إنه لمن البر والأصالة في أمة من الأمم أن تحتفي بأبطالها وعلمائها ونبلائها، وتقيم لهم أياما للذكرى، تصنف الكتب والحوليات في تواريخهم اعتبارا بحالهم ونسجا على منوالهم .
قال الإمام ابن مريم في البستان رحمه الله : « وقد نص العلماء على أن ذكر العلماء وحكايات الصالحين واقتصاص أحوالهم أنفع للنفس بكثير من مجرد الوعظ، والتذكير بالقول ... لأن الصالحين إذا ذكروا نزلت الرحمة وفيه عدة لكم وأوثق عروة وأقرب وسيلة في الدارين، لأنه إذا كان مجرد حب الأولياء ولاية، وثبت أن المرء مع من أحب، فكيف بمن زاد على مجرد المحبة بموالاة أولياء الله وعلمائه، وخدمتهم ظاهرا وباطنا، بتسطير أحوالهم ونشر محاسنهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم نشرا يبقى على ممر الزمان ويزرع المودة لهم، والحب في صدور المؤمنين )) ونقل ما قاربه في المعنى عن الشيخ السنوسي رحمه الله .()
1 ـ صعوبة الكتابة في التراجم والتاريخ الثقافي عموما
إن إقليم ريغة منذ أن استقر به من استقر من القبائل الأمازيغية والعربية على مدى القرون، شكلت نسيجا متناغما ولحمة اجتماعية رائعة، تمثلت في ذلك التنوع الثقافي والعطاء الذي انفجر من قرائح وجوانح أبناء هذه المنطقة، إلا أن البحث في التاريخ الثقافي ورجال العلم في هذا الإقليم واجهتني فيه الصعوبات وذلك يرجع لأسباب موضوعية، وأخرى ظرفية منها ما ترسخ عند الكثير منا من هجر ثقافة التدوين والكتابة التاريخية في أسرنا.
ولعلّ السبب هو ذلك التواضع المبالغ فيه من كثير من أبناء الجزائر فكم مات للجزائر من عمالقة في الفكر إلا أن تراثهم الثقافي اندرج في طي النسيان، يضاف إليها عامل نفسي وهو زهد الكثير منا في علمائنا ومثقفينا وهو أمر سجله الكثير من الباحثين في تاريخ أهل المغرب.
يضاف إليه زهد علماء الجزائر أنفسهم في الكتابة، واهتمامهم بالتدريس فقط، والنماذج كثيرة جدا. فهذا الإمام الشريف أبو عبد الله التلمساني فسر القرآن كله في أكثر من عشرين سنة ولغياب من يدون فلا أثر لتفسيره، ومثله الإمام ابن باديس، وكذا محمد البشير الإبراهيمي بتلمسان، وغيرهم من علماء المنطقة لم تدون أعمالهم ودروسهم العلمية
وللأسف كان حظ وطن ريغة هو حظ بقية المناطق عبر الوطن.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان ينتهج سياسة التجهيل والطمس لمقومات الأمة وثوابتها، وذلك في كل أرجاء الوطن.
ولقد حدثني الكثير من الثقات من أهل المنطقة أن الاستعمار الفرنسي أحرق الكثير من المكتبات الخاصة عند الأسر العلمية بإقليم ريغة، وغيرها من المدن الجزائرية، كل ذلك قصد بتر صلة الأجيال اللاحقة بالتاريخ المشرق لأسلافها.
و ما سأكتبه هنا هو نوع من الفصوص والنصوص والمحطات التي قد تنفصل بعض القاطرات عن بعضها بسبب فقدان المادة التاريخية لعدة أسباب لذا فما Bكتبه هنا فقد اعتمدت فيه على:
أ ـ التراث الشفوي.
الحمد لله أن الخير باق في الأمة فقد احتفظت ذاكرة أفاضل المنطقة بتاريخ أسلافها ولقد اعتمدت في سرد بعض أعلام المنطقة على التراث الشفوي منتهجا منهج المقارنة بين الأخبار الشفوية قصد تمحيصها.
