في هذا الجزء المتبقّي من حوارنا مع الشاعر والناقد مشري بن خليفة، نواصل محاولتنا تناول الشعرية الجزائرية من منظور تاريخي، ومن خلال مسألة تقسيم تلك التجربة إلى «أجيال» متعاقبة، وما يترتب عن ذلك من إشكالات نقدية و»تاريخية». مشري بن خليفة، أستاذ الأدب بجامعة الجزائر، واحد من أبرز الشعراء الذين برزوا في ثمانينيات القرن العشرين، وسبق له أن مارس العمل الصحفي في مجلة «المجاهد الأسبوعي» قبل أن يتفرّغ للعمل الأكاديمي.
- الشعب ويكاند: يتهم البعض «جيل الثمانينيات الشعري» بـ «الردة الحداثية» مقارنة بجيل السبعينيات المتهم هو الآخر بـ «الإيدولوجيا»، إلى أي مدى توافق على هذا الطرح؟
مشري بن خليفة: هذا الرأي لا أساس له من الصحة ولم يقرأ أصحابه شعرية الثمانينيات، لأن جيل الثمانينيات - كما قلت سابقا في عدة لقاءات - جيل شعري أحدث تحولا نوعيا على مستوى الشعرية، وأخرج الشعر من خطاب الأيديولوجية وأسس لنص شعري مغاير ومختلف، نص ينبني على الرؤيا والتجربة. هذا الجيل تحمل مسؤوليته في إحداث القطيعة وطرح أسئلة إشكالية في مفهوم الشعر وطبيعته النصية، لذا كان النص عندهم منخرطا في الحداثة ويجسد فلسفة الاختلاف بالمعنى الحقيقي، وتعبر شعريتهم عن النضج في فهم الشعر، وإدراك خصوصيته على مستوى الممارسات النصية.
صحيح أن بعض الشعراء في البدايات كتبوا قصائدهم في الشكل العمودي، ولكن ليس بمعيار عمود الشعر، وإنما أحدثوا تحولا على مستوى بنيته الشعرية واشتغلوا على اللغة الشعرية من منظور أنها ليست لغة معجمية، بل لغة ترتبط بالتجربة والدلالات المختلفة التي يبنيها النسق النصي، وجاءت قصائدهم حديثة بمعنى الكلمة. ثم سرعان ما اتجهوا إلى كتابة القصيدة الحديثة وخرجوا من معطف الشعر الحر، ودخلوا تجارب متعددة ومختلفة. لو كان هناك متسع لقدمت أمثلة كثيرة عن هذه التحولات في المرجعية والإبدالات النصية.
أعتقد أن هذه الشعرية ظُلمت كثيرا ومسحت من تاريخ الشعر الجزائري، على أهميتها في فعل التغيير والتحديث الشعري. وهذه الشعرية كانت منفتحة على عديد التجارب الشعرية الإنسانية، واستفادت كثيرا من التحولات التي شهدها الشعر العربي المعاصر والشعر العالمي، ومن ثم نجد أن شعرية الثمانينيات تجربة بحاجة إلى دراسة عميقة في اتجاهاتها المختلفة لأنها ثرية فعلا.
- ماسمي بـ»جيل الثمانينيات» تبدو تجارب ممثليه مختلفة ومشاربهم متنوعة، ما الذي يجمع بينهم؟
جيل الثمانينيات جاء في مرحلة سياسية واجتماعية واقتصادية صعبة، وتحول نحو الانفتاح والليبرالية والحرية والقلق والخوف، ومن ثم وجد الشعراء أنفسهم يعودون إلى الذات ليس هروبا من الواقع، وإنما لإعادة تشكيل هذا الواقع المتحول وفق رؤيا مختلفة وتجربة أعمق، من هنا بدأت تظهر الاختلافات النصية المتعددة، عمودية وقصيدة حديثة وقصيدة النثر وشعرية الكتابة، بدأ هذا الجيل في التجريب ودخل مرحلة جديدة. نعم كانت التجارب متعددة ومختلفة ولكنها لم تكن متصارعة، فهي تعتبر تجربة إثراء شعري، ولكل اتجاه خصوصية ومرجعية ونص مختلف، وهذا هو الذي جعل شعرية الثمانينيات ثرية حقيقة، والذي كان يجمع بين كل الشعراء والاتجاهات هو النص الشعري، الذي يضيف للشعرية شيئا لم يكن موجودا من قبل، التنافس كان على خصوصية النص الشعري وتحديثه.
