قبل 25 سنة بالضبط، وتحديدا في أكتوبر من عام 1996، في العدد 126، من مجلة السياسة الدولية التي ينشرها مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام، نشرت بحثا عنوانه «المكانة المستقبلية للولايات المتحدة على سلم القوى الدولي»، وجاء في خلاصته بعد مناقشة عشرات المؤشرات المركزية والفرعية السياسية والاقتصادية والتقنية والعسكرية والاجتماعية وبعد توظيف لتقنيات الدراسات المستقبلية ولدورات نيكولاي كوندراتيف، توصلت إلى النتيجة التالية حرفيا (صفحة 25):
«وقد أدت هذه التحولات الجذرية الى حركية داخل النظام الرأسمالي تتمثل ابرز جوانبها في البدء في التحول في مركز العلاقات الدولية من مركزها الاطلسي الى مركزها الباسيفيكي، وهو ما سيترتب عليه آثار سلبية على مركز الولايات المتحدة في سلم القوى الدولي».
ومن الضروري إدراك أن الظاهرة السياسية بخاصة والاجتماعية بعامة لا تتطور بإيقاع متسق، كما قد تشمل التطور الخطي وغير الخطي، لكن الأصل في مراقبة هذه الظواهر هو التركيز على «الاتجاهات الأعظم» (Mega trends) والتي يتم فهمها من خلال الربط بين الأحداث (Events) والاتجاهات الفرعية (Sub (trends والاتجاهات (Trends) عبر تقنيات لا مجال للخوض فيها في هذا المقام.
إن توقعنا الذي أشرنا له قبل ربع قرن، يتأكد من خلال التنامي الواضح للثقل الصيني (والذي قد يسير بشكل غير خطي أحيانا) ومن خلال القوة الاقتصادية والمالية لليابان، والميل الروسي لإعادة اعتبار روسيا كما عرفها لينين «دولة آسيوية» مدعومة حاليا برؤية نظرية ذات وزن كبير في دوائر القرار الروسي يتأبطها ويروجها ألكسندر دوغين. وعليه، فإن منطقة الباسيفيكي ونزاعاته حول بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا وجزر تلك المنطقة، لا تنفصل جيواستراتيجيا عن امتداد هذه الجغرافيا الآسيوية لتلامس شفاه شواطئ بحري قزوين والأسود. ومن هنا تتضح صورة مركز الثقل الجديد، ويصبح فهم استراتيجية «مبادرة الحزام والطريق الصينية» والصعود (أو التنمية) السلمي وأمن الجوار القريب الروسية واضحتين تماما.
كيف سينعكس هذا على منطقتنا؟
لا شك أن الإعلان الأمريكي ولو بطريقة ملتبسة بعض الشيء عن انسحاب من أفغانستان وتفاوض مع العراق على وجود قواتها أو تخفيفها وإعادة انتشار قواتها هنا وهناك تحت ضغط العبء الدفاعي الذي حذر بول كينيدي من تبعاته عام 1986، كل ذلك يؤكد ان ظلال ذلك سيتفيأ تحتها سكان الشرق الأوسط او يصطلون بجحيمه، وهو ما يتبدّى في مظاهر التغير التالية التي تكشف استشعارا لما يجري:
أ- المفاوضات الإيرانية السعودية سواء السرية أو شبه السرية تشير الى قلق حلفاء أمريكا من تداعيات انتقال التركيز الأمريكي الى الباسيفيكي.
ب- استمرار المفاوضات الأمريكية الإيرانية بخصوص الملف الايراني يخلق قلقا عميقا في إسرائيل من أن عدم تصفية البرنامج النووي الايراني والتفات أمريكا الى مناطق أخرى يعني أن مبدأ الاحتكار الاسرائيلي للتسلح النووي في المنطقة قد يتحول الى خبرة تاريخية لا أكثر، مما يفتح المجال لتداعيات قد تربك الاستراتيجية الإسرائيلية.
ت- القلق الخليجي من التخفيف التدريجي للوجود الأمريكي يدفعها للبحث عن مظلة حماية أخرى، وهو ما سيفتح الباب لمزيد من التطبيع مع إسرائيل أو التقارب التدريجي مع كل من روسيا والصين. علما أن التقارب مع الصين أكثر وضوحا.
ث- قلق إسرائيلي من الجانب الأمريكي يمكن تحديده في:
1- تزايد واضح في عدد المفكرين الأمريكيين الاستراتيجيين البارزين الذين يطالبون بمراجعة أمريكا لسياستها مع إسرائيل.