ب ــ بعض المكتبات الخاصة:
مثلا ببلدية بئر حدادة توجد مكتبة بزاوية الخطاطبة وهي من أقدم الزوايا تأسست قبل ثورة الأمير عبد القادر الجزائري، وكذا ببئر حدادة توجد مكتبة للعلامة الشيخ السعيد بن الذويبي من كبار أعيان ريغة، فلا يزال يحتفظ أحفاده بما تبقى من مكتبة الشيخ، وقد أخبرني حفيده، أنه خلال حقبة الاستعمار تم طمر مكتبة الشيخ داخل مطمورة في باطن الأرض، وقد تسببت السيول في هلاكها.
كذلك برأس الوادي حفظت بها بعض الآثار في المكتبات الخاصة ولم تطلها عوادي الزمن، كمكتبة الشيخ بلعيساوي، ففي مكتبة الشيخ() توجد ترجمة خطية للشيخ كتبت قبل وفاته، وبها بعض الكتب الخاصة بالشيخ رحمه الله. وكذا مكتبة أولاد الحاج لعياضي عند سبطه عبد القادر بوحفص، حيث توجد في مكتبة هذا الأخير الكثير من النفائس الدالة على مدى تضلع أصحابها في العلوم النقلية والعقلية وخصوصا علوم العربية، ومما لا شك فيه أن هناك آثارا لا تزال مكتنزة عند البعض وللأسف لم نتمكن من الاطلاع عليها منها آثار جليلة تخص الشيخ البشير الإبراهيمي، لم نتمكن من الوصول إلى من يحتفظ بها هنا برأس الوادي .
ج ـ الرسائل المتبادلة بين علماء المنطقة:
ـ اعتمدت على بعض الرسائل المتبادلة بين علماء المنطقة، وهذه الرسائل توجد في الغالب عند الأسر العلمية وكبار الأئمة في المنطقة منهم الفاضل الكبير والإمام النابغة المغمور سي عبد القادر شعبية الساكن ببير لحلو بعين والمان فعند الشيخ تراث كبير يخص المنطقة، وقد وقفت على الكثير من هذه الرسائل، منها مثلا رسائل الشيخ الشيخ محمد العربي بن التباني إلى كل من الشيخ بلعيساوي والشيخ محمد بن الحاج لعياضي .()
د ـ كتابات الشيخ البشير الإبراهيمي :
واعتمدت على ما كتبه الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله في آثاره التي أشرف على طباعتها نجله الدكتور أحمد طالب.
3 ـ عوامل النبوغ والاهتمام بالعلم بوطن ريغة
وقبل الخوض في الموضوع أجدني مضطرا لتسجيل ظاهرة مهمة كان لها الأثر البالغ على اللمسة الثقافية لوطن ريغة، هذه الظاهرة تمثلت في رحلة أبناء المنطقة إلى المشرق، لطلب العلم فقد عرف أبناء المنطقة الرحلة في طلب العلم من وقت مبكر جدا قبل الاحتلال الفرنسي، وإبان الحكم التركي وكانت هذه الرحلات سبب مباشر ومهم في انتشار وكذا الاهتمام بالعلوم الإسلامية وتأسيس الزوايا، فساهم هذا الأمر في توارث العلم كابرا عن كابر، ولا غرور فقد تخرج من الزيتونة كوكبة من أهل العلم منهم الشيخ: سعد بن قطوش المعروف بسعد السطيفي من مدينة عين والمان، بالزيتونة، وأخذ عنه ابن باديس ومحمد النخلي من طبقة العلامة ابن عاشور، وغيرهم، وكذا الشيخ أبوسنة بعين الحمراء بدائرة بصالح باي عالم فاضل أخذ العلم عن الشيخ الحواس بزاوية تقع شرق أولاد إبراهم وطن الشيخ البشير الإبراهيمي، وقد درس الإبراهيمي بهذه المدرسة، ومن أحفاد الشيخ بوسنة الشيخ بوسنة الذي كان إماما بالعاصمة لهذا العهد وقد فسر القرآن الكريم في سبع مجلدات وبرأس الوادي علماء أفاضل منهم: محمد بن علي صويلح، والشيخ أحمد عاشور، والشيخ يخلف بن حمادة المعروف ببودينار، وسي محمد هارون بن بلعيساوي، وابن الحامدي . وغيرهم رحمه الله عليهم أجمعين .
