تبلغ الجزائر محطة أخرى من محطات بناء المسار الديمقراطي وتجديد مؤسسات الدولة، وهي تتحضر لتنصيب برلمان جديد منبثق عن الانتخابات التشريعية المبكرة التي أجريت في 12 جوان 2021، وتعيين حكومة جديدة أسندت إلى وزير المالية السابق أيمن بن عبد الرحمان، سيكون ضمن تشكيلتها كفاءات وطنية سياسية تدير مرحلة صعبة وتواجه أزمات متعددة مطروحة على أكثر من صعيد.
يواصل رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، بناء الجزائر الجديدة، وفق المسار الدستوري واحترام سيادة الشعب. فعقب انتخابات تشريعية أفرزت خارطة سياسية جديدة للمجلس الشعبي الوطني، حافظ فيها حزب جبهة التحرير على مكانته كقوة سياسية أولى في البلاد ولكن بفقدان الأغلبية المريحة، فتح الرئيس باب المشاورات السياسية من جديد مع الأحزاب والمستقلين الفائزين بمقاعد في الغرفة السفلى للبرلمان لتشكيل حكومة جديدة، وهو تقليد دأب عليه منذ اعتلائه سدة الحكم، يعكس رغبته الدائمة في تبني الحوار مع الفاعلين السياسيين والنخب الوطنية، في كل محطة من محطات بناء الجزائر الجديدة، مثلما فعل مع تعديل الدستور، والانتخابات التشريعية. ولعل المهمة هذه المرة ستكون مغايرة، ليس لتنظيم استحقاق انتخابي ولكن لتشكيل أعضاء الجهاز التنفيذي بتمثيل جديد، لإدارة مرحلة توصف بالصعبة، بالنظر لتداعيات الأزمة الصحية والاقتصادية وندرة المياه.
وشملت المشاورات السياسية الأحزاب الفائزة صاحبة الكتل البرلمانية ويتعلق الأمر بحزب جبهة التحرير الوطني، حركة مجتمع السلم، حزب التجمع الوطني الديمقراطي، حركة البناء الوطني وجبهة المستقبل، إلى جانب ممثلين عن القوائم الحرة التي أحدثت المفاجأة في هذا الاستحقاق الانتخابي واحتلت المرتبة الثانية مزيحة قوى سياسية قديمة.
وزير أول وليس رئيس حكومة
يتيح دستور نوفمبر 2020، لرئيس الجمهورية تعيين وزير أول أو رئيس حكومة عقب الانتخابات التشريعية لقيادة الحكومة، حسب حالتين: الأولى، إذا أفرزت نتائج الانتخابات التشريعية أغلبية رئاسية لا تكون فيها الأغلبية لأي حزب أو تكتل سياسي فسيقود الحكومة وزير أول. وفي حال أسفرت الانتخابات الرئاسية عن أغلبية معارضة، سيقود الحكومة رئيس حكومة؛ خيار لا يطرح، لأن نتائج تشريعيات 12 جوان 2021 لم تفرز أغلبية حزبية وجاءت الأصوات موزعة بتمثيل كبير على 5 أحزاب سياسية والمستقلين، وبتمثيل لا يكاد يذكر لـ9 أحزاب أخرى.
وحسب المادة 112 من الدستور، ستكون من مهام الوزير الأول أو رئيس الحكومة، زيادة على السلطات التي تخولها إياه صراحة أحكام أخرى في الدستور، مهمة توجيه وتنسيق ومراقبة عمل الحكومة بتوزيع الصلاحيات بين أعضاء الحكومة مع احترام الأحكام الدستورية، وتطبيق القوانين والتنظيمات، ورئاسة اجتماعات الحكومة، يوقع المراسيم التنفيذية ويعين في الوظائف المدنية للدولة التي لا تندرج ضمن سلطة التعيين لرئيس الجمهورية أو تلك التي يفوضها هذا الأخير، ويسهر على حسن سير الإدارة العمومية والمرافق العمومية.
