرية والتاريخية التي لها علاقة بتلك الحضارة.
- توسيع مجالا العمل بخصوص تخصص علم الآثار، لكون هذا الأخير يشهد نزيفا حادا من طرف الطلبة نظرا لانعدام فرص العمل.
فاطمة بوقري (باحثة):
الحفاظ على التّراث حفاظ على بوتقة التّنوّع الثّقافي
  يعتبر الموروث الثقافي سجلا لإبداع الأمم على مرّ الزمن؛ وذاكرة حافظة لقيمها وأحد مقومات هويتها الحضارية وخصوصياتها التي تتفرد بها بين الثقافات والحضارات المختلفة، وعليه فنجد الدول تتسابق في الحفاظ على تراثها الثقافي وتستحدث له من الوسائل والسياسات والإمكانيات ما يحقق لها صيانة مستدامة لتاريخها وتراثها الثقافي، فلم تعد الجهود الرامية لتحقيق هذا الهدف مقتصرة على المؤسسة الحكومية الرسمية فحسب، بل اتسعت رقعتها لتشمل الجميع.
التراث بمفهومه البسيط هو خلاصة ما خلّفته (ورثته) الأجيال السالفة للأجيال الحالية، وهو ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرة من الماضي، ونهجا يستقي منه الأبناء دروسا يعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل.
يعتبر التراث الثقافي بكل متغيراته وثوابته الفلسفية التي تعتمد على إحساس وفكر وثقافة وبيئة الشعوب التي تسهم في إنتاجه وإثرائه بمختلف التوجيهات الفكرية والعلمية السائدة التي يتعامل ويؤمن بها أفراد أحد عناصر هوية الشعوب وإبداعاتها عبر العصور، الأمر الذي يستوجب ضرورة مراعاة التعامل مع الماضي واستيعاب قيمه كحقائق مكانية تحمل خصوبة الثقافية الإنسانية على امتداد الزمن، لذا لا يمكن إهمالها ضمن مسار الحفاظ على هذا الموروث وصيانته حاضرا ومستقبلا.
التراث الثقافي كما تعرفه اليونيسكو بأنّه “ميراث الماضي الذي نتمتع به في الحاضر وننقله إلى الأجيال القادمة”، وتعتبره بأنّه “ميراث المقتنيات المادية وغير المادية والتي تخص مجموعة ما أو مجتمع لديه موروثات من الأجيال السابقة وظلت باقية حتى الوقت الحاضر، ووهبت للأجيال المقبلة”.
فقد أضحى الحفاظ على التراث موضع اهتمام عالي لكونه أحد المقومات الأساسية لكشف العمق الحضاري لأي أمّة وإبراز تطورها الثقافي والفكري، كما يعدّ الدليل المادي لكتابة التاريخ ويعتبر أحد الخصائص الرئيسية المميزة لأفراد المجتمعات على مرّ الزمن وتتعدّد عناصره بين التراث الثقافي، التراث الشعبي، التراث الطبيعي، التراث المعماري، التراث الإسلامي، والتراث المغربي وغيرها من الأنواع...
تسعى منظمة “اليونيسكو” لتأمين أفضل حماية ممكنة للتنوّع الثقافي، فقد ارتكزت أنشطتها التي تنفذ بالتعاون مع “مركز التراث العالمي” على المواقع التي تعبّر عن ذاتيات ثقافية متعددة، وعلى تلك التي تمثل تراثا ثقافيا للمجتمعات، والمواقع التي تتمتع بقيمة تأسيسية أو المعرضة بشكل خاص للاندثار.
فالحفاظ على التراث الثقافي للشعوب يدل على الاعتراف الضمني بأهمية الماضي والدلالات التي تسرد قصصه، كما أنّ القطع الأثرية المحفوظة تؤكد صحة الروايات التاريخية وصلاحية المادة المكتشفة، بدلا من استنساخها أو استبدالها من جهة، وتوجه أفراد المجتمعات وتدلهم على الطريق السليم للتواصل مع الماضي من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك فإن التغيير الذي يضيفه كل جيل على هذا الماضي يعتبر في حد ذاته قيمة إضافية للثقافة الإنسانية، وإثراء لها.
وقد أسهمت منظمة اليونيسكو في إحداث هيئات تساعد على حماية المباني التاريخية و«المجلس الدولي للمتاحف والمواقع الأثرية”، “المجلس الدولي للآثار والمواقع”، “المركز الدولي لدراسة حماية الممتلكات الثقافية وترميمها”، “اتفاقية لاهاي الدولية” التي عقدت سنة 1954 من أجل حماية الممتلكات الثقافية في حالة وقوع نزاع مسلّح، كما تأسست مؤتمرات دولية أخرى لمناقشة قضايا الآثار على مختلف تخصصاته، مثل مؤتمرات الأثار الكلاسيكية، ومؤتمرات الآثار الإسلامية.