يرتبط تأمين الموارد المائية بالأمن الغذائي، وتشكّل العلاقة بينهما تحدياً كبيراً للبشرية جمعاء، بالنظر إلى الوضع المناخي الطبيعي في العالم الذي أدى إلى تفاقم هذا التحدي، الموجود في صلب اهتمامات الدولة الجزائرية واستراتيجياتها الحكومية، حيث يمثل تلبية الطلب المتزايد على المياه في الجزائر التحدي الأكبر للدولة، كما يمثل الحفاظ على الثروة المائية تحديا آخر لا تقع مسؤوليته على الدولة فحسب، إنما على أفراد المجتمع باعتبارهم عنصرا أساسيا لتحقيق التنمية المستدامة.
تتطلّب التحديات المختلفة التي تواجه قطاع الموارد المائية ترشيد الاستهلاك والإدارة الجيدة للموارد المائية، يكون أساسها تهذيب السلوكات اليومية للمواطنين لاسيما المرتبطة بالإسراف في استعمال المياه، ووقف هدر المياه أثناء التوزيع بسبب التسربات وأعطاب الشبكات، إضافة إلى اعتماد طرق مبتكرة لزيادة موارد المياه غير التقليدية لمواجهة التغيّر المناخي وارتباطه بتوقعات توفير المياه للأفراد.
توفر البيانات المتاحة لمحة عامة عن وضعية المياه في الجزائر، المتجهة فعلا إلى التناقص، والتي نتجت عن عدة عوامل مؤثرة أهمها الجفاف والتقلبات المناخية، زيادة على الاستخدام غير الفعّال للمياه الناتج بدوره عن تسربات الشبكة، وارتفاع حاجيات السكان من مياه الشرب الراجعة إلى النمو الديمغرافي والنزوح الريفي، زيادة على احتياجات قطاع الفلاحة والصناعة التي أخذت منحى تصاعديا، باعتبار أن التوجّه الاقتصادي الجديد للجزائر يرتكز أساسا على خلق أقطاب فلاحية ودعم الإنتاج الفلاحي.
مخزون استراتيجي هام
تتوفر الجزائر على مخزون هام من المياه الجوفية والسطحية، ما يكفي لتلبية الحاجيات الأساسية للمواطن، إضافة لاحتياجات قطاع الفلاحة والصناعة، لحدود 8 آلاف سنة إذا بقي في حدود 5 مليار م3، وهي حجم استراتيجي يتطلّب المحافظة عليه، على حدّ ما يؤكده الخبراء والمختصّون في المياه.
وتسمح إنجازات الدولة الجزائرية في مجال حشد المياه والتحويلات المائية الكبرى بحماية هذا المورد الحيوي، وتأمينه للأجيال بما يحقّق الأمن المائي، حيث تحقق انجازات الدولة لآفاق سنة 2030 إنشاء 125 سدّ، زيادة على إنجاز محطات تحلية مياه البحر واستغلالها في الشرب ومجالات أخرى، ضمانا للتوازن بين الموارد المائية الموجودة ولاحتياجات الاستهلاك لاسيما تلك التي تتطلبها الفلاحة والصناعة، وكل مناحي الحياة، لكن جهود الدولة وتدخلاتها الإنمائية في مجال حشد وتعبئة المياه لن تكون كافية إلا في حال تماشت معها إرادة أفراد المجتمع في الحفاظ على المياه كثروة لا تقدّر بثمن.
