ليست الدبلوماسية الجزائرية بمنأى عن التحولات الدولية التي عرفها العالم منذ نهاية الحرب الباردة لذلك عليها أن تعمل في إتجاه تنويع تعاملاتها في العلاقات الدولية الراهنة، وعدم الركون إلى موروثات الحرب الباردة، لأن السياسة الخارجية هي عبارة عن خط لرسم العلاقات الخارجية لدولة معينة مع غيرها من الدول.
تتوفر الجزائر على رصيد متين في منطقة المغرب العربي و القارة الإفريقية من حيث العلاقات والروابط التاريخية والثقافية، التي تعود لزمن بعيد. إلى جانب هويتها العربية التي تعبر عن نفسها في الإنتماء الجغرافي، من دون أن ننسى البعد الإفريقي الذي واكب السياسة الخارجية الجزائرية، والذي ظل ملفا سياسيا يطرح نفسه في إطار تصفية الإستعمار ومناهضة الهيمنة الأجنبية.
ومع وضعية العلاقات الجزائرية الإفريقية، تصبح الحاجة ماسة إلى صياغة سياسة خارجية جزائرية إفريقية، وفق منظور إستراتيجي يرمي إلى تفعيل العلاقات بين الجانبين عن طريق الأخذ بعين الإعتبار، كل من الإمكانيات المتوفرة والمتاحة للجزائر ضمن التحولات الإقليمية الراهنة، الشيء الذي يجعل الدبلوماسية الجزائرية مقبلة على رهانات جديدة، تستدعي تكيف توجهاتها معها من أجل بلورة سياسة خارجية إفريقية، تأخذ بعين الحسبان الإمكانيات المتاحة للجزائر في إفريقيا.
تاريخيا تعد الدبلوماسية الجزائرية أحد أهم مكاسب ثورة نوفمبر المجيدة، حيث أدت دورا بارزا ساهم في نيل الجزائر استقلالها من خلال التعريف بالثورة في مختلف المحافل الدولية وكسب التأييد الدولي خلال حرب التحرير، وتجلت أولى مظاهر التميز الدبلوماسي الجزائري حينما تفوقت على المستعمر الفرنسي في مختلف مراحل المفاوضات التي سبقت وقف إطلاق النار ثم استرجاع تام للسيادة الوطنية.
وترتكز الدبلوماسية الجزائرية على مجموعة من المبادئ والثوابت لم تتغير تقريبا منذ الاستقلال، أهمها، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وأولوية الحلول السلمية، ورفض التدخلات العسكرية الأجنبية، ودعم القضايا العادلة وحق الشعوب في تقرير مصيرها وتخليصها من سيطرة الاستعمار.
وطيلة التاريخ السياسي للجزائر المستقلة لعبت الدبلوماسية الجزائرية دورا مهما في التوسط لحل الكثير من الأزمات والنزاعات الدولية والإقليمية المعقدة، أهمها الوساطة الجزائرية لحل النزاع العراقي الإيراني والذي توّج بابرام اتفاقية الجزائر سنة 1975 ووقف الحرب، بعدها بسنوات قليلة توسطت الجزائر لتحرير الرهائن الأمريكيين في ايران سنة 1979، حين فشلت محاولات عديدة للتفاوض لاسيما بعد فشل الحل العسكري في تحرير الرهائن، وهنا تدخلت الجزائر، وبعد شهور من التفاوض والرحلات المتواصلة لوزيري خارجية أمريكا وإيران إلى الجزائر العاصمة، توصل الطرفان إلى اتفاق نهائي في 19 جانفي 1981، يقضي بالإفراج عن الرهائن مقابل التوقيع على «بيان الجزائر».
كما لعبت الجزائر دورا كبيرا في استتباب الأمن في القارة الإفريقية والتوسط لحل العديد من الأزمات والحروب على سبيل المثال لا الحصر النزاع الإثيوبي الإيريتري، سنة 2001، والعمل على توحيد جهود الدول الأفريقية في إطار منظمة الوحدة الإفريقية سابقا ثم الاتحاد الأفريقي، ودعم القضايا العادلة لا سيما قضية الصحراء الغربية والقضية الفلسطينية.
