دبلوماسية تكرّست لدحر نير الاحتلال المدّمر، ما كانت لتغيّر مسارها النبيل، هي الدبلوماسية الجزائرية، التي ناضلت ورافعت ومازالت تفعّل في سبيل نصرة القضايا العادلة، نصرة المضطهدين في العالم في فلسطين الأبية وفي الصحراء الغربية وقبلهما نصرة الأفارقة ضد نظام الابرتايد في جنوب أفريقيا.
دبلوماسية صالت وجالت في أروقة هيئات الأمم المتحدة مساندةً للدول المناضلة من أجل التحرّر من الاستعمار الذي جثم على صدور شعوب البلدان المحتلة، إلى جانب حل أزمات امتدت سنوات مديدة، كانت لها البصمة الأبرز في حلها. وبفضل حيادها ونواياها الحسنة الخالية من أطماع خفية أو نيل مزايا خاصة كسبت الدبلوماسية الجزائرية احترام الجميع، وقبل بها المتخاصمون أينما توسّطت، بل وتُطلب وساطتها في أحايين كثيرة، رغم تشويش المنافسين. وما قبول أطراف النزاع في ليبيا ومالي وهما من أخطر النزاعات الداخلية الأفريقية، بوساطة الجزائر والتحفّظ من باقي الوساطات إلا دليلا آخر على هذا التميز.
هذه السمعة الطيبة التي نالتها الدبلوماسية الجزائرية - وأعطتها مصداقية جعلتها طرفا مأمون الجانب في كل القضايا التي تتوسّط فيها- إنما جاءت نتاج تراكم تاريخي بدءا من نضالها ضد المحتل الفرنسي الغاشم، الذي عاث فسادا في الأرض المباركة قرنا و32 سنة، وكانت ثورة أول نوفمبر المظفرة قاعدة بناء دبلوماسية محكمة النسيج، استطاع قادتها رغم قلة الخبرة مقارعة أعتى القوى الاستعمارية في القرن العشرين، حيث أخضعوا العدو للتفاوض بالمزاوجة بين العمل المسلح داخليا والنضال السياسي خارجيا.
ولأنها عانت من ويلات الاحتلال الذي سلبها كل حق في تسيير شؤونها، بنت الجزائر سياستها الخارجية على مبادئ راسخة لم تحد عنها مذاك، وضمنتها في كل مواثيقها الأساسية من دستور 1963 إلى التعديل الأخير في 2020.
من التحرير إلى فكّ العزلة
دبلوماسية متطوّرة لكنها ثابتة: تكيفت الدبلوماسية الجزائرية عبر تاريخها مع المرحلة التي تعيشها، فمن دبلوماسية ثورية أثناء ثورة التحرير، وهدفت إلى تدويل القضية الجزائرية وعزل العدو دبلوماسيا على المستوى الخارجي، توسيع دائرة الأصدقاء وجلب دعم مادي ومعنوي، استنزاف العدو دبلوماسيا من خلال الضغط المتواصل في كل مناسبة، فضح الممارسات الوحشية للمحتل الفرنسي وإيصال معاناة الشعب الجزائري للعالم، إلى الدبلوماسية التحرّرية ناضلت خلالها ودافعت عن الدول القابعة تحت الاحتلال، ثم دبلوماسية فكّ العزلة عن الجزائر خلال الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد في التسعينيات من القرن الماضي، حيث فرض على الجزائر حصار دولي غير معلن، وحاولت أطراف كثيرة التدخّل في شأنها الداخلي وتأجيج الوضع، لكن تمسّك الجزائر برفض التدخل في شؤون الغير حال دون حصول ذلك. فدبلوماسية السعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار ويتجلى ذلك من خلال مختلف الوساطات التي قامت بها في فض نزاعات داخلية ودولية بدءا بالنزاع الداخلي المالي عام 1990، إلى حل أزمة القرن الأفريقي وصولا إلى الأزمتين الليبية والمالية، حيث اقتنعت جميع الدول أن الحل لا يمكن إلا أن يكون سلميا، وتعكف الدبلوماسية الجزائرية في الوقت الراهن على تحقيق نظام دولي جديد يتسم بالعدل والمساواة بين شعوب العالم.
ثبات على المواقف والمبادئ
إن هذا التطوّر في مراحل الدبلوماسية الجزائرية لم يحدها عن الثبات على مواقفها ومبادئها، التي تتطابق ومبادئ الأمم المتحدّة المستمدة من القانون الدولي، وكذا مبادئ المنظمات الدولية والإقليمية التي تنتمي إليها.
وتتمثل مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية التي تتكرّس في آليتها الدبلوماسية في:
الالتزام بمساندة القضايا العادلة: إذ جاء في ديباجة الدّستور أن الجزائر «أرض الإسلام وجزء لا يتجزّأ من المغرب العربي الكبير، وأرض عربية وبلاد متوسطية وإفريقية تعتز بإشعاع ثورتها ثورة أول نوفمبر، ويشرفها الاحترام الّذي أحرزته وعرفت، كيف تحافظ عليه بالتزامها إزاء كل القضايا العادلة في العالم». تفعيل الدّبلوماسية القائمة على احترام توازن المصالح: تسعى الدّبلوماسية الجزائرية إلى تعزيز حضورها ونفوذها في محافل الأممية، عبر عمليات الشّراكة القائمة على توازن المصالح الّتي تكون منسجمة كل الانسجام مع خياراتها السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والثّقافية الوطنية.
