طباعة هذه الصفحة

الدكتور طارق رداف لـ «الشعب ويكاند»:

استقرار السّاحل الإفريقي مرهون بالتحرّر من النّفوذ الفرنسي

أجرت الحوار: إيمان كافي

 على الاتحاد الإفريقي دعم «التّعاون الجماعي» لكسر طوق الأزمات

تقف «الشعب ويكاند» في هذا الحوار مع الدكتور طارق رداف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة العربي بن مهيدي بأم البواقي، عند مستجدات الوضع في منطقة الساحل الإفريقي على ضوء ما تشهده من تحديات أمنية و عدم استقرار سياسي، وتدخّلات خارجية، وتبحث معه في تأثير هذا الوضع على الجزائر التي وجدت نفسها محاطة بحزام ناري من الأزمات.
الدكتور رداف خلص إلى أن استقرار منطقة الساحل لن يتحقّق إلا بتحرّرها من النفوذ الفرنسي الذي جثم على صدرها، وبتبنى الإتحاد الإفريقي مقاربة التعاون الجماعي  بعيدا عن التدخلات الخارجية  المشبوهة .


- الشعب ويكاند: كلّما لاحت بوادر انفراج في المنطقة، إلا وعاد التوتر ليسكنها، فبعد أن بدأ الضوء يبزغ في آخر النفق الليبي، وأخذت دولة مالي تتحسّس طريق الاستقرار، عاد الوضع لينتكس بفعل التطورات التي تشهدها دولة تشاد، فما قراءتكم لهذه المستجدات وما تقييمكم للوضع بهذه المنطقة المكدسة بالأزمات والتوترات؟
 الدكتور طارق رداف: وصف المنطقة المكدّسة أو المتّخمة بالأزمات، يلخّص الموضوع بشكل واضح، فهذه المنطقة منذ استقلالها لم تتمكن على غرار الكثير من بلدان الساحل الإفريقي وما وراء الصحراء من بناء الدولة الوطنية، بالمؤسسات السياسية المستقرة. وبالتالي فهي عرضة لحالة مزمنة من الأزمات السياسية والأمنية، ولم تتضمن المستجدات أي جديد، مقارنةً بالسياق التاريخي والسياسي. سواء تعلق الأمر بمالي أو تشاد، فهي نتائج طبيعية عادية لتطور الوضع السياسي في الدولتين. ففي حالة تشاد موضوع الساعة، تستمر حالة عدم الاستقرار منذ 1979، بين مواجهات مسلحة داخلية وخارجية، وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن الأزمة الحالية ليست حالة استثنائية، بل هي حلقة جديدة من حلقات الصراع الداخلي وعدم الاستقرار الراجع إلى الفشل التام في بناء الدولة الوطنية، والمؤسسات السياسية القوية والمستقرة.
- أزمة تشاد، انفجرت على حين غرة، وحتى الآن لم تتّضح خلفياتها ولا أسبابها الحقيقية، ما تعليقكم على الوضع في تشاد وكيف ترون المخرج، خاصة مع التحدي الذي يشكله المتمردون، وأيضا التدخلات الغربية التي تحكم قبضتها على المنطقة وكأنها ما زالت تحت سلطتها الاستعمارية؟
 يُمكن القول أن الأسباب والخلفيات لم تتوضح بشكل تفصيلي، لكنها ستكون واضحة ومعلومة عند قراءتها ضمن السياق التاريخي والسياسي العام. فالحرب الأهلية في البلاد تعود إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، ولم تشهد تشاد عبر تاريخها إلا فترات قصيرة من الاستقرار الهش. وكما تفضلتم به، فإن حركات التمرد الداخلي، وهيمنة القوة الاستعمارية السابقة، لم تساهم عبر تاريخ تشاد إلا في زيادة تدميره وتخلفه. فالمواقف الفرنسية كانت دائماً مؤيدة للطرف الذي يتمكن من الاستيلاء على السلطة. وأظن أنه لا توجد وصفات جاهزة يمكن تطبيقها من أجل الوصول إلى بر الأمان، غير أن عدم الاستقرار بشكل عام، نتج أساساً على محاولة إلغاء الآخر، في ظل غياب كلي لمؤسسات سياسية تلعب دورها المفترض. وهو ما يُمكن أن يقوم به وسيط محايد، يمكنه عزل تأثير القوة الاستعمارية، ومساعدة الأطراف الداخلية على إيجاد الحلول الوسط.