- ألا ترى من الإجحاف اختصار جيل كامل في عشرية من الزمن؟
مسألة الجيل في حقيقتها ارتبطت بالصراع الوجودي، وعقلية الإلغاء والمحو والتهميش، بدل عقلية الحوار والاختلاف والتعدد. أعتقد أن مفهوم الجيل بحد ذاته إشكالية عويصة، لأن قراءة هذا المفهوم في زمنه الماضي، من الممكن ينطبق على مرحلة زمنية سابقة بكل إشكالاتها المعرفية والاجتماعية والسياسية، لكن مقاربة وطرح هذا المفهوم في الوقت الراهن، أزعم أنها غير مجدية لعدة اعتبارات، لأن الواقع الأدبي عموما، ألغى هذه الفكرة لأنها ليست موضوعية، بحكم أن الأبوة الأدبية عموما انتهت، ولم تصبح معيارا يحتكم إليه. وفي نظري أن الشعر لا زمن ولا حدود ولا عمر له، باعتباره لصيقا بالإنسان.
لذا أرى أن مسألة المجايلة لم تعد مطروحة في الراهن، وإنما المطروح الآن هو التجارب المتعددة والمختلفة والإضافة النوعية.
- وماذا عن «الأجيال الشعرية الجديدة»، كيف يمكن أن نقسمها؟ أم أن معيار الزمن هو الحاسم؟
هذا الجيل الجديد مختلف تماما، فهو جيل رقمي وكوني له تجربته الخاصة، التي تأتي في سياق ثقافي متعدد ومختلف، يصنع فيه هذا الجيل وجوده على الكم الهائل من المعرفة، التي يضفيها العالم الافتراضي، ولم يعد بحاجة إلى الوصاية وسلطة «الأب» الشعرية، لأنه جيل ضد كل سلطة، وهو ينتمي إلى اللحظة الراهنة والعالم الافتراضي، الذي وفر له إمكانية الاطلاع والمشاركة في فضاءات مختلفة وبعيدة جغرافيا وثقافيا.
عندما نتحدث عن الراهن الشعري في الجزائر، فإننا لا نتحدث عن جيل بعينه، وإنما نحن نتحدث عن تجارب ورؤى وحساسيات شعرية مختلفة ومتمايزة وغير متجانسة في الرؤيا والممارسة الكتابية، وهذا راجع إلى تنوع المرجعيات والمفاهيم الشعرية والممارسات والمعارف المختلفة، ففي راهن الشعر الجزائري ينبغي لنا الإنصات إلى الحساسيات المختلفة والمتحولة باستمرار، التي تفتح وعيا جديدا على أسئلة الشعر وتشكله.
إن الحساسية الشعرية الجديدة في الجزائر، ليست بمعزل عن الحساسيات الشعرية في العالم، التي أسقطت مفهوم الجيل، لأنها تراكم لتجارب متتالية في سياق تطور القصيدة الحديثة وتطور آلياتها، وبقدر ما هي تجاوز لها أيضا.
فهذه الحساسية الجديدة في راهن الشعر الجزائري، تكشف عن اختلاف في تشكلات الرؤية الإبداعية، وفي أفق الكتابة الشعرية، حيث انحاز كثير من الشعراء، بعيدا عن الزمنية، إلى الرؤيا التي تعني اكتشاف العالم ومواجهته بعيدا عن الموقف المباشر، أي أن الرؤيا في الحساسية الجديدة لا تنتظم أو تتهيكل في جماعة أو جيل، فهي رؤيا مفتوحة على أفق بعيد وعلى تراكم تجارب نصية.
ومن ثم يصبح الشعر حساسيات متعددة ومتراكمة ومتجاذبة، باعتبارها مزيجا من الأشكال والتعابير والطرائق الجمالية المتنوعة، ومن هنا فإن الارتباط بعامل الزمن لا قيمة له، فالقيمة مرتبطة بمدى وعي الشعراء من مختلف الأزمنة بالراهن وتجلياته النصية، لأن الحساسية الجديدة في مفهومها الحقيقي ليست حكرا على جماعة أو جيل معين، وإنما هي تجارب متعددة متراكمة، ليست من نتاج الشعراء الجدد وحدهم، بل يساهم فيها شعراء من أجيال سابقة.
(الجزء الأخير)
الشاعر مشري بن خليفة لـ «الشعب ويكاند»:
مسألة المجايلة لم تعد مطروحة في الراهن