ويستهلك قطاع الفلاحة لوحده سنويا 80 بالمائة من المياه الجوفية والسطحية، فإن توجّه الدولة إلى انجاز محطات لتحلية مياه الشرب يرمي أساسا إلى تعويض التموين التقليدي بمياه الشرب من مصادره الجوفية والسطحية، وبالتالي تخصيص هذه الأخيرة للسقي الفلاحي بما يسمح بتوسيع نطاق الأراضي الفلاحية المسقية، غير أن ذلك لا يكفي أمام اشتداد تأثيرات التقلبات المناخية وتراجع التساقط الذي نعتمد عيه في تغذية طبقة المياه الجوفية، لذلك صار لزاما علينا العمل على استرجاع أن نتحوّل نحو الاستغلال مياه الأمطار التي تواصل دورتها في الطبيعة دون أي استغلال، مثلها مثل المياه المستعملة التي يظل استغلالها محتشما وقليلا مقارنة بأهميتها وكميتها في الطبيعة بعد التصفية والمعالجة، مع العلم أن الجزائر تحصي 177 محطة معالجة المياه بقدرة استيعاب تقدر بـ 900 مليون متر مكعب سنويا، و70 محطة في طور الإنجاز تمكن من تصفية 300 مليون متر مكعب، ليصبح حجم المياه المعالجة في حدود 1.2 مليار متر مكعب سنويا، وهي كمية معتبرة ذات أهمية بالغة إذا استعملت للسقي لن نضطر إلى استخدام مياه السدود والمياه الباطنية.
المياه المستعملة
لكن استعمال هذه المياه المعالجة في قطاع الفلاحة يبقى مرهونا بمدى مطابقتها للمعايير وخلّوها التام من الترسّبات الكيميائية السامة والمعادن الثقيلة، وبالرجوع إلى تجارب دول صناعية كبرى تعتمد على تدوير المياه المستعملة وإعادة استعمالها حتى في الأشغال المنزلية، يلاحظ أن مجتمعات هذه الدول من بينها السويد وبلجيكا اللتين لا تطرحان أي مشكل في شحّ المياه على الأقل في الوقت الراهن، تعتمد على الفرز الانتقائي للسوائل المنزلية.
ويرى الخبراء في البيئة والمهتمين بالثروة المائية، أن الزيوت المستعملة النافذة لشبكات الصرف الصحي، ومن ثمّة إلى محطات معالجة وتصفية المياه هي أحد المشاكل التي تعيق إنتاج مياه قابلة لإعادة التدوير والاستعمال سواء في الأشغال المنزلية أو في قطاع الفلاحة، خاصة في ظل عدم تجهيز محطات تصفية المياه بالمعدات المتطورة.
ويبقى استغلال المياه المستعملة تحديا لابد أن يبلغ مستويات عالية في استراتيجية الدولة لمواجهة شحّ المياه وتوجهها للحفاظ على الثروة المائية، كما تمثل مياه الصرف الصحي موردا اقتصاديا هاما، وبديلا استراتيجيا للمصادر التقليدية للمياه في الجزائر، التي استثمرت كثيرا في مجال إنجاز منشآت معالجة المياه المستعملة بحجم يزيد عن 2 مليار م3، بالنظر إلى تداعيات العوامل التي أدت إلى شحّ المياه، حيث تعتبر المياه المستعملة القابلة للتدوير، مصدرا لتوليد الطاقة واستخلاص السماد الطبيعي كما هو الحال بالنسبة للتجربة الصينية في المجال.
مناخ مقلق
تتنوّع مصادر المياه في الجزائر بين أكبر مخزون استراتيجي للمياه الجوفية في الصحراء إلى جانب مخزون مياه السدود المتراجع بفعل الجفاف، زيادة على محطات تحلية مياه البحر التي يعوّل عليها كبديل للمياه الجوفية والسطحية للتموين بمياه الشرب، إضافة إلى الحجم الهائل من المياه المستعملة القابلة للتدوير والاستغلال في النشاطات الزراعية، ويرى الخبراء أن حماية الثروة المائية التي أصبحت أساس النزاعات بين الدول،ينطوي على وضع استراتيجية لترشيد وعقلنة استعمالها في كافة مجالات الحياة والحفاظ عليها من التلوث، لاسيما في الوضع البيئي الحالي المختل بسبب الاحتباس الحراري والتقلبات المناخية وامتداد موجة الجفاف، مقابل النمو الديمغرافي المتزايد وتزايد احتياجات السكان.
