طباعة هذه الصفحة

سَالْفِي عابـر في العـشـاء الأخـير

معضلةُ الــورّاق وأوهـــامُ الكاتــب الافــتراضي

عبد القادر رابحي

   لعلّ من أكبر المنافع التي جاد بها عصر التواصل بالصورة وأهمّها على الإطلاق، أنه ميّع كلّ القيم التقليدية التي أحاطت بها وبمحمولاتها السيميائية ووضعتها لفترات طويلة من التاريخ البشري في مستوى التقديس وفي مرتبة العبادة. لم يعد ثمّة من قداسة كالتي كانت عليها صورة السيد المسيح وهو يتناول العشاء الأخير مع الحواريين، كما لم تعدّ ثمة من قداسة لتماثيل آلهة أثينا وهي تنظر إلى المارّة بعيون آمِرة، ولا لنظرة الموناليزا وهي تزرع الشكّ في أذهان المُتلقّين البصريّين، ولا لصورةِ الزعيم تشي غيفارا وهو ممدّدٌ جثةً هامدةً على سريره الأخير تحت نظَرَات الأعين الساخرة للحرّاس البوليفيين.



    ولعلّه بسبب هذا كلّه، لم يعد هناك من إمكانية لعبادة الصورة التي طالما نبّه مولانا جلال الدين الرومي إلى خطورة التعلّق بها، ولا ثمّة من إمكانية لممارسة تزييفٍ ما مِمّا كانت ممارستُه سهلةً على الشعوب العمياء في فترات سابقة. لقد أصبح كلّ شيء عاريا للناظرين تقريبا، ولم يعد هناك من فرصة للاختباء الآمن وراء جدار الإنسانية القديم لممارسة التأمل السُرّي بعيدا عن أعين الغرباء.  لقد آن للمتلقي أن يمدّ بصره ويمارس بنفسه كل أنواع التزييف التي كانت حكرا على جلاديه من الكتاب والمثقفين، بما فيها تزييف الوعي وتزييف التاريخ وطمس الحقيقة من خلال التلاعب بالصورة كما يشاء وكيفما يشاء.  كما آن له أن يتجوّل بعينه التي لا تنام بين ألبوم الذات المعكوسة في مرآة «السالفي»، وبين وحْل تقنينات «الفوتوشوب» المتحوّل، بفضل سميائيات التفاضل، إلى حقول إيديولوجية غير محروثة يتلهّى في مراعيها الافتراضية المزهوّة بالدّقة المتناهية ذوو البصر والبصيرة العالقون أمام شاشاتهم.. هؤلاء الذين هم نحن جميعا، أو هم بعضٌ منّا، أو هم نحنُ بصيغة المفرد المتعالي. فهل نحن على وشك الدخول النهائي في مرحلة انتهاء فكرة «المخطوط» بوصفه قيمة مرجعية شاحذة لسبل التأكد النهائي من صدقية الرواية التاريخية؟ وهل نحن أمام حالة اختفاء فعل «التحقيق» بوصفه انهماكا وجوديا في البحث عن الحقيقة وحفرا معرفيا متأنيا يتجاوز حالات التزييف التي يمكن أن تطالها من خلال استبدال العين للورق بالشاشة؟ وكيف لبورخس الضرير أن يتفّقد كتبه القديمة عن طريق اللمس، ويقرأ أسرارها بما ينبعث من روائح  ورقها الخاثر في دهاليز مكتبته العتيقة؟
- سالفي العشاء الأخير:
    منذ أن ظهر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما منتشيا ومزهوّا وهو يأخذ صورة له، بيده وبهاتفه النقال، مع مجموعة من الزعماء في مناسبة تأبين الزعيم الجنوب إفريقي الراحل نيلسون منديلا، ومفهوم (السالفي) يزداد اندراجا في واقع الممارسة النرجسية للذات الباحثة عن نفسها في أتون المغامرة الوجودية التي يحاول فيها الإنسان المعاصر أن يدرأ هشاشته بيده، ويحمي وجهه من صفعة الواقع الرهيبة التي تخبر عن عمق ما يختزن من تناقضات لا يستطيع تسيير سطوتها في واقعه المرير.