وقبل ذلك، يكلف الوزير الأول باقتراح تشكيل الحكومة وإعداد مخطط عمل لتطبيق البرنامج الرئاسي الذي يعرضه على مجلس الوزراء، أما رئيس الحكومة فيكلف بتشكيل أعضاء حكومته باستثناء الحقائب السيادية التي تبقى من صلاحيات رئيس الجمهورية وهي وزارات الدفاع، والخارجية، والداخلية والمالية، وإعداد برنامج الأغلبية البرلمانية.
ومالت الكفة لوزير أول تكنوقراطي، حيث عين رئيس الجمهورية وزير المالية السابق أيمن عبد الرحمن في منصب الوزير الأول، وكلفه بمواصلة المشاورات مع الأحزاب السياسية لتشكيل الحكومة الجديدة.
ويأتي تعيين أيمن عبد الرحمن على رأس الجهاز التنفيذي، في ظرف صعب يحتاج وجود شخصية متحكمة تتقن لغة الأرقام، وتفك شفرة الأزمة الإقتصادية وتدهور القدرة الشرائية، وتجابه تقلبات سوق دولية تزداد تعقيدا وتشابكا مع استمرار تداعيات جائحة كورونا.
تكنوقراطية أو سياسية
يتطلع الكثير إلى تركيبة الحكومة الجديدة، هل ستكون سياسية أو تكنوقراطية أو مزيجا بينهما؟. وبناء على المشاورات السياسية التي شملت الأحزاب السياسية الخمسة المتحصلة على كتلة برلمانية رفقة المستقلين، توحي بأن التشكيلة المنتظر الإعلان عنها قريبا، ستضم مزيجا من السياسيين إلى جانب التكنوقراطين (حركة مجتمع السلم خارج القائمة بعد إعلانها عدم المشاركة).
ويرجح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية سمير محرز، ميل رئيس الجمهورية للخيار السياسي أكثر من التكنوقراطي. وقال في تصريح لـ «الشعب»، «الرئيس تبون بعد انتخابه رئيسا للجمهورية حاول أن يقدم حكومة تكنوقراطية، وهو ما كان، حيث عين أكثر من 14 دكتورا في الحكومة السابقة، التي ترأسها الوزير الأول عبد العزيز جراد، الذي كان يشغل بروفيسور في العلوم السياسية. وبعد الحراك حاول أن يخرج من البوتقة السياسية ويدخل في البوتقة التكنوقراطية، من أجل تخفيف حدة الاحتقان السياسي الموجود داخل الجزائر. ولكن بعد سنة ونصف من عمل الحكومة، الرئيس أمام خيارات سياسية أكثر منها تكنوقراطية»، لأن الحكومة المقبلة في نظر الأستاذ محرز «يجب أن تكون حكومة سياسية تواجه الأزمات الثقيلة، وهو ما لا يمكن للتكنوقراطي أن يواجهه، لأنه إنسان نظري أكثر منه عملي، عكس السياسي المنخرط في الأحزاب السياسية والمتدرج في العديد من المناصب الإدارية والسياسية الذي يمكن الاعتماد عليه».
ويضيف قائلا: بناء على المشاورات التي اعتمدها الرئيس وتقديمه للخيارات السياسية الكبرى كحزب جبهة التحرير الوطني (الأفلان)، حزب التجمع الوطني (الأرندي)، حركة مجتمع السلم (حمس)، جبهة المستقبل وحركة البناء الوطني، نلاحظ أن الرئيس اليوم يوجه عدسته أكثر للحكومة السياسية. وفي اعتقادي، ضرورة التوجه لحكومة سياسية أكثر من الحكومة التكنوقراطية، لأن الحكومة السياسية هي الحكومة التي يمكن أن تواجه الأزمات وإنهاء الاحتقان السياسي الموجود بين المعارضة والموالاة فيما يخص الحراك السياسي، ومواجهة الأزمات المتعلقة بالصحة خاصة كوفيد-19، والأزمات الاقتصادية المتتالية، بحسب الأستاذ محرز، ستجعل الرئيس يركز على تعيين وزير مالية متكون، ووزير تجارة قوي جدا، لذلك يقول «نتوقع إجراء تغيير على رأس وزارة المالية، التجارة، الطاقة والمناجم، والصناعة، هذه الوزارات الاقتصادية البحتة».