2- التراجع في نسبة تأييد الرأي العام الأمريكي لإسرائيل، لا سيما في الوسط الديمقراطي وبين الشباب، طبقا لاستطلاعات الرأي العام الأمريكي، واتضح ذلك جليا بعد معركة «سيف القدس».
3- تنامي الخلافات داخل جماعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة حول العلاقة الأمريكية مع اسرائيل.
4- عودة السياسة الأمريكية للحديث عن حل الدولتين رغم الصعوبة الهائلة في تطبيقه.
5- تراجع أهمية النفط العربي للسياسة والاقتصاد الأمريكي.
6- التفوق الكبير للتجارة الصينية على التجارة الأمريكية في المنطقة.
لكن الضرورة تقتضي التنويه ببعد مقابل لما سبق وهو أن الولايات المتحدة ستعمل على تحميل أعباء رعاية مصالحها في المنطقة للقوى المحلية من خلال مساندة أمريكية أقل عبئا وأكثر جدوى، وهو ما يشي به ما يلي:
1- نقل إسرائيل من منطقة عمليات القيادة الأوروبية الى القيادة المركزية للناتو (التي يشمل عملها منطقتنا)، وهدف ذلك تقاسم الأعباء مع الناتو من خلال الدور الاسرائيلي ثم لمواجهة آثار الشراكة الصينية الإيرانية التي جرى الاعلان عنها مؤخرا، ويكفي هنا الاشارة الى ان القيادة المركزية للناتو التي تم نقل إسرائيل لها في يناير الماضي كانت قد أنشئت عام 1983 بعد الثورة الايرانية والتدخل السوفييتي في أفغانستان، وهو ما يعزز استنتاجنا بخصوص نقل اسرائيل الى هذه القيادة.
2- اتفاقيات ابراهام مع دول خليجية ساندتها دول عربية هي تحميل جزء أكبر من الأعباء للبقرة العربية الحلوب، وجر النزاعات بعيدا عن الصراع العربي الصيهوني، مع تواجد إسرائيلي على الحدود مع إيران، ناهيك عن أن هذه الاتفاقيات ستجعل حدود الفصل بين النشاط العسكري الأمريكي والعربي والاسرائيلي باهت بشكل يجعله أقل قابلية للنقد، فالتدريبات المشتركة والتنسيق الأمني بين هذه الأطراف سيزداد بشكل كبير وستكون مدرسة التنسيق الأمني الفلسطيني- الإسرائيلي نموذجا للسوابق التي ستحتذى..
3- من الواضح ان المعركة على العراق تدور بقسوة، فهناك إقليم كردستان الذي يتصرف بقدر كبير من الاستقلالية داخليا وخارجيا، وهناك الصراع بين بعض أجنحة المؤسسة العسكرية وبين فرق الحشد الشعبي، وهناك الإرث البعثي وفلول داعش، ويبدو أن هناك محاولة لدمج العراق في تكتل إقليمي فرعي ترتبط أطرافه بإسرائيل مباشرة لجر العراق للارتباط غير المباشر كمرحلة أولى مع إسرائيل ثم الارتباط المباشر في مرحلة لاحقة.
4- يبدو أن الأمريكيين سيتركون القضية الفلسطينية لأطرافها ليصنعوا حلا إقليميا سيكون ميزان القوى الإقليمي هو محدده الرئيسي.
لكن كل ما سبق سيدفع الى تكييف أنظمة سياسية لتتناسب مع التحولات السابقة، ونعتقد أن ذلك التكيف سيكون خشنا، وقد تكون السعودية هي مركز هذا التكيف الخشن، نظرا للتحولات الدولية (وأبرزها استدارة السند الدولي شرقا) والصراعات العميقة داخل الأسرة الحاكمة، وضرب الثقافة الوهابية وتداعيات ذلك، وذيول حرب اليمن والفشل الذريع في تحقيق نتائج ذات معنى، الى جانب تضاؤل القدرة المالية نتيجة اضطرابات السوق النفطي مما جعل الوظيفة الريعية تتآكل تدريجيا. ونعتقد ان هذا الاضطراب سيطل برأسه طبقا لإيقاع المؤشرات المختلفة، واستنادا لإسقاط (Projection ) هذه المؤشرات على المستقبل فإن الانفجار سيكون خلال الفترة من منتصف عام 2022 الى نهاية عام 2024... ربما.