كما أن إقليم ريغة قريب جغرافيا من بعض المراكز المهتمة بالعلم ومنها، حاضرة إمارة بني حماد، وكذا إمارة بني عباس، ومدينة قسنطينة التي كان للأقليم بها صلة قوية خصوصا في مسألة تعيين متولي مشيخة المنطقة، فقد كان لإقليم ريغة الحضور القوي إبان رد العدوان الفرنسي على مدينة قسنطينة، فقد شاركت ريغة بخيلها ورجالها في رد العدوان لذلك قال ابن باديس قولته الشهيرة (( ريغة ذات الفعال والخيل الطوال )) كما كانت لأقليم ريغة صلات بــ» الدشرة « ببرج الغدير، والتي كان تميزت بأعلام من العلماء ولقد ولّد هذا الاحتكاك نوعا من الحراك الثقافي بحسب ما أتاحته ظروف ذلك الزمان، وكذا الزاوية القطوشية بأولاد سي أحمد، والتي لا تزال أطلالها إلى الآن .
لقد كان هناك تواصل ثقافي بين زاوية رأس الوادي وعلماء الدشرة منهم الشيخ السعيد بلطرش والشيح محمد الطاهر خبابة الذي تولى الفتوى بولاية سطيف، فقد كانوا على تواصل دائم بالشيخ بالعيساوي رحمه الله.
يضاف إلى ذلك أن أهل هذه المنطقة تقلبوا عبر الأجيال في المنطقة الممتدة من جبال المعاضيد إلى الحدود الشرقية للولاية ونحن نعلم أن هذه المنطقة كانت في يوم من الأيام على أطراف حاضرة الحماديين وعرفت بفقهائها وعلمائها نجد تراجمهم في كتب التاريخ والطبقات تحت نسبة القلعي معظمنا نجهلهم وقد كانوا أساتذة بالأزهر الشريف منهم :
ـ محمد بن علي بن حماد بن عيسى الصنهاجي القلعي، نزيل بجاية، أبو عبد الله: قاض، مؤرخ، أديب. أصله من قرية حمزة من حوز (قلعة حماد) قرأ بالقلعة - وإليها نسبته – وببجاية. وولي قضاء الجزيرة الخضراء (Algesiras) ثم (سلا) سنة 613 ثم استوطن مراكش، وتوفي بها. من كتبه (النبذ المحتاجة في أخبار صنهاجة) و(الإعلام بفوائد الأحكام) لعبد الحق، و(شرح مقصورة ابن دريد) و(برنامج) في ذكر شيوخه ومقروآته من الكتب، و(ديوان شعر) و(أخبار ملوك بني عبيد . أنظر الزركلي الأعلام 6/ 280 .
ومنهم مُحَمَّد بْن علي بْن جعفر القَيْسيّ القَلْعيّ، من قلعة حماد، [المتوفى: 567 هـ] نزيل مدينة فاس . ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام 12/ 381 .
وغيرهم كثير ...
ومنهم العلامة ابن الفضل التوزري المعروف بابن النحوي صاحب قصيدة المنفرجة، وقبره موجود إلى اليوم بالمسيلة بقلعة بني حماد بجوار مسجد هناك .
فمما لا شك فيه أن الأوائل الذين استوطنوا هذه المنطقة وفي غابر الأيام كانت لهم صلات مع هذه الحاضرة والله أعلم.
