أحدثت الأزمة الصحيّة العالميّة الأخيرة رجّات على مستوى الأفكار في الواقع والافتراض. كثير من تلك يجُبّ ما قبله، مخلّفا باراديغما جديدا للحياة؛ النّتيجة الحتميّة للأزمات على حدّ قول توماس كون. تحوّل الإنسان بموجبها من اكتفائه بوجوده الطّبيعي إلى واع بذلك الوجود، من مجرّد متفرّج إلى فاعل. ولعلّ تطوّر التقنيّة أتاح له ذلك أكثر من أيّ وقت مضى. فبقدر ما شجّعت المواصلات على تحوّل الوباء إلى جائحة، بقدر ما حاول الإعلام جاهدا تقليص الأضرار بمجابهة عقارب السّاعة، مشركا المتلقّي ذاته في نجاعة العمليّة الاتّصالية. ولو اعتبر إيميل سيوران “الوعي بالزّمن مؤامرة على الزّمن”، فذلك الوعي هو الّذي أدّى بالإنسان إلى اتّخاذ “القرار الحاسم”، هذا المفهوم ذاته المنوط بالأزمة في لفظها الإغريقي “كرينو”.
الإعلام الإلكتروني، هذه الأرمادة الّتي وَسِعَ مداها الزّمان والمكان معا رغم صيغتها الرّقمية، أثبت في جانب منه نجاعة نظريّة “التّطعيم” أو “التّلقيح” المعروفة في مجال الإعلام. فتدفُّق المعلومات المتسارع والجرعات المعرفيّة المصاحبة صنع ضربا من الألفة إزاء ما ينشر، عقب تخطّي مرحلة الصّدمة طبعا. اكتسب القارئ أو المشاهد بموجبه حصانة تكنّى مجازا بالمناعة الفكريّة.
لقد غدت المعلومة التّرياق الوحيد؛ ليس فقط لكونها المتنفّس وقت انكفى الإنسان مجبرا على ذاته، بل لأنّها أشركته في تحرّيها، فالاقتناع بها أو تفنيدها. وفي هذا الصّدد، لا يختلف اثنان في أنّ الكمّ الهائل من المعلومات لم يخلُ من عنصر التّضارب. إنّ أيّ خبر يرد إلّا ويكون محلّا لاقتفاء مصدره والتحقّق منه ونقده بتوظيف الحواسّ الخمس، وحتّى الحاسّة السّادسة إن توفّر الوعي الكافي. وبطبيعة الحال، لم يعد ذلك واجب الصّحفي وحده لمعالجة المعلومة، بل دورا متّصلا بمتلقّيها الّذي يلجأ لذلك توخّيا لتسرّب عاملي الضّبابية وفقدان الثّقة في جوّ من التشنّج والترقّب الّذي ميّز العالم.
من جهتها، تحوز المواقع الإعلاميّة الإلكترونيّة امتدادات إلى مختلف الوسائط والشّبكات الاجتماعية، ممّا أكسبها قاعدة جماهيريّة لا يستهان بها، ومن مختلف الشّرائح والفئات العمريّة. أيضا، كثيرا ما نجد لها دعامات سمعيّة أو سمعيّة-بصريّة من موقع الحدث، ناهيك عن تقنيّات تسهّل وصول الأخبار فور صدورها مثل تفعيل زرّ المتابعة أو المشاركة مع تحديث المعلومة. لذلك، نجد أنّ الأزمة، لاسيّما مع العزل الاجتماعي، قد شجّعت وسائل الإعلام الورقيّة والسّمعية-البصريّة على أن تدعّم أكثر امتداداتها الرّقمية أو أن ترسيها في حال غيابها.
وفي هذا السّياق، لم يتخلّف منظّرا الإعلام الإلكتروني بولتر وجروسين عن اعتبار التّجديد الّذي شهده مجال الإعلام عينه بمثابة “معالجة” لما سبق، بالاستفادة من التّكنولوجيا، مثلما أخذت الفنون من بعضها البعض، ومثلما استفادت الأنترنت من خبرات التّلفزيون ليعود هذا الأخير بدوره ليوظّفها لفائدته.