  وعلى الرغم من أن منشأ الفكرة سابق لهذه المناسبة في واقع الناس العاديين وهم يوظفون التكنولوجيا للتعبير عن نرجسية الذات التي تحقّق ما كانت محرومة منه في السابق نظرا لغياب الوسائل التي لم يكن في مقدورها امتلاكها، إلاّ أنّ ما أحدث فارقَ انتشاء رئيس أقوى دولة في العالم، وهو يأخذ صورةً باسمةً ومزهوّة بنفسها في مناسبة مُناقِضة تماما لحالة الذات هذه، هو هذه الرغبة الملحة في تبجيل الذات التي تصوّر نفسها بنفسها وتمرّر صورتها للعالم على أساس أنّها هي المركز الطاغي، حتى ولو عكست ما يختلج في باطن النفس من تشوُّهٍ رهيبٍ لا يتحمله المصوّرون المحترفون وهم يتفننون في محْو كلّ أثرٍ لاعوجاجٍ مَا بإمكانه أن يؤثر على ما تحمله الصورةُ من رسائل إيديولوجية متحكّم في مساراتها ومآلاتها مسبقا.
  عديدةٌ هي الكتابات الإبداعية والنقدية والفكرية التي تكاد تشبه في جوهرها حالة (السالفي) الذي يجتهد أصحابُه عنوةً في تصوير الذات لنفسها بمنطق الهاتف المحمول، وتسارع إلى إخبار العالم بأنها هي مركز العالم وقوّته، تماما كما صورة الرئيس الأمريكي وهو يرسل رسائله إلى العالم المبهور بطرافة الصورة وغضاضة ما تحمله من تشفيرات. وللمُشاهد المتعلّق بالصورة أن يرى ما يمكن أن تعكسه من صدق التشوّه الضارب في عمق الذات المفكّرة المنتشية بصورتها، والمزهُوّة بما يمكن أن تعكسه ذاتُها المأخوذة عنوةً من مضمراتٍ حاملةٍ لرسائلَ تمركُزِ يكاد يبتلعُ بنرجسيته المفرطة مساحات الهامش الشاسعة بكاملها. كما وأن العديد من الكتابات تظهر وكأنها سالفيات أصيلة لذواتٍ مثقفة تحمل الكثير من التشوّهات التي لا يستطيع المصورون المحترفون محوها نظرا لكثرة ما تعسكه هذه الكتابات من عدم قدرة على تجسير الهوّة بين فراغات الروح الباحثة عن خلاص ما، وامتلاء الواقع الحريص على تصدير ذباب مراراته المكدّسة لمن يرغب في شرائها بما يعادلها من قيمة.
   ربما بدت المسألة على درجة كبيرة من الأهمية بالنظر إلى ما يجري الآن من متغيرات معرفية أكدتها فلسفة التواصل المعاصرة بما أتاحته الثورة الرقمية من تطبيقات تكنولوجية أزاحت عديد المفاهيم التي كان المثقف التقليدي يبني بها مجده الكتابيّ ورسوخه التراجيدي في متن المدونة الورقية. لقد أصبح النقاد يتحدثون الآن عن الأدب الإلكتروني، وعن نصّ ما بعد الكتابة بكلّ ما ينتجه هذا النص من علاقات جديدة تؤسس لمعرفة غير تراتبيّة في فهمها لمنطلقاته ولمآلاته ولعلاقتهما بالمتلقي الفاعل المشارك في عملية التأسيس والتخييل والتصحيح للنصوص الإبداعية، وهي تولد مباشرةً في الفضاء الافتراضي تحت أعين العالم المشرعة على النص وعلى مزاياه ومثالبه.
- في التسلّط الإفتراضي:
   ثمّة دكتاتوريات ثقافية رمزية تتأسس في المجال الافتراضي، يحاولُ  من خلالها العديدُ من الكتاب تجاوز مؤشر الحريّة التي أتاحتها الثورة الرقمية في فضاءات التواصل الافتراضي بطرحه للرؤية المساواتية في فرص إنتاج الأفكار وفي نشرها وتلقيها، وفي تفتيت مركزية نظريات القراءة التي حاولت أن تجبر القراء العاديين على تحمل الرؤية الدوغمائية للقارئ النموذجي في اختياره لما يريد أن يصل إلى القراء العاديين ممّا استطاع أن يفرضه عليهم بحيلته المعرفية التي يعتقد أنها حكر عليه وحده. وثمّة تأقلم ذو طبيعة جرثومية في إنتاج هذا النوع من الكتاب لمناعةٍ فاعلةٍ يحاولون من خلالها، بوصفهم كتّابا نموذجيين، أن يتماهَوْا به مع التصوّر المعاصر للكتابة وللتلقي بسبب افتقادهم للقارئ النموذجي في الفضاء الآني للكتابة. ولعله لذلك، لا تخلو المساحات الافتراضية من تصوراتٍ متعالية يمارسها العديد من المثقفين وهم يطرحون من خلالها مفهوميّ الكتابة والتلقي بصورة غير متعمّدة، ولكنها أكثر تراجعيةً مما كان يحمله هذان المفهومان في مرحلة التسلّط الورقي.