ولقد أشار العلامة البشير الإبراهيمي إلى هذا الأمر في آثاره وكذلك ذكر وطن ريغة ونزل به الإمام الرحالة الحسين بن أحمد الورثلاني حيث قال : (( ومن الأفاضل ... سيدي محمد الزواوي وابن عمه سيدي محمد بن جد وسيدي محمد الصحراوي وأولاد عبد الواحد فيهم أفاضل، أما الفقراء المخمورون بحب الله ورسوله لا يحصى عددهم من أولاد سي أحمد وأولاد الكتف وأولاد الزعيم وأولاد المداس صاحب القبر المشهور في رأس الوادي ...الخ )). قلت : وقبر سيدي المداسي موجود إلى اليوم بمعفر قرب عين والمان
وممن زار رأس الوادي وكان له أثر على أهلها وذلك عند تأسيس المسجد العتيق كما هو اليوم مقره سنة 1928م، الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله في كوكبة من الأفاضل، وكما قلت، ونظرا لغياب ثقافة الكتابة والتوثيق فإن الأرشيف لم يحتفظ بتفاصيل الزيارة . إلا أن الخطبة التي ألقيت بالمسجد محفوظة إلى الآن .
وممن كان يلقي بها الدروس بمسجد رأس الوادي ويعقد حلقات الدرس والتعليم الإمام العالم الرباني الشيخ محمد العربي ابن التباني الواحدي رحمه الله . فهو يعد من كبار العلماء بالحرم المكي، وقد أشرفت وزراة الثقافة بالجزائر على طبع تراثه المكتوب وقد بلغ عدة مجلدات.
وقبل الخوض في الموضوع فمن الناحية المنهجية لابد أن نذكر أن أقليم ريغة هو مصطلح جغرافي قديم الاستعمال من طرف الرحالة والعلماء والكتاب وهو ينقسم إلى قسمين ريغة لقبالة وريغة الظهارة، ومبتدأه من جهة الغرب من دائرة راس الوادي، وينتهي شرقا شرق عين آزال اما شمالا فينتهي الى عين ارمادة . وهذه التحديدات قد تزيد وقد تنقص فهي نوع تقريب، وقد اعتمدت على الأرشيف الفرنسي في تحديد الأقليم ومنها كتاب معجم البلديات سنة 1905. وقد تتبعت في هذا المعجم كل المناطق التابعة لريغة وبعون الله سوف أفردها ببحث مستقل .
وقد ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان (3: 113) .
فقال: (( ريغ ويقال ريغة: إقليم بقرب من قلعة بني حمّاد بالمغرب، وقلعة بني حمّاد هي أشير، وقال المهلّبي: بين ريغة وأشير ثمانية فراسخ، قال أبو طاهر بن سكينة: سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن يوسف الزناتي الضرير بالثغر يقول: حضرت هارون بن النضر الريغي بالريغ في قراءة كتاب البخاري والموطّأ وغيرهما عليه وكان يتكلّم على معاني الحديث وهو أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب ورأيته يقرأ كتاب التلقين لعبد الوهّاب البغدادي في مذهب مالك من حفظه كما يقرأ الإنسان فاتحة الكتاب ويحضر عنده دوين مائة طالب لقراءة المدوّنة وغيرها من كتب المذهب عليه، وقال في موضع آخر: بالمغرب زابان الأكبر، ووصفه كما نصفه في موضعه، والأصغر يقال له ريغ، وهي كلمة بربرية معناها السبخة، فمن يكون منها يقال له الريغي)).
-يتبع -
ابن مريم أبو عبد الله محمد بن محمد الشريف المديوني، البستان : ص ( 5ـ 6 ) المطبعة الثعالبية، الجزائر .
المطمورة : هي مصطلح يستخدم عند الجزائريين في الأرياف ويراد به حفرة في باطن الأرض ضيقة المدخل متسعة في الباطن عمقها يختلف ما بين أربع أمتار إلى سبع أمتار زيادة ونقصان، كانت تحفظ بها الحبوب من قمح وشعير، في فصل الشتاء .
اطلعت عليها بزاوية الشيخ بلعيساوي أدام الله عمرانها .
يوجد بعض هذه الرسائل محفوظة في مكتبة محمد بن الحاج لعياضي بمنزل نجله عبد القادر بوحفص، برأس الوادي .
الحسين بن أحمد الوثلاني، نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار : ( ص 83ـ 84 ) تحقيق محمد بن شنب، الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
أنظر آثار البشير الإبراهيمي.