ومرت الدبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال بفترات متباينة تميزت أحيان بالحضور القوي وأحيانا أخرى بالتراجع لا سيما في فترة التسعينيات من القرن العشرين نظرا للظروف الأمنية الداخلية التي مرت بها الجزائر آنذاك، وقد عادت الدبلوماسية الجزائرية بقوة في الآونة الأخيرة، ودخلت على الخط في العديد من القضايا والملفات العربية والإفريقية، فهي لا تزال تحظى باحترام من قبل الدول الهيئات الإقليمية والدولية، وما يؤكد هذا هو طلب الوساطة الجزائرية لحل أزمة سد النهضة بين إثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى، بالإضافة إلى عودتها بقوة ودخولها على الخط لحلحلة الأزمة الليبية وأزمات الساحل الإفريقي لا سيما النزاع في مالي .
تحدّيات إقليمية وتحوّلات دولية تستوجب التكيّف
بالرغم من التاريخ الدبلوماسي الجزائري الحافل بالإنجازات يبقى تحسين آليات العمل الدبلوماسي ليتناسب مع متطلبات العصر أمر ضروري، خصوصا والجزائر تعرف تحديات ومخاطر غير مسبوقة لاسيما جوارها الإقليمي المضطرب سياسيا وأمنيا في كل من ليبيا ومالي وقضية الصحراء الغربية التي عرفت تطورات خطيرة بالأخص بعد خرق المغرب لوقف إطلاق النار.
كما أن قرار الجزائر الأخير بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المملكة المغربية بسبب سلوكها العدائي المتواصل ضد الدولة الجزائرية والذي لم يتوقف منذ الاستقلال، يتطلب من صانع القرار الجزائري تكييف آليات العمل الدبلوماسي ليتوافق مع معطيات الواقع خاصة وأن الكيان الصهيوني أصبح متواجدا على حدودنا الغربية.
الواقع الاقتصادي هو الآخر لا يمكن فصله عن العمل الدبلوماسي حيث تسعى الجزائر للتخلص من التبعية شبه المطلقة للريع النفطي والغازي من خلال دعم الصادرات خارج قطاع المحروقات، وفي هذا الإطار تعد الدبلوماسية الاقتصادية الطريقة المثلى لإيجاد أسواق جديدة خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء.
وفي ضوء المعطيات آنفة الذكر ارتأى صانع القرار الجزائري استحداث سبعة (7) مناصب لمبعوثين خاصين لتعزيز نشاط الدبلوماسية الجزائرية تحت السلطة المباشرة لوزير الشؤون الخارجية، لتكليفهم بقيادة النشاط الدولي للجزائر وفق سبعة محاور مهمة تتعلق بجهود أساسية تعكس مصالحها وأولوياتها وتهدف الى تعزيز نشاط الدبلوماسية الجزائرية.
الدبلوماسية الاقتصادية لخدمة السياسة الخارجية الجزائرية
لم يعد مفهوم الدبلوماسية يقتصر على إدارة العلاقات السياسية بين الدول فحسب، بل إتسع ليشمل مجالات عدة. ففي ظل التغير في بيئة النظام العالمي، وتوحيد العولمة للجسد الدولي، من خلال انفتاح الأسواق الوطنية على الأسواق الحرة الدولية، بحيث باتت قوة الدول تقاس بقوة إقتصاداتها، تخلت الدول عن المفهوم التقليدي في إدارة العلاقات بينها، وأصبح من المستحيل فصل السياسة عن الاقتصاد، حتى أضحى الاقتصاد سبباً رئيساً في نشوء العلاقات الدبلوماسية بين الدول. وعليه فالتعامل الاقتصادي الدولي أصبح ذات أهمية قصوى في تمتين العلاقات الدبلوماسية بين الدول وأصبحت الدبلوماسية الاقتصادية، تقوم بدور المكمل للدبلوماسية الكلاسيكية، بحيث أصبح مقياس حجم الميزان التجاري، بين بلدين يؤشر إلى حجم ميزان تعاملها السياسي، لم يعد من سبيل إلى إقامة علاقات اقتصادية متوازنة؛ كذلك أصبحت للأدوات الاقتصادية في عالم اليوم فعالية كبيرة، في مجال الممارسات الدبلوماسية بين الدول.
