هو من كبار صوفية القرن العشرين، أثرى الحياة الروحية والفكرية بما خلفه من آثار في التصوّف والشعر الصوفي والتوحيد والفقه وعلم الفلك والفلسفة والتفسير، إضافة إلى مقالاته الصحفية، إلى جانب المنشآت والوسائل العصرية كالمدارس والطباعة والجرائد والجمعيات والنوادي الثقافية. إنه حجة الصوفية الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي رضي الله عنه وقدس سره وطيب ثراه الذي حلت علينا ذكرى وفاته السابعة والثمانين هذه الصائفة.
نشأته وتصوّفه:
هو الشيخ أبو العباس أحمد بن مصطفى بن عليوة المعروف بالعلاوي المستغانمي، ولد بمستغانم (الجزائر) سنة 1869 وتوفي بها سنة 1934، وحيداً بين أختين.
تعلم مبادئ الكتابة وحفظ أولى سور القرآن الكريم على يد والده الحاج مصطفى، الذي كان معلما للقرآن، فانتهى به الحفظ إلى سورة الرحمن، ثم اضطر إلى العمل في التجارة وهو في سنّ مبكرة ليعول عائلته خاصة بعد وفاة والده، غير أن ذلك لم يمنعه من ملازمة الدروس ليلا على يد جماعة من مشايخ المدينة.
أما سبب دخوله التصوّف، فجاء إثر لقائه بأستاذه الروحي الشيخ سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي، الذي لازمه إلى أن وافته المنية سنة 1909، فبويع بعده بالخلافة على رأس الطريقة الدرقاوية بمستغانم ونواحيها، وخلال بداية العقد الثاني من القرن العشرين، أسس الطريقة العلاوية، معلنا بذلك عن ميلاد طريقة روحية جديدة.
نشاطاته:
أكثر ما كان يقلق الشيخ أحمد العلاوي تنفيذ فرنسا برنامجها الخطير على الشعب الجزائري فتصدى لهذا الخطر الداهم بتعليم أتباعه وبثهم دعاة في أرجاء الجزائر، وشيّد الزوايا لتكون صروحاً علمية، وأقام الندوات الفكرية والمحاضرات والمؤتمرات، وأنشأ الصحف باللغتين العربية والفرنسية حتى تصل الكلمة لكافة شرائح الشعب، منها صحيفة «لسان الدين» سنة 1923، والتي أدركت فرنسا خطورتها على مخططاتها في الجزائر فسارعت إلى إغلاقها، فأنشأ بعدها صحيفة «البلاغ الجزائري» بمستغانم سنة 1926 وتغيرت إدارة هذه الأخيرة سنة 1930 وأصبحت غير تابعة للزاوية بمستغانم وانتقلت إلى الجزائر العاصمة واستمر صدورها حتى سنة 1948.
وكانت الجريدتان منبران لأفكاره، وإصلاحه الديني والاجتماعي، وتناولت مقالاته في مجملها حالة الأمة الجزائرية خصوصا، والإسلامية عموما، محللة داء الأمة، واصفة الدواء الناجع لها، وعالجت أهم القضايا والمشاكل العقائدية، والاجتماعية السياسية، ففضحت مخططات المبشرين، والمتفرنجين من دعاة الاندماج، والمباركين لسياسة فرنسا الاستعمارية في طمس هوية الأمة الجزائرية، كما تناولت قضايا المرأة، والطفل، والأسرة، والتعليم، والإدارة، والقضاء، والعبادات والمعاملات، الدفاع عن التصوّف، باعتباره يعتمد على الإحسان كركن ثالث من أركان الدين الذي لا يكمل إسلام المرء إلا به.
وتعدى نشاطه الجزائر، إلى أوروبا وغيرها، فكانت له الزوايا في بريطانيا وهولندا وفرنسا، والحبشة والحجاز وفلسطين وسوريا والمغرب الأقصى، وصار بحق مجدد التصوف في القرن الرابع عشر الهجري.