 ولعلها الرؤية نفسها التي حملها الكاتب المرابط في القلاع المحصنة لأزمنة الكِتاب الورقي محاولا الدخول بها إلى المعطى العصري الذي يجد حرجا كبيرا في التعاطي الواقعي معه. ولذلك، فهو يحاول أن يتأقلم معه بما ادّخره من خبرة سابقة في مجال تحديد أفق الانتظار، وفي توجيه النظر إلى سُريّة تصوّره لعالم الكتابة وما تدّر به عليه من تعالٍ فوقيٍّ ينظر من خلاله إلى العالم وكأنه هو الذي شكّله، وكأنه هو وحده القادر على إعادة تشكيله.
 والأصل أن الرؤية المساواتية التي حملتها الثورة الرقمية في توصيل المعلومة وفي تيسير سبل الوصول إليها، والتي تحمِل في صُلبها إمكانية تفوّق الهامش على المركز في صِدْقيّة الفكرة المُنْتِجَة وفي عقلانيتها، لم تعد تُخيف، كما في بداية انتشارها، تلك التصورات التقليدية التي صاحبت معارك المثقف التقليدي والمثقف العضوي، منذ ظهور الطباعة الورقية وانتشارها، من ممارسة الفعل الثقافي بوصفه تميّزا مفردا في وسط مجتمعات عائمة في بحر الأمية والجهل والتخلف.  
 لقد انبهر هؤلاء الكتّاب بقدرةِ ما حملته الثورةُ الرّقمية من مستجدات وبقدرتها على تجاوز الأطروحات التقليدية التي كانت تربط الكاتب بآليات توصيل تقليدية في مجتمعات تقليدية هي كذلك. كما فتحت هذه المستجدات التي أحدثتها بدايات استعمال الانترنت وانتشار آلية التواصل الافتراضي ثورةً جديدةً في تفكيك بنية التراتبية التقليدية التي كانت تربط المثقف بالقارئ عموما، وإعادة صياغتها بناءً على مبدأ التواصل الآني الجديد، من خلال دحضها لسلطة الهامش المُهمّش في عالم الكتاب الورقي وهو يجد له مكانًا ومكانةً في عالم الافتراض الشاسع.
   ولعل هذا ما جعل الكتّاب ينتبهون في الوقت الراهن إلى مركز الفكرة التي أحدثتها الثورة الرقمية في بنية العلاقة التي كانت تربطهم بعالم القراءة والتلقي، فراحوا يعيدون تشغيل آلية المتعاليات وتحيين إحداثياتها ورسم حقولها لأجل التّموقع في ما يتيحه هذا الفضاء الجديد من إمكانات انتشار، ومحاولة تطوير قدرتهم التي اكتسبوها من التجربة الورقية والأثيرية والصورائية في مراحل سابقة، حتى يتمكنوا من إعادة تأسيس مركزيات جديدة داخل عالم الانترنت، وذلك من خلال تلغيم الحلم الثوريّ الذي سار عليه العالم الافتراضي في بداياته، بإنتاجه لآليات السيطرة المنهجية على مساحة الكتابة وتسخير قوّة انتشارها وسرعتها    في صالح تثبيت الصورة التقليدية للباتريركية الإبداعية والثقافية بما تفرضه على القارئ المنبهر بصورة التعالي الموروثة من عصر ما قبل الافتراض.
  ومن هنا، يستغل التصوّر الأبوي للكتابة قدرته على تبرير عودتِه الباترياركية من خلال استحضار ماضيه الكتابي بنشر النصوص وصورها في الجرائد وفي أغلفة الكتب وفي مقاطع الفيديو، من أجل إحداث وقع صادم في ذهن القارئ الافتراضي المتسرع لاكتشاف الانتصارات التي تَرْسُخ في ذهنه بوصفها صورا إبهارية  يبقى أثرُها عالقا في ذاكرته، فيربطها بصورة الكاتب الذي لا يغادر حينها مجال الحضور في ذهن القارئ.
وستتيح الإمكانات الكبيرة لوسائل التواصل الاجتماعي ترسيخ هذه الأبوية من خلال التأسيس للصورة المتعالية بفتح صفحة رسمية أو صفحةِ مجموعةٍ يكون هو المشرف عليها، فيقبل أو يرفض أعضاءها لتأكيد صورة التعالي، أو يجعلها مفتوحة، ولكنه يراقبها دائما نظرا لشعوره بمسئوليته على ما ينشر فيها وتجاه من يطلع عليها من متابعيه.