واعتبارا لأهمية الدبلوماسية الاقتصادية في السياسة الخارجية الجزائرية، دأب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى تعيين ممثل دبلوماسي كفء في هذا المجال له من الخبرة والدراية في الأمور التجارية والإقتصادية ما يجعله يمارس مهامه بكفاءة عالية، كذلك من بين خصائص الدبلوماسية الإقتصادية أنها ليست من إختصاص الدولة لوحدها، ولكن بإمكانها أن تستوعب ممثلين آخرين لهم علاقة مباشرة بالأمور الإقتصادية والمالية، كالشركات وأرباب الأعمال وجماعات المصالح الإقتصادية، فهؤلاء الخواص أصبح لهم دور لا يستهان به في التأثير على القرارات ذات الطبيعة الإقتصادية، إلى جانب المساهمة في وضع الإستراتيجيات المرتبطة بالتجارة الخارجية، إضافة إلى دعم وجلب الإستثمارات.
وبخصوص الجزائر، فإن الدبلوماسية الإقتصادية تتبوأ مكانة أساسية في السياسة الخارجية الجزائرية، وهو ما يؤكد عليه القائمون على القطاع خاصة في السنوات الأخيرة، في ظل تزايد حدة الأزمة الإقتصادية بفعل تراجع أسعار النفط. ويوفر الفضاءان المغاربي والإفريقي فرصا عديدة للإقتصاد الجزائري بغية الخروج من تبعيته المزمنة للمحروقات، فالمجال التجاري قد يكون مخرجا لتطوير الصناعة المحلية القديمة و الناشئة كون أفريقيا تضم 54دولة أي 54سوقا لتسويق المنتجات الصناعية، خاصة في ظل ضعف القطاع التحويلي في أفريقيا مما يتيح المجال لتصريف المنتجات الجزائرية ولو كانت ناشئة.
كما يوفر مجال الإستثمار فرصا مهمة في جل القطاعات، فالقطاع الفلاحي في أفريقيا معظمه بدائي ويفتقر إلى الوسائل الحديثة والخبرات الفنية مما جعل إنتاجيته ضعيفة و هنا يمكن للجزائر القيام بإستثمارات زراعية في إفريقيا أقل كلفة وأكثر مردودية مما هي عليه في الجزائر.
نفس الشيء في المجال الصناعي فالإستثمارات الجزائرية في هذا المجال واعدة كذلك، فالفضاء الإفريقي يتيح الحصول على المواد الأولية سواء كانت معدنية، طاقوية أم زراعية بتكلفة أقل فهي أساسا تصدر إلى الدول الصناعية بأثمان بخسة، وعليه فالحصول عليها في إطار مشاريع صناعية جزائرية أو جزائرية-إفريقية بالفضاء الإفريقي هو من باب الأولى، لكن هنا وجب التنبيه إلى أن طبيعة المشاريع الصناعية تتفاوت في الكلفة والخبرة، إذ هناك صناعات تتطلب إستثمارات بأموال ضخمة وخبرات فنية عالية وهي شروط تتوفر بالشركات الوطنية في القطاع العام كالصناعة البترولية والبتروكيماوية التي يتطلب شركة عالمية مثل سوناطراك SONATRACH و فروعها، وكذا مشاريع إنتاج الطاقة الكهرومائية التي تقتضي شركة بخبرة سونلغاز
SONELGAZ ، وكذا الحال بالنسبة للميكانيك من خلال الشركة الوطنية للعربات الصناعية .SNVIو بالتالي يمكن القول أن الصناعات الثقيلة تعد مجال إستثمار حصري للشركات الجزائرية الكبرى بإفريقيا وبخلاف الصناعات الثقيلة تمثل الصناعات التحويلية المتوسطة والخفيفة (الإلكترونيات، المنتجات الكهرومنزلية، الصناعات الغذائية، الصناعات الجلدية) مجالا خصبا لمؤسسات القطاع الخاص في الجزائر قصد الاستثمار بإفريقيا مع ضمان