اعتمد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مقاربة الحوار الوطني الشامل، جمع مختلف الأطياف السياسية من كل التشكيلات من أجل إيجاد حلول سياسية تقنية لكل ما تمر به البلاد.
هذه الخطوة شجعت أحزابا سياسية ومستقلين أحرارا، على إطلاق مبادرات وطنية لتشكيل قوة سياسية تدعم برنامج رئيس الجمهورية في البرلمان الجديد، مثلما فعلت جبهة الحصن المتين (قائمة حرة)، حيث عقدت عقب إعلان نتائج الانتخابات التشريعية، بنزل ازيل بشاطئ النخيل بمدينة سطاوالي، مشاورات مع رؤساء الأحزاب السياسية والإعلان عن إطلاق مبادرة وطنية للعمل على رصّ كتلة برلمانية واحدة من النواب الأحرار ونواب الأحزاب السياسية المهتمة بالمبادرة، تكون قوة سياسية أولى تحت سقف قبة البرلمان، تنافس الحزب العتيد المتحصل على 98 مقعدا، وتكون كذلك قوة فاعلة في مسار التغيير الحقيقي المنشود، من خلال المشاركة في تشكيل الحكومة والإسراع في تطبيق برنامج رئيس الجمهورية، لأن الجزائر، بحسب رئيس الحصن المتين، في سباق مع الزمن لإطلاق البرامج الاصلاحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في أقرب وقت ممكن، مع الرهان على الرأس مال البشري القادر على السهر على تنفيذ البرنامج الرئاسي وتطبيقه في الميدان.
وإن رفض الحديث عن التكتل أو التحالف مع حزب سياسي تحت قبة زيغود يوسف، حينما سألت «الشعب ويكاند» رئيس حركة البناء عبد القادر بن قرينة، عن إمكانية تحالف حزبه مع حركة مجتمع السلم، إلا أنه لم ينف رغبته في تشكيل «كوماندوس سياسي» لا يقصي أحدا آمن بالحل الدستوري ودعم مؤسسات الجمهورية ويسعى لتمتين الجبهة الداخلية وتجريم تمزيق النسيج المجتمعي ويتبنى مشروع الأمة الجزائرية النوفمبري ويسعى لتحقيق تطلعات الحراك الأصيل؛ «كومندوس» مثلما ذكر «يعمل بانسجام تام مع مؤسسات الجمهورية ويستمد شرعية عمله من طرف رئيس الجمهورية وبرعاية سامية وتكليف منه»، وهذا تصريح معلن عن تموقعه مع الأحزاب المساندة لبرنامج الرئيس، ومنها الأحزاب المحسوبة على التيار الوطني، جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وجبهة المستقبل.
أما حركة مجتمع السلم، التي ظلت تغازل السلطة للمشاركة في الحكومة، بإبراز برنامجها الذي وصفته بالقوي والمتكامل، الأصلح لتسيير شؤون البلاد وقيادة المرحلة القادمة، تراجعت عن المشاركة في الجهاز التنفيذي لعدة أسباب، من بينها نتائج الانتخابات، التي قال رئيسها إنها كانت «مزوّرة»، ما يوحي أنها ستصطف إلى جانب المعارضة التي لم يعد لها تمثيل في البرلمان بعد مقاطعة جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الانتخابات التشريعية، بالرغم من أن «حمس» شكلت التحالف الرئاسي المساند للرئيس السابق.