ساهم الشيخ العلاوي في الحياة الفكرية بالجزائر، والوطن العربي والإسلامي، بآثاره الأدبية والأعمال الاجتماعية والوطنية الجليلة، فركز على الجوانب الروحية، التي تجسّدت في تربية المريدين، وتلقين الأذكار، حيث تخرج على يده مئات من العارفين الذين حملوا رسالته إلى المغرب العربي والإسلامي، والبلدان الأوروبية، فتمكن في فترة وجيزة من إنشاء عدد من الزوايا في الجزائر، والمغرب الأقصى، وتونس من أجل نشر الأخلاق المحمدية والتربية الروحية بين أفراد المجتمع، وتحسيسهم بأهمية القيم الإنسانية، إضافة إلى تبليغ الرسالة المحمدية إلى غير المسلمين من أوروبيين وأفارقة.
ولم يمنع تصوّف الشيخ العلاوي وحمله على عاتقه مسؤولية التربية والإرشاد والتوجيه إلى ما يصحح الرابطة مع الله، من اتخاذ مواقف وطنية عملية عكست غيرته على وطنه وحبّه له، فزيادة على مواقفه المعادية للاستعمار وأذنابه، عمل على محاربة المظاهر التي تشوّه الوطن وفضح أصحابها، كمظاهر الفساد الأخلاقي، والإداري، والسياسي، والتزمت الديني، وظهور تيارات التغريب والتفرنج في المجتمع الجزائري، والعصبيات الجهوية التي كادت تشتت الأمة وتفشلها وتذهب بريحها، كما حارب الأعمال التبشيرية التي كانت تنشطها جمعيات الآباء البيض بشمال إفريقيا عموما، وبالجزائر على وجه الخصوص، وتصدى لفكرة التجنيس، والاندماج مع فرنسا.
لم يكن الشيخ العلاوي ينظر إلى الزاوية مجرد مكان للذكر والتعبّد، بل مدرسة روحية وتثقيفية في آن واحد، فكان يحث أتباعه في كل مناسبة على جعل زواياهم معاهد للإشعاع العلمي، مما جعله يخصص في كل زاوية غرفا للدراسة، ولعابري السبيل، وساهم ـ قدس الله سره - في تأسيس مدارس، في كل من مستغانم، وغليزان، وتلمسان، والجزائر، واهتم بالأعمال الخيرية وأسس لذلك جمعيات لعبت دورا في تربية النشء وتعليمه، والتكفل باليتامى والمساكين، وإعطائهم بعض العلوم الضرورية، والحرف، كالطباعة، والميكانيكا، ومن هذه الجمعيات: «جمعية السلام»، وكان مقرّها بالجزائر العاصمة، تكفلت خاصة باليتامى وأبناء الفقراء، وحملت على عاتقها تربيتهم وتحسين شؤونهم، وتلقينهم المبادئ الدينية، والأخلاق الإسلامية.
آثاره في الفقه والتوحيد:
في الفقه والتوحيد ألف الشيخ العلاوي عدة رسائل منها «الرسالة العلاوية في البعض من المسائل الشرعية» التي تقع في ألف بيت تحتوي على أهم الأحكام الشرعية، من توحيد وعبادات، وأحكام الصيام والحج والزكاة، وغيرها من الفصول المهمة التي لا يستغني عنها مسلم حريص على معرفة أصول دينه، وختمها بكتاب التصوّف (132 بيتا)، حلل فيها مذهب التصوّف تحليل العارف المتمكن، وغاص فيه غوص العالم المتبحر، واستخرج من أعماق بحره اللآلئ والدرر تأخذ بالأبصار، وتستولي على القلوب.
وفي الكتاب الذي جمعه الشيخ محمد الغماري تحت عنوان «أعذب المناهل في الأجوبة والرسائل»
تضمن مجموعة من أجوبة ورسائل الشيخ العلاوي رحمه الله، تمثلت في 93 سؤالا وجوابا و37 رسالة مع وصية الشيخ ومناجاته، تعالج هذه الأجوبة والرسائل أهم مسائل الدين، وأدق مشكلات العقيدة على ضوء الآيات القرآنية والسنة النبوية، بالإضافة إلى المواضيع الأخلاقية والصوفية التي عالجها بأسلوبه المحكم وفكره الثاقب.
ومن هذه الرسائل «القول المقبول فيما تتوصّل إليه العقول» وهي الرابعة والعشرون من رسائله في كتاب أعذب المناهل، تقع في ثلاثة أقسام شاملة لحقائق علم التوحيد المفضي إلى كمال الإيمان وخاتمة قصيرة. تناول في القسم الأول والثاني ما يجب على المكلف الشعور به، والتسليم فيه، وفي القسم الثالث ما يجب الإيمان به.
