يكشف بوعلام نجادي الباحث في التاريخ الوطني في كتابه «الجلادون» التاريخ الأسود والمخزي لفرنسا الإستعمارية منذ اغتصابها الأرض الجزائرية (1830 – 1962)، وذلك باستعراضه لسياسة التعذيب المقيتة التي انتهجها سفاحو الجيش الفرنسي من بيليسي إلى بيجار مرورا بأوساريس وجرائمهم الوحشية والقذرة ضد الجزائريين آنذاك، والتي أزاحت اللثام عن فضائح مستفزة للقيم الإنسانية تغرق بلا ريب المستعمر الفرنسي المستتر وراء أقنعة التمدّن والحضارة في أوحال العار.
بالرغم من أنها لا تزال لغاية اليوم في غيها تكابر وترفض التوبة عن خطاياها التي لا تحصى بحق الجزائر وشعبها، وهي القضية الحساسة التي أثارها الباحث في كتابه الذي يعدّ بحق ثمرة مهمة لسنوات من البحث والاجتهاد والتحقيق، والذي يدعو للتنديد بشدّة بسياسة صمّ الآذان التي انتهجها أغلب الجلادين ممن لم يشعروا بأي وخز للضمير، متسائلا في استغراب عن غياب رد فعل إيجابي للدولة الفرنسية يغطي بعضا من عورتها إنسانيا باعتبارها المسؤول الأول والأخير عن تلك الجرائم البشعة.
يحوي كتاب «الجلادون» محاور كثيرة تبرز حقدا دفينا ضد الهوية الجزائرية دون أن يغفل الحديث عن وقوف عدد من الفرنسيين من سياسيين ومؤرخين، وحتى قدامى المحاربين ضد تيار دولتهم المتعجرفة من خلال مطالبتها بالاعتراف بالحقيقة المخزية، ألا وهي سياسة التعذيب، كمساءلة الرئيس جاك شيراك ومطالبته من قبل رابطة حقوق الإنسان الفرنسية بالتنديد العلني بالممارسات المعمّمة للتعذيب خلال الفترة الإستعمارية وتجريد السفاح أوساريس من أوسمته، وهو الذي اعترف أنه غير نادم لاعتماده التعذيب وقتله شخصيا 24 جزائريا، ويشير الباحث إلى أن كل الدلائل متوفرة من آثار وشهادات وأدلة مادية إلى جانب اعترافات الجلادين أنفسهم بتواطئهم الفظيع في ذلك.
فرنسا المريضة.. والجزائر جنة الخلاص
مثلت الجزائر خلال القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر قوة اقتصادية، تجارية وبحرية يحسب لها ألف حساب، فكانت بالنسبة لفرنسا جنة الخلاص التي يمكنها أن تقدّم العلاج الضروري لاقتصادها المريض بفعل حروبها مع جيرانها الأوروبيين، وبدأ شارل العاشر ملك فرنسا برسم خطته للإستيلاء على كنوز الجزائر الهائلة وثرواتها الكثيرة.
غير أن أطماع فرنسا تكونت منذ الأمبراطورية الأولى، حيث أن نابليون الأول وجّه تعليمات في 18 أفريل 1808 إلى وزير البحرية يقول فيها: «فكروا في حملة الجزائر سواء كان ذلك على مستوى البحر أو مستوى الأرض»، كما أن مسألة الديون الفرنسية نحو الجزائر ألقت بظلالها هي الأخرى أين أدى القمح الجزائري الذي لم يدفع ثمنه لغاية الآن باعتراف فرنسا دورا رئيسيا في القضاء على المجاعة التي اجتاحت فرنسا.
وقبل أن تؤدي المملكة الفرنسية ديونها نحو الجزائر كانت تحيك المكائد لإخضاعها، لاسيما بعد تدمير الأسطول الجزائري في معركة نافارين سنة 1827 الذي كان يملك أحسن الدفاعات في المتوسط التي دمرت أسطول شارل الخامس عشر.