مرافقة الدولة في التمويل والحماية السياسية من الأخطار غير الاقتصادية التي يمكن أن تعترض المشاريع في فضاء إفريقي واسع و مجهول بالنسبة لهذه المؤسسات المتوسطة والصغيرة في الغالب، والفضاء الإفريقي هو سوق جائع لمثل هذه المشاريع لاسيما بعض المنتجات التي تمثل أمورا أساسية في حياة المستهلك الإفريقي كالغذاء والدواء. فمن المعروف أن توفير الغذاء يمثل تحديا إستراتيجيا في أفريقيا وعليه فالاستثمار الجزائري في الصناعات الغذائية له مستقبل واعد. وكذلك الحال بالنسبة للدواء فأفريقيا أكبر منطقة لإنتاج الصراعات المسلحة وما تخلفه من أعداد كبيرة من الجرحى، كما أنها حقل خصب للأوبئة والأمراض الخطيرة والواسعة الإنتشار، وعليه فالإستثمارات الجزائرية في الصناعة الصيدلانية هي واعدة بلا شك. وبالنسبة لهواجس التسويق فإن الفضاء الإفريقي يقدم للإقتصاد الجزائري سوقا إستهلاكية واسعة تعطي إطمئنانا كبيرا للمستثمرين والمصدرين الجزائريين على حد سواء. ناهيك عن أن الجزائر تمتلك تمثيل دبلوماسي كبير حول العالم يقدر بـ 83 تمثيلية دبلوماسية. وعلى الأرجح فالعمل الأساسي للمبعوث الخاص الجديد هو التنسيق والتواصل مع هذه التمثيليات لا سيما في افريقيا من أجل تحديد الفرص الممكنة لتسويق المنتوج الجزائري في كل دولة، والتعريف بالفرص الاستثمارية المتاحة في الجزائر للرجال الأعمال في تلك الدول وتشجيعهم على الاستثمار في مختلف القطاعات.
نظريا هذه الخطوة تعد إيجابية بالنظر للتاريخ المتواضع للدبلوماسية الاقتصادية الجزائرية إذا ما قورنت بالإنجازات السياسية الكبيرة المحققة، وأهم الأدوار المتوقعة لهذا المبعوث يمكن أن تشمل:
*- البحث عن أسواق جديدة لتصريف المنتجات الجزائرية التي تمتلك فيها ميزة تنافسية، سواء في المجال الفلاحي أو الصناعي، حيث عرفت الجزائر في السنوات الأخيرة عجزا في تصريف بعض المنتجات الفلاحية بالأساس في مواسم وفرة المحصول ما اضطر الفلاحين لرميها أو بيعها بأسعار لا تغطي حتى تكاليف الإنتاج لعدم القدرة على تصديرها، وقدر الإنتاج الفلاحي في الجزائري سنة 2020 بـ 25 مليار دولار ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بشكل كبير لو ضمنت الدولة تصريف الإنتاج مهما كان حجمه.
*- جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة للجزائر، حيث تبقى الأرقام المحققة متواضعة جدا لو قورنت بدول أخرى، وتمتلك الجزائر المقومات اللازمة للاستثمار، ويبقى التعريف بها أمرا ضروريا لإزالة اللبس لدى كثير من المستثمرين الأجانب في مختلف دول العالم وتغيير الصورة النمطية السلبية، مع ضرورة تحسين ظروف الاستثمار ليتناسق مع جهود الدبلوماسية الاقتصادية.
إن الدبلوماسية الاقتصادية كآلية جديدة في العمل الدبلوماسي خطوة مهمة في تعزيز الأمن الاقتصادي للجزائر نظرا للإنجازات المحققة هذه السنة لدعم الصادرات غير النفطية والتي من المتوقع ان تصل الى 4.5 مليار دولار مع نهاية هذه السنة، وهي أرقام تاريخية لم تعرفها الجزائر من قبل وينتظر دعمها في المستقبل القريب.