إنّما، إثر هذا التشعّب الحاصل، تحوّرت مخلّفات الزّخم الإعلامي والمعلوماتي الهائل مثلما تحوّر الفيروس تماما، وأصبح من الصّعب التحكّم في المعلومة خصوصا في عصر الأزمات وتوالي الأحداث، أين يتطلّب الأمر الإسراع في إيصالها والتثبّت من صحّتها في آن. كما يجدر التّنويه إلى أنّ التّضارب في المضمون أمر لا مناصّ منه في ظلّ ندرة المعطيات حول طبيعة أزمة مفاجئة، فكيف إن كان وباءً تندر المعلومات حوله!
مجال العلم هو الآخر تخبّط بين سبل الحدّ من الوباء، لكنّه أنتج أوراقا علميّة لا حصر لها فاق عددها 200 ألف شهر ديسمبر الماضي حسب قاعدة دايمنشنز للبيانات، وفي كثير من الأحيان شهدت وسائل التّواصل تجاذبات، من المصدر مباشرة، بين الأطبّاء حول صحّة بعض البحوث والتوقّعات، الأمر الّذي بموجب وسائل الإعلام أن تتناقله هي الأخرى بتطوّراته لحظة بلحظة.
بين هذا وذاك، حسم المتلقّي قراره ليصبح طرفا فاعلا في معالجة المادّة الإعلاميّة من خلال مساءلة الأحداث عن كثب، أو حتّى المشاركة في إنتاج المعلومة، من منطلق التخصّص، والإسهام في التّوعية والتّحسيس بضرورة حفظ النّفس، أو توثيق نقائص معيّنة بتقنيّة الفيديو مثلا، أو التّنديد بسلوكات اجتماعيّة غير مرغوبة، ممّا يساهم في تسطيح المستوى الوبائي ويسرّع من حلّ أو تغطية المشكل، وتحقيق رجع الصّدى المرجوّ. ومن الباب الإنساني، لعلّ اللّافت هو صور التّضامن بين أفراد الشّعب الواحد في عزّ الأزمة وإعانات المجتمع المدني، الأمر الّذي اتّضح جليّا بين الافتراض والواقع في وطننا الجزائر.
هو جانب من التّفاعل المباشر الّذي تتيحه قنوات التّواصل في فترة شائكة وحاسمة كنقطة انعطاف فجائيّة تتطلّب إجراءات طارئة. هذا، عدا عن توفّرها على عنصر المرونة المتجسّد في فضاءات التّفاعل المباشر بين الوسيلة الإعلاميّة والمتلقّي، وتقنيّات كالأرشفة الّتي تسمح بتتبّع تطوّر الوضعيّة الوبائيّة، وكذا معالجة المعلومة على المدى البعيد، وبشكل آخر الإسهام في مجابهة الأزمة. فهذه المسؤوليّة الاجتماعيّة الّتي يتحلّى بها الإعلام، ويثري فحواها ذلك الإلكتروني بدور مزدوج يفضي إلى النّقاشات ونقد المضامين والمقارنة ونحوها، لينمّ عن سلوك حضاريّ شفّاف في فائدة منظومة وقائيّة للفكر والجسد على حدّ سواء.
أمام هذا، لا يخلو الأمر من بعض التّجاوزات كانتشار الأخبار الكاذبة وانتهاك حقوق الملكيّة الفكريّة، أو ادّعاء اكتشاف معيّن، مع صعوبة التحقّق من أخبار عابرة للحدود، ومنه بروز إشكال أخلاقي. غير أنّ الإشاعة كثيرا ما تظهر وقت تغيب المعلومة، فيستلزم الأمر تفنيدها بالحجّة والبرهان، ما يعني تحريك الآلة الإعلاميّة وتطبيقاتها الرّقمية من جديد.