ويقدّر معدل التساقط المطري في الجزائر 12.6 مليار متر م3، 4 ملايير م3 منها تذهب للبحر، زائد ما يتراوح حجمه بـ 2.5 مليار م3 من المياه الباطنية في الشمال، وبين 40 ألف إلى 60 ألف مليار م3 بالجنوب، يستعمل منها 5 ملايير م3 سنويا، للشرب، الفلاحة والصناعة وكل الاستعمالات، وهذا المخزون العام يكفي حسب الخبراء لسدّ كل الاستعمالات لـ 4 آلاف سنة فقط إذا ارتفع معدل الاستهلاك إلى 10 ملايير م3، وإلى 8 آلاف سنة إذا بقي في حدود 5 مليار م3، الأمر الذي يتطلّب منا جميعا حماية هذه الثروة المهددة بالزوال.
د. سويدي: خطّي التّهديدات الإيكولوجية بتصرّفات فردية بسيطة
دعت الدكتورة مومنين سويدي زهيرة، المختصة في البيئة وعلم الغابات، إلى حماية وتنويع مصادر المياه لتحقيق التنمية المستدامة، وأوضحت متحدّثة لمجلة «التنمية المحلية»، أنّ مسألة ترشيد استهلاك المياه التي تشغل الرأي العام العالمي، هي مسؤولية الدول والشعوب، ولا ينبغي تجاهلها.
اعتبرت الدكتورة سويدي زهيرة المياه أساس الحياة وأساس التنمية المستدامة التي تتحقّق على ثلاث أركان متكاملة (الاجتماعية - الاقتصادية - البيئية)، وعليه تتوقف مسألة ترشيد استهلاك المياه على الوعي الاجتماعي بأهمية الاتزان في استهلاك المياه، تفادي التبذير والاستغلال الرشيد والعقلاني للماء، وتهذيب السلوكات اليومية لأفراد المجتمع من ناحية الاستعمال المفرط والمسرف للمياه، مع التركيز على فكرة أن الصراعات المستقبلية والحالية بين الدول أساسها مصادر المياه، نتيجة ارتفاع نسبة الكثافة السكانية ومعدل النمو فيها وكثرة احتياجاتها من المياه لأغراض متعدّدة.
خطة للحفاظ على موارد المياه ومصادرها ضرورة
على الصعيد الوطني الاستراتيجي، أكّدت الدكتورة سويدي زهيرة أن الجزائر بحاجة إلى خطة للحفاظ على موارد المياه ومصادرها الجوفية والسطحية، في ظل التقلبات المناخية وتأثير الجفاف، زيادة على التوسّع العمراني وارتفاع الكثافة السكانية، يكون أساسها حماية المياه من التلوث، من خلال رفع حجم الاستثمارات في مجال بناء المنشآت اللازمة لمعالجة المياه الصناعية الملوثة ومياه الصرف الصحي للتجمعات السكانية والصناعية على وجه الخصوص، وتطوير هذه المنشآت بشكل يسمح بمعالجة المياه قبل صرفها في المسطحات المائية، ويمكّن من إعادة استعمالها المنزلي، لافتة إلى تجارب عدة دول أوروبية على غرار بلجيكا في مجال معالجة المياه وإعادة استعمالها.
وأشارت الدكتورة زهيرة سويدي، إلى أن حماية مصادر المياه سواء من خلال ترشيد استهلاكها أو حمايتها من التلوث، لابد أن يكمله التشريع القانوني، من حيث عدم السماح بتصنيع واستيراد واستخدام المواد والأدوات الملوثة للبيئة ومصادر المياه ، على غرار الاستغلال المفرط وغير المدروس للأسمدة الكيميائية في المجال الفلاحي، التي من شأنها النفاد في طبقة المياه الجوفية والإضرار بها، زيادة على ما تحدثه المياه المستعملة غير المعالجة من ضرر على طبقة المياه الجوفية وحتى المياه السطحية.