الشراكة وفق منظور جديد
عقدت الجزائر في السنوات الـ 20 الماضية العديد من الشراكات الدولية في مجالات مختلفة، وهذا راجع لما تكتسيه الشراكة من أهمية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويعد تعيين مبعوث خاص يتولى مسألة الشراكات الدولية الكبرى قرارا يهدف بالأساس لتعزيز القوة التفاوضية الجزائرية قبل عقد أي اتفاق شراكة وفق مبدأ رابح-رابح، وعدم تكرار أخطاء الماضي.
فالشراكة مع الاتحاد الأوروبي والتي وقعت سنة 2005 جاءت مجحفة في مجملها في حق الجزائر، وهناك شبه إجماع حول انتقاد تنفيذ هذا الاتفاق الذي كان من المفروض أن يدخل حيز التنفيذ في سبتمبر 2020، سواء من طرف السياسيين والخبراء الاقتصاديين ورجال الأعمال الذين يشجبون العجز الواضح في الميزان التجاري لصالح الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأكبر للجزائر.
فالجزائر استوردت من الاتحاد الأوروبي بضائع بقيمة 320 مليار دولار بين 2005 ونهاية 2019 في حين لم تتخط الصادرات الجزائرية خارج المحروقات 15 مليار دولار خلال نفس الفترة.
وبالتالي فالمبعوث الخاص الجديد ستكون له أدوار مهمة في عقد شراكات دولية أكثر إنصافا للجزائر، والبحث عن فرص للشراكة مع دول أخرى عربية وأجنبية.
اهتمام بالجالية الجزائرية في الخارج
تعد الجالية في الخارج مصدرا مهما لرأس المال المالي والبشري والمادي من هذا المنطلق تم استحداث منصب المبعوث الخاص الجديد المكلف بملف الجالية الوطنية المقيمة في الخارج. وتعد الجزائر من أضعف الدول في حوض المتوسط استفادة من جاليتها في الخارج لعدة أسباب موضوعية، منها ضعف المنظومة البنكية وتفاوت الأسعار بين سعر العملة الصعبة وفق سعر الصرف الرسمي والسوق السوداء، مما يجعل من عملية تحويل العملة الصعبة عبر القنوات الرسمية والتحكم فيها بشكل كامل أمر صعب.
فمصر مثلا بلغت تحويلات مهاجريها في الخراج سقف 29 مليار دولار سنة 2020 عبر قنوات بنكية رسمية، عكس ما يحدث في الجزائر.
وفتح فروع لبنوك وطنية في الخارج، من أجل تسهيل عملية تحويل المهاجرين لأموالهم أمر أكثر من ضروري، ومن أجل مراقبة حركة رؤوس الأموال، ووضع حد للنشاط الموازي الذي يتداول مبالغ ضخمة خارج السوق الرسمية، بخاصة أن أموال المغتربين تقدرها جهات رسمية بما بين 15 و20 مليار دولار، غير أن مختلف الحكومات المتعاقبة كانت تتجاهل هذه الانشغالات تحت مبررات عدة، أو تقدم وعوداً لإسكات أصوات ممثلي المغتربين.
وبالتالي فالمبعوث الخاص الجديد لن تكون مهمته سهلة لحل المشاكل التي تعاني منها الجالية من جهة، والاستفادة كذلك من الخبرات المتراكمة لدى أفراد الجالية في تسيير المؤسسات وفق مبدأ الحكم الراشد.
إفريقيا والساحل.. العمق الاستراتيجي للجزائر
لمنطقة الساحل الإفريقي اليوم معنى جيوسياسيٍّ أوسع، يأخذ بعين الإعتبار كلّ الدول التي تشكّل الحزام الحدوديّ للصحراء الكبرى، أي بإضافة دول الشمال الإفريقي، وخصوصاً دول المغرب العربيّ، لذلك تُعدّ منطقة الساحل الإفريقي من أكثر المناطق المفتوحة شساعة في العالم، بمساحة تفوق تسعة ملايين كيلومتر مربع.