ووضع الشيخ أيضا كتابا نفيسا تحت عنوان «مبادئ التأييد في بعض ما يحتاج إليه المريد» لتعليم المبادئ الضرورية من أحكام العبادات، بأسلوب بسيط، وطريقة حديثة تساعد المبتدئين والمريدين على الفهم والتحصيل، وهو كتاب لا يستغني عنه الناشئ والمريد والمسلم المتطلّع إلى المعرفة الفقهية والأصول الشرعية التي تعصم العبادات والاعتقادات من الأخطاء والأهواء.
كما ألف كتابا حول «قواعد الإسلام» خاصا بالمسلمين الذين يحسنون اللغة الفرنسية ويجهلون اللغة العربية، مدعما بالرسوم المختلفة التي تسهل معرفة أهم الواجبات والفضائل في أداء فريضة الصلاة على أحسن كيفية حتى تكون مقبولة عند الله.
وفي كتاب «نور الأثمد في سنة وضع اليد على اليد في الصلاة»، وهو جواب عن سؤال ورد إلى الشيخ العلاوي من الشيخ محمد بن خليفة بن الحاج عمر المداني القصيبي بساحل تونس عن مسألة وضع اليد على اليد في الصلاة، فصل الشيخ العلاوي في مسألة القبض والسدل، وقد اعتمد في جوابه على ما صحّ نقله عن الصحابة والتابعين وفيما ثبت نقله عن الإمام مالك، والوجه الثالث والأخير في رواية ابن القاسم القائلة بسدل اليدين في الصلاة.
التفسير:
ألف الشيخ العلاوي كتاب «البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور» وفي التفسير قال النقاد أنه «تفسير نفيس لم يجد الزمان بمثله إلا لخواص الأمة المحمدية.. اتبع فيه منهاجا فريدا لم يسلكه سابق ولا لاحق»، فقد فسّر الآية على أربعة أوجه وأتى فيه بالعجب العجاب، ولكن المنية عجلت به فتوقف مدده ولم يكتمل التفسير.
وله أيضا: «منهل العرفان في تفسير البسملة وسور من القرآن» ويتضمن ثلاثة كتب هي: «النموذج الفريد المشير لخاص التوحيد» كشف فيه عن مكنونات نقطة الباء من بسم الله الرحمن الرحيم، وما تنطوي عليه من الأسرار والمعاني، و»لباب العلم في سورة «والنجم»: وهي رسالة قيمة، عالج فيها الشيخ حقيقة النبوة، والرسالة، والوحي، وحقيقة رؤية الله والملائكة، ومعنى الإسراء والمعراج، وما استنبطه أثناء شرحه للسورة من دقائق وآداب على طريق الإشارة، فجمع بين الفهم والذوق لمعاني السورة وأسرارها بأسلوب قوي، ومنطق عجيب يدل على أصالته وسعة معارفه. ثم «مفتاح علوم السر، في تفسير سورة «والعصر» وهو عبارة عن رسالة أبان فيها، الأستاذ بن عليوة، عن حقيقة الإنسان الحيواني، والإنسان الرباني، الذي استجمع خصال الإيمان التي تكفل له السعادة الأبدية، وهو الإنسان الكامل الذي رسم صورته القرآن.
الفلسفة وعلم الفلك:
وفي الفلسفة ترك رسالة «الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية» وهي مجموعة أبحاث تناولت زبدة آرائه في حقيقة الإنسان، ووظيفته في المجتمع الذي يعيش فيه، وكون التشريعات الوضعية المتغيّرة لا تحلّ محل الشرائع الإلهية الثابتة الحقائق، وخلوّها من الأغراض الشخصية التي لا تنفك عنها تشريعات البشر، وكون العقل يتطرقه الخطأ كغيره من المدركات، وأن الفلسفة الصحيحة لا تنفي التديّن لأنه غريزة بشرية، وأن الإنسان العصري أحوج إلى التدين من الإنسان الغابر، وخلاصة رأي الشيخ العلاوي في أن «دخول الإنسان تحت وصاية الشرع الإلهي أجمل به من دخوله تحت وصاية بعض الأفراد من نوعه».