ودعت الدكتورة سويدي، إلى تشجيع أفراد المجتمع وتوعيتهم بأهمية الفرز الانتقائي للنفايات المنزلية، الصلبة والسائلة، وتربية الأجيال على أسس ثقافة بيئية، واعتبرت المتحدثة أن أول خطوة نحو حماية مصادر المياه وترشيد استغلالها تحقيقا للتنمية المستدامة، تبدأ من تهذيب السلوكات الفردية ودراية الأفراد والمجتمعات بالتهديدات التي تواجه البشرية والتوازن الايكولوجي على المدى المتوسط والبعيد، لاسيما من حيث الأمن المائي والأمن الغذائي، مشيرة إلى أن الجزائر دولة وشعبا يمكنها تخطي التهديدات الايكولوجية المحتملة نتيجة التقلبات المناخية وانحسار مخزون المياه الجوفية، بتصرفات فردية بسيطة واستثمارات مالية ذات نتيجة، من خلال تجنب الإسراف في استعمال المياه، فرزها بعد استعمالها وقبل صرفها في المنزل، والتشجيع على تدويرها بعد معالجتها بتقنيات عالية الجودة، زيادة على إصلاح أعطاب الشبكات وإنجاز عدة سدود صغيرة في مستوى واحد بدل سدود كبيرة، عملا على ترشيح الأتربة والأوحال تفاديا لتوحل أحواض السدود.
د. زعقان: مياه الشّمال الجوفية مهدّدة بالتلوّث
ذكر الدكتور منصور زعقان، المختص في علوم الأرض بجامعة معسكر، أنّ الجزائر تسجّل أريحية في وضعية المياه من حيث الكمية والنوعية، غير أنّ الحفاظ على هذه الأريحية لابد أن يكون مدروسا، خاصة في ظلّ وجود احتياطي هام من المياه الجوفية في الجنوب الجزائري يقدر بنحو 5 مليار م3 يتمركز أغلبه على خط سلسلة الأطلس الصحراوي حتى تمنراست، واحتياطي يزيد عن 2 مليار م3 من المياه الباطنية في الشمال.
يضيف الدكتور زعقان، أن مخزون المياه الباطنية في الصحراء غير متجدّد، يطرح بين الحين والآخر مشكل الملوحة بسبب الطبيعة الجيولوجية للمنطقة، ويحتوي على طبقة من الطين المتحول الذي يحتوي بدوره على احتياطي هام من الغاز الصخري.
وأشار أن الغاز الصخري لا يشكل أي تهديد لطبقة المياه الجوفية في الصحراء، غير أن التقنية المستخدمة عالميا وفي الوقت الحالي لاستغلال الغاز الصخري هي التي تهدّد سلامة ونوعية المياه الجوفية في المنطقة، موضحا أن الوقت مبكر جدا على المخاطرة بهذا المخزون الاستراتيجي غير المتجدّد من المياه الجوفية، في انتظار حلول وابتكارات تكنولوجية وتقنية أخرى غير ملوثة.
وأثار دكتور زعقان، مسألة التلوث التي تهدّد سلامة الطبقة الجوفية لمياه في شمال الجزائر، الناتجة عن النمو الديمغرافي وتزايد احتياجات السكان ومسبّبات التلوث البيئي الناجمة هي الأخرى عن الاستعمال المفرط للأسمدة العضوية والكيميائية في الفلاحة، والتي يكون مصيرها النفاذ في التربة ثم إلى طبقة المياه الجوفية، إذ كان لابد لأنظمة الرقابة أن تشرع لتنظيم استعمال الأسمدة ومسببات التلوث.
ويرى أنّه أصبح من الضروري ضخّ استثمارات كبرى من أجل الحفاظ على نوعية الموارد المائية وحمايتها من التلوث، من خلال التجهيز الأمثل لمحطات تصفية ومعالجة المياه بتقنيات متطوّرة ومطابقة للمعايير الدولية، الأمر الذي يسمح لاحقا بالتوجه نحو تجارب الحقن الاصطناعي للمياه الجوفية من أجل إعادة تعبئتها، زيادة على فرض الرقابة الكاملة على ظواهر تبذير المياه والحفر العشوائي للآبار ما يسهم إلى حد كبير في تعافي طبقة المياه الجوفية لاسيما في شمال البلاد.