في منطقة الساحل لسنا أمام أزمة محدّدة، وإنما أمام أزمات متعدّدة ومتشعبة، بعضها مزمن وقديم، مثل أزمة الطوارق والنزاعات والإثنية، وبعضها جديدٌ ناتج عن فشل الدولة وضعفها. إضافة إلى أن منطقة الساحل والصحراء تعد فضاءً خصباً للجريمة المنظمة العابرة للحدود بكلّ أنواعها، مثل: المخدرات، الهجرة السّرية، الجريمة الإلكترونية، تبييض الأموال، التهريب (سجائر - المواد الغذائية - الأسلحة)، الأمر الذي جعل المنطقة مصدراً لتهديدات أمنية إقليمية ودولية خطيرة . من جهة أخرى، أصبحت الفضاءات الواسعة لمنطقة الصحراء الكبرى وساحل غربي إفريقيا المناطق المفضلة لنشاط تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما يمثّل الساحل والصحراء منطلقاً للهجرة غير الشرعية، إذ تمثّل إفريقيا الشمالية معبراً للحدود الأوروبية.
كلّ ذلك حوّل المنطقة إلى بؤرة تهدّد الأمن والسلام الدولي والإقليمي، لكن حلّ هذه المعضلة يتطلب، بالموازاة مع الحلّ العسكري، وضع إستراتيجيات شاملة للتنمية البشرية والإقتصادية والإجتماعية، وتأهيل مؤسسات دول الساحل.
وتربط دول الساحل والصحراء مع الجزائر كذلك روابط تاريخية وإقتصادية ودينية وسياسية-أمنية في وقتنا الراهن ففضلا عن العلاقات الحضارية والدينية، وذلك بإتباع كثير من شعوب الساحل المسلمة خاصة وسط الصحراء للطرق التيجانية والقادرية التي تحضى بإحترام كبير وتجد أصولها في الجزائر عبر الزوايا لا سيما الزاوية القادرية في «توات» وزاوية عين ماضي بالأغواط و التيجانية وزاوية تلمسان وأخيرا تيماسين التي يتوافد إليها الطلاب من دول الساحل لتلقي تعاليم هذه الطرائق.
في العقود الأولى التي تلت إستقلال الجزائر كانت تعتبر منطقة الساحل والصحراء منطقة نفوذ سياسي-إقتصادي ويتبين ذلك من الحجم الكبير –نسبيا- من الإتفاقيات الثنائية التي وقعتها الجزائر مع دول الساحل والصحراء والبالغ عددها سبع وثلاثين إتفاقية خمسة وعشرون منها في المجال الإقتصادي ورغم عجز الميزان التجاري الجزائري مع هذه البلدان إلا أن الجزائر تستمر في إبرام هذه الإتفاقيات لضمان إستمرار الإتصال المباشر مع هذه المنطقة من إفريقيا.
وأدت سنوات الأزمة التي عاشتها الجزائر إلى تهميش الجزائر دوليا، وإنحسار دبلوماسيتها إفريقيا وفي المنطقتين المذكورتين على وجه التحديد. لذلك يسعى الرئيس تبون من خلال تعيين مبعوثا دبلوماسيا خاصا للمنطقة إلى إعادة بعث دور الجزائر الإقليمي، وإستعادة أمجاد الدبلوماسية الجزائرية وذلك لإعتماده على الوساطات والطرق الدبلوماسية السلمية في حل المشاكل الأمنية التي تعاني منها المنطقة على وجه الخصوص والقارة الإفريقية عموما.
إذن يمكن القول إن منطقة الساحل الإفريقي أضحت مجالا لإبراز الإنشغالات والإهتمامات الأمنية الجزائرية نظرا للتحديات والتهديدات الأمنية المشتركة التي تواجهها الجزائر ودول المنطقة معا هذا ما جعلها – أي الجزائر- تدرج هذه المنطقة ضم الدوائر الأمنية المهمة في سياستها الخارجية من خلال ربط علاقات ثنائية ومتعددة الأطراف لمواجهة هذه التهديدات.
كما تسعى الجزائر إلى تعزيز نفوذها داخل القارة السمراء ومختلف الهيئات الإفريقية وعلى رأسها منظمة الاتحاد الأفريقي، ومن هذا المنطلق جاء تعيين مبعوثين خاصين يهتمان بملف الساحل الذي يعد من الملفات الكلاسيكية في السياسة الخارجية الجزائرية والعلاقات الجزائرية الإفريقية.