وكان اليوم المشؤوم 14 جوان 1830 عندما دخل الفرنسيون بأسطول ضخم ورموا بالسيادة الجزائرية عرض الحائط، ورغم أن الكثير من أهل الجزائر انبهروا للمقاومة إلى جانب باي قسنطينة أحمد باي وباي المدية بومزراق، ومنهم من تصدى للمواجهة بشكل بطولي كالخزناجي وغيره من ألحقوا الهزيمة بالفرنسيين، إلا أن عدم تكافؤ العدة والعدد رجّح الكفة لصالح الفرنسيين الذين عاثوا فسادا في العباد والعتاد في مزغنة الجزائر ثم في كل مدن البلاد، وبدأ الوجه الحقيقي لفرنسا يتبدى شيئا فشيئا من خلال ممارسات النهب والسلب والقتل الممنهج التي لم يتوان جنرلات فرنسا في اللجوء إليها «لامورسيار»، «الجنرال يوسف».
ناهيك عن «بيليسي» المعروف بحرق الأبرياء ومأساة أولاد رياح في الظهرة شاهدة على وحشية هذا الجنرال الذي أحرق قبيلة بأكملها كانت قد لجأت للجبل للاختباء من بطش جنوده فأباد ما تعداده 760 إنسانا بين امرأة وشيخ ورجل وطفل عن بكرة أبيهم.
وعلى نفس طريق الإجرام سار روفيغو وبوجو وغيرهم من الجلادين من منحوا الضوء الأخضر والرضا والمكافأة من دولتهم المجرمة.
مع مجيء الجمهورية الفرنسية الرابعة، بدأ التعذيب يأخذ شكلا رسميا باقتراف الكثير من المجازر ضد الجزائريين كمجازر 8 ماي 1945 في سطيف وخراطة وبرج بوعريريج التي راح ضحيتها 45 ألف جزائري، إضافة إلى تدمير القرى والمشاتي والمداشر، كما اعترف أحد وزراء الداخلية في فرنسا إضافة إلى الإعدامات الجماعية التي تواصلت إلى غاية 26 ماي.
انطلاق الثورة.. «تفنّن» في تعذيب الجزائريين
في أول نوفمبر 1954 انطلقت ثورة التحرير المباركة والتف كل الجزائريين حول جبهة التحرير، بعدما أدركوا أن الحرية تؤخذ ولا تعطى واهتز عرش فرنسا الباغية وخيل إليها أنها ستخمد ثورة الجزائريين، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفنها، وهنا بدأت المرحلة الثانية من التعذيب الممنهج.
وكانت ملامحه الأولى الإعتقالات داخل المحتشدات على ضوء صمت غير مبرر للعدالة الفرنسية التي لم تكن إلا خرافة تغطي ممارسات إجرامية في الجزائر،كما يؤكد الباحث بوعلام نجادي كالجريمة النكراء التي ارتكبت بحق الأستاذ علي بومنجل أين ألقي من الطابق السادس من البناية التي عذبه فيها مظليو الجنرال المجرم ماسو.
ملفات التعذيب وصلت إلى الوكيل العام نهاية 1954 وقبل ذلك بدأ الحديث عن أحمد زبانة، وكذلك قيام رئيس الأساقفة دوفال بالتنديد باسم الكنيسة بالتعذيب المستعمل من قبل الشرطة والجنود الفرنسيين إلى جانب كهنة آخرين في مناطق أخرى من الوطن على عكس المنظمات غير الحكومية الفرنسية التي أثارت سياسة الصمت.
غير أن الأمر ازداد تفاقما وازداد معه جنون الجلادين وتنوّعت آلات ووسائل التعذيب من كهرباء وماء وخنق وتعليق وتحريض الكلاب، ولا تزال أماكن التعذيب المهين حيّة شاهدة على وحشية أولئك البشر، ناهيك عن العذاب النفسي الذي كان يتعرّض له الناس يوميا، كما كان يحصل مع سكان القصبة حين كانوا يتعرّضون كل ليلة لضربات البنادق واللكمات والشتائم والإهانات.
بل أن التعذيب تطوّر إلى أشكال قذرة تضرب الإنسانية في مقتل، فيشير الباحث إلى فيلا «سوزيني» التي ذاع ضيتها كمكان مرعب للتعذيب، حيث إن الجلادين يأمرون ضحاياهم بأكل فضلاتهم، أما في مركز قيادة الجنرال ماسو في الأبيار يجعلون الضحية كأرجوحة نوم ويربط من يديه ورجليه ثم ينام متطوّعا فوق الضحية المعلقة في الفضاء.