   ولعلّ هذا الشعور بالمسؤولية هو، في نهاية الأمر، تصوّر يحمله الكاتب من مرحلة ما قبل النتّ، حيث كان يمارس الرقابة الذاتية على ما يكتبه نظرا لما يمكن أن يشكلّه الخروج عن أعراف النشر الورقي من خطورة على المصير الذاتي الذي يحمله عن الكاتب وحريته في مجتمع يعيش داخل التحديدات المسبقة التي تحمي وجوده الواقعي، وتحقق له نوعا من الطمأنينة الموقفية التي تحميه من كل تغيير مفاجئ قد تصيبُه آثارُه لو أنه تجاوز هذه التحديدات. وتعتبر الصفحة الرسمية وصفحة المجموعة هي الصورة الأخرى للبلوغ في التأسيس لمركزية الكاتب داخل العالم الافتراضي من أجل فرض صورته بالطريقة التي يريدها هو.
- شخصنة العالم وعولمة الذوات:
  ولعلّ في ما يتيحُه إنشاءُ المدونات الشخصية والمواقع الالكترونية من إمكانيات أخرى للتعبير عن «الذات الكاتِبَة» وهي تسخِّر العالم الافتراضي للترويج للصورة المتقادمة التي قوّضتها الثورة الرقمية، وذلك بالتأكيد على مركزية الكاتب وتعاليه من خلال إضافتِه لصِفَة المدوّن إلى جانب صفات الكاتب والمثقف          وغيرهما من الصفات. ولعلها مركزيةٌ جديدة فرضها واقع العالم الافتراضي واستغلها الكتاب الخارجون عن معيارية الكتابة التقليدية وتسلّطها في المنع المطلق للتصور الرافض أو القبول المطلق للتصور القابل، وذلك من أجل التعبير عن مواقف فكرية أو سياسية معارِضة أسّس فيها المدونون السياسيون خاصة لنوع من المعارضة الافتراضية التي شكلت وسيلة فاعلة في نشر أفكارهم وتشكيل خطر معنويّ على الجهات الموجه إليها الخطاب المضاد.
 ولعل هذا ما يجعل الكاتب التقليدي يعتقد بأن الانترنت مكان لسرقة الأفكار والمجهود الإبداعي نظرا لانفتاحه على عالم اللحظة الآنية المتشظية بطريقة سريعة في وصولها إلى القراء المجهولين الذين يخشى أن يسرقوا مجهوده الإبداعي وينشروه بأسمائهم في أمكنة بعيدة عن تواجده بوسائط ورقية    أو افتراضية لا يعرفها أو لا يستطيع الوصول إليها. ولعلّ هذا ما أنتج طرائق جديدة في التعامل مع هذا الواقع من إلحاح العديد من الكتاب التقليديين على بناء علاقة توثيقية بينهم وبين القراء الافتراضيين، وذلك من خلال التأكيد على نشر صورة المنشور الورقية ومَرْجَعَتِهَا حتى يتم حفظ نسبة النص المكتوب ورقيا للكاتب الورقي بصورة تعيد إنتاج علاقة الأبوة / البنوة كما هي عليه في المجال الورقي، ولا تنقطع العلاقة التقليدية التي كانت تربط الكاتب بالقارئ التقليدي، بحيث يصبح نشرُ صورة المقال ومَرْجَعَتُهُ دليلَ إشهادٍ له على انتماء النص للكاتب من جهة، وعلى منع كل إمكانية للتلاعب به افتراضيا بمحاولة سرقته أو استعماله كليا أو جزئيا خارج إرادة الكاتب.
 وفي هذه الحالة يستعمل الكثير من الكتاب العالمَ الافتراضي لا بوصفه آلية تواصل فاعلة من الناحية الزمنية، وإنما بوصفه وسيلة توصيل ذات اتجاه واحد تخدم الكاتب بالدرجة الأولى وتحافظ على الرأسمال الرمزي الذي اكتسبه من التجربة الورقية. لقد استطاعت مفاهيم الكتابة الورقية والنشر التقليدي أن تعيد إنتاج آليات جديدة تسخر من خلالها ممكنات ما تتيحه الثورة الرقمية لصالحها، وذلك بإعادة مركزةِ مفاهيم التعالي والأبوية الذي تسكن ذات المبدع وهو يعيد تدوير طرائق استغلاله للرأسمال الرمزي الذي يتمتع به، والذي ورثه من المرحلة الورقية، من أجل ترسيخ نظرته المتعالية في عالمٍ افتراضيٍّ لا يحتمل الرجوع إلى المسلمات التقليدية في الأطروحات الشُّهرة الورقية، لأنه جاء أصلا من أجل الثورة عليها وترسيخ الرؤية المتسارعة التي يحققها النشر الافتراضي.

المصدر: (العدد 1 مجلة فواصل فيفري- مارس 2021)