انتقلت الدبلوماسية الجزائرية مؤخرا من فعل الخطاب الى الممارسة الفعلية، فمثلا تم تأسيس الوكالة الجزائرية للتضامن الدولي، بهدف تمويل مشاريع «مساعدات» في القارة الأفريقية بشكل خاص، وهي قوة ناعمة تهدف لاستعادة النفوذ الجزائري في إفريقيا.
كما أن منطقة الساحل تعد معضلة من نوع خاص بالنسبة للجزائر، إذ تشهد حالة من عدم الاستقرار منذ سنوات طويلة بسبب حركات التمرد وانتشار الفقر والجريمة المنظمة والإرهاب.
كما تم تعيين مبعوث خاص يشرف على ملف الصحراء الغربية ليؤكد من جديد على الدور الجزائري الريادي في دعم القضايا العادلة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها وفق ما تقتضيه الشرعية الدولية.
تعزيز العلاقات العربية الجزائرية وقضايا الأمن الدولي
على الرغم من الانتماء العربي للجزائر، وهذا ما أثبته كلا من إعلان طرابلس والميثاق الوطني الذي ركز على العالم العربي والمغرب العربي ثم إفريقيا بهذا الترتيب غير أنه كما يلاحظ «بهجت قرني» أنه يجب التعامل بحذر شديد مع هذا الترتيب فالحقائق العملية تدل على أن صناع القرار الجزائريين أكثر تركيزا على الدائرة الإفريقية والمغاربية وذلك لإدراكهم أن دورهم محدود في المشرق العربي الذي عرف تبلور القومية العربية عبر الفكر الناصري والبعثي.
ولعلّ ما يؤكد هذا الكلام هي مطالب ودعوات الجزائر في عدة مناسبات الى الاسراع في إصلاح جامعة الدول العربية، ناهيك عن مواقفها الثابتة والنابعة من مبادئ سياستها الخارجية التي ولدت من رحم ثورتها التحريرية الكبرى، والتي كثيرا ما تباينت مع مواقف العديد من الدول العربية ولعل حرب الخليج الثانية والعدوان الأمريكي على العراق في 2003 وتدخل الناتو في ليبيا خير مثال على ذلك.
الشيء الذي جعل هذه الدائرة لا تحظى بأولوية في سياسة الجزائر الخارجية من دون اهمالها، لكن اليوم وفي ظل التطورات الاقليمية والدولية لا سيما مع موجة التطبيع لبعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، الشيء الذي يفرض على الجزائر أن تكون حاضر في جميع دوائر سياستها الخارجية، من هذا المنطلق جاء تعيين مبعوث جديد يهتم بالعلاقات العربية الجزائرية.
وشهدت العلاقات الجزائرية العربية حركية واضحة في آخر الأشهر بداية بإعلان استعداد الجزائر لعقد القمة العربية المقبلة في موعدها والوساطة الجزائرية لحل أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان والزيارة التي قام بها وزير الخارجية الجزائري لهذين البلدين العربيين الشقيقين.
وبالتالي فالمبعوث الخاص ستكون له أدوار كبيرة في تعزيز التعاون العربي الجزائري على مختلف مستوياته سواء أمنيا أو اقتصاديا وسياسيا وثقافيا.
كما أن قضايا الأمن الدولي تبقى من أهم القضايا التي ينبغي الاهتمام بها سواء ما تعلق بالتهديدات التقليدية المتعلقة بأمن الحدود والإرهاب والجريمة المنظمة أو التهديدات الأمنية الجديدة مثل التغيرات المناخية والأوبئة.
إذن في ظل التحديات الإقليمية والدولية الراهنة، يستوجب على أي وحدة سياسية تسعى للحفاظ على مكانتها وضمان استقرارها، تعزيز حضورها الدبلوماسي في جميع القطاعات وعلى كافة المستويات، وهذا ما عملت عليه الجزائر من خلال استحداث مناصب مبعوثين خاصين لتعزيز نشاط الدبلوماسية الجزائرية.