لقد ابتكر سفاحو فرنسا الكثير من الأساليب الشيطانية في تعذيب أبناء الجزائر وهي تنّم عن حقد وسادية يندى لها الجبين، فبين اللسع بالخنجر والذبح والسحج والضرب المميت والضغط على المسامير والمواد الكيماوية، وغيرها كان المعتقلون يتجرعون المعاناة تلو الأخرى في حين كان الرصيد الإنساني لجلاديهم يتضاءل.
ومن أهم أماكن التعذيب التي ذكرها الكاتب المتخرّج من الأكاديمية العسكرية للهندسة بموسكو نجد إدارة الدفاع عن أمن الأقاليم التي كان مقرها بوزريعة، مركز الفرز ببن عكنون، مدارس الأبيار ولاردوت وديار السعادة، فيلا سوزيني (القنصلية العامة لألمانيا سابقا)، حوش الطيرق في الحراش، ضيعة أمزيان مركز التعذيب في قسنطينة التي كانت تتواجد فيها وحدة كومندس التي كانت تلجأ إلى التعذيب الجنسي المهين.
إضافة إلى التعذيب الكلاسيكي، اعتمد مجرمو فرنسا على سياسة الاغتيال للتخلّص من القادة والرموز الثورية والشخصيات صاحبة الوزن الثقيل، كاغتيال صاحب الإبتسامة القاتلة البطل الشامخ العربي بن مهيدي الذي قال عنه السفاح بيجار: «لو أن لي ثلة من أمثال العربي بن مهيدي لفتحت العالم»، كما اغتيل النقابي عيسات إيدير وأيضا صاحب الضمير الحي صديق الجزائريين موريس أودان، ولم تتوقف مؤامرة الإغتيال ففي مطلع عام 1962 تم اغتيال ستة مفتشين على مرأى ومسمع العالم منهم فرنسيين.
ويطرح كتاب «الجلادون» أيضا قضية المفقودين بعد التعذيب، إذ كان مصير الكثير رجالا ونساء زنازين التعذيب، ثم اختفوا في ظروف غامضة والأرجح تصفيتهم وإخفاء جثثهم وهو الواقع المأساوي للصيدلاني بن صغير الجيلالي وبشيران زهرة وذراع فطيمة وغيرهم، كما لجأ الاستعمار الخبيث إلى الآبار المنتشرة في كامل القطر الجزائري للتخلّص من جثث ضحاياهم بعد التفنن في تعذيبهم والتنكيل بهم، وتمّ اكتشاف ذلك بعد الاستقلال، إذ تمّ إخراج مئات وعشرات الجثث المكدسة لدفنها، ولأن سفاحي فرنسا رقوا التعذيب إلى درجة «سلاح جديد للحرب»، فإن عقيدتهم في التعذيب لم تكن لتستثني شيئا من خطف للعائلات واعتقالهم ثم القضاء عليهم خنقا، كحادثة 14 مارس 1957 بأولاد ميمون، أين تمّ خنق 41 شخصا من عائلات عدة داخل قبو.
وتعدّ طريقة حرق سكان القرى والسجناء أحياء مناسبة بالنسبة للهمجيين الفرنسيين، وقد تمّ حرق أحمد اينال طالب في باريس، وأمين مركز المنطقة الخامسة من الولاية الخامسة بعد تعذيبه وأيضا الحبيب بن ناسي الصحافي في جريدة «النصر» الذي أحرق حيا بعد أن اعتبره العدو الفرنسي صاحب قلم خطير.
ولم ترو فرنسا المتوحشة ضمأها من التعذيب فانتقل بكل أساليبه المخزية إلى عقر دارها ضد المهاجرين الجزائريين المؤمنين بعدالة قضيتهم، وهو الموضوع الذي أثار حفيظة الصحافة الألمانية حينها وجريدة لوفيغارو الفرنسية المشهورة، وتتحدّث الدلائل عن جرائم بشعة تجاوزت كل الأعراف والأخلاق في باريس وليون ومرسيليا وباقي المدن الفرنسية والسؤال برأي الكاتب: هل كانت العدالة الفرنسية تجهل كل ذلك؟.