في سياق مغاير، لم تكن تلك التّطبيقات والوسائط مجرّد تكريس للفردانيّة بالبحث عن المعلومة المرغوبة في الوقت المرغوب، ولا حكرا على فئة دون أخرى، باعتبار أنّها خصّصت حلقات نقاش بين الأجيال، مثلما مارست دورا تثقيفيّا وبل تعليميّا. فقد ساهمت بشكل أساسيّ في تلقّي الدّروس الأكاديميّة عن بعد من المصادر الرسميّة واستكمال البرامج التّعليمية، ممّا يعني أنّ الأزمة خلّفت تحوّلا جذريّا جعل الوسائط الإلكترونيّة طرفا في إدارتها على أكثر من صعيد.
قد يقول البعض إنّ ما حدث من تخمة إعلاميّة فور ظهور الوباء هو أشبه بحرب نفسيّة على المشاهد أو القارئ، وإن كانت بغير نيّة في ذلك؛ لأنّ الصّحفي هدفه اقتفاء مؤشّرات التغيّر واستشراف الوضع مع إيصال الخبر في حينه. فصحيح أنّ هضم المعلومة سريع النّفاذ للذّهن بما يميّزها من اختراق للحواجز، وصحيح أنّ تباينها قد يؤدّي إلى غياب المصداقيّة، لكنّها في المقابل تحفّز على البحث والتّنقيب واعتماد التأمّل والتّساؤل، وعدم تصديق أيّ شيء ببساطة تجاوزا للارتباك، لتكسب الشّخص مناعة من نوع خاصّ.
إلى جانب ذلك، برزت، تحت ظلال الصّخب الإعلامي المشهود، مساحات لعرض صفوة فكر البعض، رسمت للميدان تحدّيات ورهانات قُدما. منهم من تحدّث عن إرهاصات مرحلة ما بعد كورونا، ومنهم من بادر إلى محاولة انتشال المفاهيم وإعادة بناء أخرى تُعنى بحياة الإنسان إثر القطيعة الّتي أحدثتها أزمة “كوفيد-19”. فتحليلات النّخبة العالميّة في خضمّ الأزمة من فلاسفة وعلماء اجتماع وغيرهم لمرحلة كورونا وما بعد كورونا أفرجت عن دور الوسائط المتعدّدة في إحداث رجع صدى فعّال والتّأثير على الرّأي العام، إمّا بتقصّي معالم تغيّر البنى الاجتماعية أو بتقفّي تبعات الصّدمة. هذا بعد أن قام الإعلام بعمل استباقي ما إن برز الوباء في النّصف الشّرقي من الكرة الأرضيّة كضرب من النّجدة الإعلاميّة-الصحيّة.
فوقت نتساءل عن الإحداثيّات الافتراضيّة لما تشمله المناعة الفكريّة، يبرز قلق فكريّ حول سببيّة وغائيّة التّواجد الإنساني ذاته وماهيّته وكينونته، مع تعزيز الإيمان بالعلم ونحن نشاهد الفناء بأعيننا. إنّ الصّدمة تجعل الكيان الإنساني إمّا نموذجا لنظريّة “التّلقيح” أو محلّا لنظريّة “الحقنة” الّتي بموجبها تظهر محاكاة لا إرادية للمشاهد القويّة الّتي يبثّها الإعلام عند الأزمة، فيحدث أن تنتج ردود أفعال بين الإقبال أو الإدبار.
في الأخير، لقد خَلُص العالم إلى فكرة أنّ المرض كالموت، حسب الفلاسفة الرّواقيين، مرحلة طبيعيّة من حياة الإنسان حادثة بالضّرورة، يكون بموجبها التّعايش مع الواقع واجبا لمناعة النّفس. لكن، ماذا لو انقطعت المعلومة فجأة في خضمّ تلك الدوّامة من الترقّب الدّائم؟ أليست تلك هي الأزمة الحقيقية في عالم اليوم بغياب همزة الوصل تلك؟ ألم تكن المعلومة أمام الإنسان هي التّرياق والملجأ؟ أليست المعالجة الإعلاميّة، بتحديثاتها، الموجّه الفعلي للقرارات المصيريّة عند الأزمات؟