تغليب الحلول السّلمية ونبذ الحرب: جاء في الدستور الجزائري «تمتنع الجزائر عن اللّجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسّيادة المشروعة للشّعوب الأخرى وحريتها. وتبذل جهدها لتسوية الخلافات الدّولية بالوسائل السّلمية». وتأكد هذا المبدأ في سلوك الجزائر من خلال التوسّط في عدد من الأزمات الدولية، وحلها بطريقة سلمية على غرار أزمة الرهائن بين الولايات المتحدّة الأمريكية وإيران في عز الحرب الباردة، والتوسّط في حل النزاع الاثيوبي الأريتيري الذي دام عقدا من الزمن دارت فيه حرب داخلية طاحنة، وهو الموقف نفسه في تعاطيها مع الأزمتين في مالي وفي ليبيا.
المبدأ الآخر هو مساندة الشّعوب في حق تقرير المصير: ينصّ الدّستور على أنّ «الجزائر متضامنة مع جميع الشّعوب الّتي تكافح من أجل التّحرر السّياسي والاقتصادي، والحق في تقرير المصير، وضدّ كل تمييز عنصري. وعليه أدت الجزائر دورا هاما من خلال موقف البلد المتضامن المدعم لحركات التحرّر حتى صار بعدا أساسيا في سياستها الخارجية ومثال ذلك مساندتها غير المشروطة للشعب الفلسطيني في نضاله ضد المحتل الصهيوني، وهي لم تدخر جهدا في سبيل ذلك، ومازالت تعلنها في كل محفل ومناسبة، وقد أكد الرئيس عبد المجيد تبون ذلك عندما قال: «إن الجزائر لن تهرول للتطبيع ولن تُطّبع مادام المحتل يأخذ الأرض ويخرق السلام». وكذلك الأمر بالنسبة للشعب الصحراوي الذي تسانده الجزائر في مسعى تقرير مصيره وفقا للشرعية الدولية على اعتبار أن القضية الصحراوية هي الأخرى قضية تصفية استعمار مسّجلة لدى جمعية الأمم المتحدة. ويعني هذا المبدأ حق كل الشعوب في تقرير مصيرها بكل حرية، وتأكيد مستقبلها السياسي بعيدا عن أية وصاية خارجية.
عدم التّدخل في الشّؤون الدّاخلية للدّول والتّعاون الدّولي: «تعمل الجزائر من أجل دعم التّعاون الدّولي وتنمية العلاقات الودية بين الدّول على أساس المساواة والمصلحة المتبادلة، وعدم التّدخل في الشّؤون الدّاخلية. وتتبنّى مبادئ ميثاق الأمم المتحدّة وأهدافه. مبدأ تحرص الجزائر على تأكيده في كل مرة، واتضح ذلك من خلال موقفها مما يسمى «ثورات الربيع العربي»، حيث اعتبرت أن ما يحدث في تلك البلدان شأن داخلي محض، ولا يحق لأي كان التدخل، ورفضت كل أشكال التدخل الخارجي.
احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار: وهو مبدأ يُكرّسه ميثاق الاتحاد الأفريقي (منظمة الوحدة الأفريقية سابقا). إذ تعتبر أن المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار سيدخل القارة في حروب لا نهاية لها، وينجر عنه مبدأ آخر هو مبدأ حسن الجوار القائم على التقيد بمبادئ الحفاظ على السلم بين الدول المتجاورة، مع ضرورة العمل على تنمية السلم بين دول الجوار عن طريق فتح قنوات الحوار والتشاور لحل أي خلاف طارئ وتجنب اللجوء إلى القوة العسكرية أو التحارب.
نجاحات الدبلوماسية الجزائرية: استطاعت الدبلوماسية الجزائرية أن تلمع في أهم وأعقد القضايا الدبلوماسية ولعل أهم هذه القضايا هي أزمة الرهائن بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، عندما اقتحم مجموعة من الطلاب الإيرانيين السفارة الأمريكية في طهران سنة 1979، واحتجزوا من فيها، بتهمة التجسس. أزمة امتدت على مدار 444 يوما كادت أن تستخدم فيها «الو م أ» القوة العسكرية، في عز الحرب الباردة، لكنها تراجعت بفعل تهديدات بحق السفارة و من فيها واكتفت بالعقوبات الاقتصادية، قبل أن تتدخل الدبلوماسية الجزائرية في وساطة وافق عليها الطرفان، وكان سبب الخلاف بين «الو م أ» وإيران هو الأصول المالية المجمدة من ثروات إيران بعد الاطاحة بالشاه، وقد تم الاتفاق في الجزائر على تسليم إيران طلباتها المالية مقابل إطلاق سراح الرهائن وهو ما تم في يوم 20 جانفي 1981.