وفي مجال البحث الفلسفي أيضا نجد للشيخ مؤلفا تحت عنوان: «مظهر البينات في التمهيد بالمقدمات».
وهي مقدمة مهد بها كتابه الأجوبة العشرة قدمت تحت هذا العنوان، يتضمن الكتاب مقدمة مستفيضة في خمسة وعشرين فصلا، تناول فيها أهم مسألة تشغل العالم أجمع، وهي ضرورة الشرائع الإلهية لبني البشر، وأن الإنسان لابد له من دين يتضمّن سعادة الدارين، ومركزه الأهم التوحيد، ثم الانقياد فيما أمر ونهى وأراد، حسبما تتوقف عليه ما يوافق الحاضر. وفيها رد على الفلاسفة والدهريين الذين «ضلّ سعيهم في العلم الإلهي بسبب استخدام العقل في ما وراء طوره»، وفيها دعوة أوروبا العظمى إلى الإيمان بالقرآن الذي يلائم مدنيتها الحاضرة.
وله في علم الفلك: «مفتاح الشهود في مظاهر الوجود» وهو كتاب جاء فيه بالتحقيق والتدقيق ليس في علم الهيئة فقط، بل هو إلى التوحيد الخالص أقرب منه إلى علم الهيئة والأفلاك السماوية، حيث يكشف عن ملكوت الواحد المعبود، ليكون العبد من الموقنين، إنه مفتاح الشهود، حيث يتجلى الحق بعد التحقيق والتصديق.
وفي التصوّف كان كتاب «المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية»، أول كتاب نشره الشيخ العلاوي وأنفس الكتب التي خلفها من تراث علمي، بل أنفس الكتب في علم القوم (الصوفية). فقد وفقه الله لفتح مغلقات «المرشد المعين» لمؤلفه ابن عاشر شرحا صوفيا إشاريا متميزا، يحتوي ظاهرا على أركان الدين، وباطنا على مسلك من مسالك الإشارة، فكان هذا العلم دقيقا، والخوض فيه لا يطيقه إلا أهل التحقيق.
وترك مخطوطا نفيسا بعنوان «معراج السالكين ونهاية الواصلين» ظل مجهولا قرابة الثمانين عاما قبل أن ينشر وهو من مؤلفاته التي كتبها في التصوّف، شرح فيه منظومة شيخه مربي السالكين محمد بن الحبيب البوزيدي، على طريقة أهل الأذواق. وله أيضا «المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية» (في جزأين) وهو شرح بالأسلوب الصوفي المتميز لحكم الغوث أبي مدين شعيب.
وفي باب الدفاع عن التصوّف رد الشيخ العلاوي على ما نشره أحد علماء المدينة المنورة في مجلة الشهاب عدد 174 من الهجوم على شرف القوم الصوفية والتنكيل بكرامتهم ردا بعنوان «رسالة الناصر معروف في الذب عن مجد التصوّف» نشرت أول الأمر في أعداد من صحيفة البلاغ الجزائري، قبل أن يجمع فصولها الشيخ محمد بن الهاشمي التلمساني وطبعها في رسالة مستقلة وذيلها بتقاريظ العلماء في المشرق والمغرب انتصارا للحق، وحماية لبيضة الدين أن تعبث به يد الأشرار.
وفي رسالة أخرى بعنوان، «رسالة القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف»، لم تزل تهدي الحائرين بنورها، وعباراتها الشافية، وبراهينها الدامغة في تحقيق مذهب التصوّف والرد على منكريه أمثال الفقيه الشيخ عثمان بن مكي التونسي صاحب المرآة لإظهار الضلالات. رد الشيخ العلاوي بأسلوب محكم وعرض منطقي سليم، بهذه الرسالة المدعمة بالنصوص القاطعة، والآثار الصحيحة التي لا ينكرها إلا معاند جحود رضي بالقعود مع الخوالف فطبع على قلبه بالإنكار.
كما له ديوان وهو مجموعة من القصائد الشعرية في التصوّف والأخلاق تدور في معظمها حول التغني بجمال الحضرة الإلهية والحضرة المحمدية، كما تعبر عن المعاني المتداولة لدى السادة الصوفية، ووصف أحوالهم ومقاماتهم.
وتوفي الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي يوم 14 جويلية سنة 1934 م ودفن بزاويته في مستغانم.