حلول أفريقية لمشاكل القارة
أما القضية الدبلوماسية الثانية التي نجحت فيها الجزائر بشكل ملفت، فهي أزمة القرن الأفريقي أو النزاع الأثيوبي الأريتيري وتعتبر أبرز النجاحات نظرا للفترة التي جاءت فيها، مرحلة اتسمت بالجمود الدبلوماسي حيث كانت الجزائر تعاني من أزمة سياسية وأمنية داخلية، وحصارا دوليا مطبقا. لكن في العام 2000، خرجت الجزائر من قوقعتها من خلال التوسط في النزاع المذكور، وقد بنت الجزائر تصورها في حل النزاع على السلم كشرط جوهري للحل الدائم للنزاع، والعمل الجماعي باعتباره أساس النجاح حيث أكدت الجزائر من خلال ذلك أن حلول المشاكل الأفريقية يجب أن تكون أفريقية بعيدا عن التدخلات الخارجية التي تزيد الأمور تأزما.
وأن ما يحدث في القارة الأفريقية هو مسؤولية أفريقية حيث يتعين على الدول الأفريقية أن تحتذي بنموذج الصلح المبرم بين الطرفين مع الأخذ بعين الاعتبار، أن النزاعات تختلف عن بعضها ويعب أن يكون حل ما نموذجا لبقية النزاعات. ويتعبر الوصول إلى اتفاق بين الطرفين الأثيوبي والأريتيري بوساطة جزائرية وبمساهمة أطراف أخرى حدثا مهما، بالنظر إلى ما كانت تعشيه الجزائر آنذاك، وكانت هذه الوساطة سبيلا لعودة الدبلوماسية الجزائرية إلى الساحة الدولية، وصولا إلى وساطتها في الأزمة الليبية، حيث وبعد أن استعملت الدول المتدخلة كل الوسائل لإنهاء النزاع إلا أن المحاولات باءت بالفشل، لتعود تلك الأطراف إلى مقترح الجزائر بضرورة تغليب الحلول السلمية السياسية بدل الفعل العسكري، وقد بدأت نتائج الوساطة الجزائرية التي يثمنها الليبيون تؤتي أكلها تدريجيا، من خلال التوصل إلى حكومة وحيدة تمثل الشعب الليبي بعد أن كان هناك ممثلان له.
الشرعية الدولية
وبين وساطة الجزائر في أزمة الرهائن الإيرانية والأزمة الليبية، برزت الدبلوماسية الجزائرية في قضايا أخرى على غرار القضية الصحراوية، حيث تمسّكت الجزائر بمبدئها المدافع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، رغم ما ميز تلك الفترة بين 75
و79، من حصار فرضته فرنسا على الجزائر والضغط على الدول الناطقة باللغة الفرنسية بمعاداة الجزائر والوقوف مع المحتل المغربي، إلى جانب مرض الرئيس الأسبق هواري بومدين، لكنها واصلت مساندتها للقضية إلى غاية توقيع اتفاق وقف إطلاق النار العام 1991، ومازالت على موقفها، حيث أكدت الجزائر خلال المواجهات الأخيرة بين جبهة البوليساريو والمغرب على حقّ الشعب الصحراوي في تقرير مصيره وفق ما تقتضيه الشرعية الدولية.
دولة فلسطينية عاصمتها القدس
وعلى رأس القضايا التي تتمسّك بها الجزائر القضية الفلسطينية التي تقدم لها الجزائر دعما غير مشروط، وعلى جميع الأصعدة، حيث تؤكد الجزائر على مساندتها لهذه القضية العادلة، ولحقّ الشعب الفلسطيني المهجر في العودة إلى أراضيه، وتراجع المحتل الصهيوني إلى حدود 1967 كشرط غير قابل للنقاش، وهي تتمسّك في ذلك بقرارات الأمم المتحدة القاضية بحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس.
وتميزت الدبلوماسية الجزائرية في السنة الأخيرة بخطابات مواجهة للمحتل الصهيوني، إثر موجة التطبيع لدول عربية معه، وقال الرئيس عبد المجيد تبون إن الجزائر «لن تهرول» للتطبيع، وفي مناسبة أخرى أثناء الحوار الذي خصّ به قناة عربية ـ قال ـ إن التفاوض كان على أساس الأرض مقابل السلام ومادام ليس هناك سلام ولا أرض فلماذا التطبيع.»
وعليه بقيت الجزائر متمسّكة بمبادئها في دبلوماسية مبنية على السلم ورفض الاعتداء، مبادئ مستمدة من تاريخها الذي تعرضّت فيه للظلم والعدوان والحرمان، فآلت على نفسها إلا أن تساند الضعيف وتحترم شؤونه الداخلية بعدم التدخل، وتحسن الجوار حتى لو قلّل الجار أدبه، ليس ضعفا وإنما وفاء لمبادئ ثورة أول نوفمبر.