* هناك من يؤاخذ المجلس العسكري التشادي على توليه قيادة البلاد بعد مقتل الرئيس ديبي، وهناك من يعتقد على العكس تماما بأن هذه الخطوة وإن كانت غير دستورية، فهي قد تكون الأنسب في هذه الظروف لإنقاذ البلاد من الانزلاق إلى الأسوأ، شرط ضمان انتقال السلطة إلى قيادة مدنية في أقرب وقت، فما تعليقكم على هذه المسألة التي تثير الكثير من الجدل؟
** تنطلق المواقف المتشائمة من تولي مجلس عسكري السلطة، من اعتبار أنّ هذا المشهد متكرر في إفريقيا، وتشاد تؤكد هذه القاعدة منذ عهد الرئيس حبري، حيث يتولى العسكريون السلطة بشكل انتقالي، ثم تتحول السلطة الانتقالية إلى دائمة في البلاد، ولا تنتقل إلا بانقلاب عسكري آخر. غير أنّي سأكرّر ما سبق لي ذكره، ومفاده أن الكثير من دول الساحل وجنوب الصحراء، فشلت عبر مسار تطورها منذ الاستقلال، وبالتالي فإن ما ينبغي أن يتم على مستوى ما يُطلق عليه في علم السياسة اسم دولة المؤسسات، لا يُمكن أن يتم على مستوى الدول الفاشلة، ذات البنية المؤسساتية الهشة. ففي الحالة العامة وفي حالة الفراغ في منصب الرئيس، عادة ما تنتقل السلطة إلى نائب الرئيس، أو رئيس البرلمان أو غيره من الشخصيات المحددة دستورياً. أما في حالة تشاد والكثير من الدول الإفريقية، فعادة ما تنتقل السلطة كأمر واقع، إلى مجلس عسكري، أو قيادة مدنية تحت إشراف عسكري. وسواءً أردنا أم لا، تبقى المؤسسة العسكرية بمثابة المؤسسة الوحيدة، القوية والمتماسكة. وأظن أنه سواء أيّدنا أم عارضنا تولي المجلس العسكري لزمام السلطة في نجامينا، لابد من التسليم بأنه المؤسسة الوحيدة القادرة على أخذ زمام المبادرة في الوقت الحالي، وهو ما يزيد الضغط على الاتحاد الإفريقي، للقيام بمسؤولياته في توجيه المجلس العسكري، نحو نقل السلطة بشكل سلس وسلمي لمؤسسة مدنية أو يتولى تنظيم انتخابات رئاسية، غير أن ذلك يبقى مرتبطاً بقدرة الأفارقة على تقليص النفوذ الفرنسي، والذي لا يهتم عموماً بأساليب انتقال السلطة، بقدر اهتمامه باستمرار مصالحه ونفوذه السياسي في المنطقة ككل.

- غير بعيد عن تشاد، «تقاوم» دولة مالي لأجل إقرار الأمن والاستقرار، وبفضل مساعدة ومرافقة الجزائر، حقّقت بعض التقدم على مستوى تنفيذ «اتفاق السلم والمصالحة» لكن التحدي الأمني لا يزال كبيرا، فإلى أين وصلت عملية السلام في مالي ؟
 تقوم عملية السلم في مالي على ما يُعرف باسم مسار الجزائر، أو الاتفاق الإطار من أجل السلام في مالي، وهو ما تم التوصل إليه برعاية ووساطة جزائرية. وتبدو الجزائر متمسّكة بدورها في مالي، والذي مارسته تقريباً منذ 1963.
لابد من القول أن مسار المصالحة الوطنية في مالي، يعرف بعض التعثر، وهنا يظهر التحدي الذي تواجهه الجزائر، وهو تحييد القوى الخارجية التي تعيق تطبيق مسار المصالحة،  أكرّر أن مالي تسير متعثرة وببطء نحو تنفيذ المصالحة، مع العديد من التحديات الخارجية بشكل خاص.

- وكيف تقيّمون جهود الجزائر هناك؟
 أما عن الدور الجزائري فيبدو أنه أخذ ريتماً أنشط بعد انقلاب 2020، ولم يقتصر هذه المرة على الوساطة المحايدة، بل سار نحو نوع من التدخل الإيجابي، من خلال إطلاق مسار للتعاون في المجالات الأمنية والعسكرية، وبشكل خاص المجالات التجارية والاقتصادية. وهو ما تكرس مع اللجنة المشتركة بين البلدين، وكذلك اللجنة الحدودية...إلخ. وعليه ورغم اعتراف الجميع بأهمية الدور الجزائري، إلا أن هذا الأخير يواجه تحديات كثيرة، ناتجة بالأساس عن التعارض بين التصور الجزائري لحل الأزمة في مالي، والمصالح الأجنبية على رأسها المصالح الفرنسية. وبذلك لابد أن يمتد المجهود الجزائري إلى الأطراف الخارجية، ولا يقتصر على القوى الداخلية في الساحة السياسية المالية.

- الجزائر محاطة بحزام ناري من الأزمات السياسية والمخاطر الأمنية، ومواجهة هذا الواقع يستدعي إمكانات وإستراتيجية محدّدة، فكيف تتعامل الجزائر مع محيطها الملغم؟
 أتّفق مع توصيف «حزام الأزمات الناري» فهو يجسّد حالة المحيط الإقليمي للجزائر، حيث تسود حالة من عدم الاستقرار، والتهديدات الأمنية متعددة الأبعاد والأشكال. سواء تعلق الأمر بحروب أهلية، حركات انقلابية، حالات الهشاشة والفشل في بناء الدولة...إلخ. وإن كانت هذه الأزمات خارج الحدود الجزائرية، إلا أن تأثيرها المباشر وغير المباشر على حد سواء، لا يبقى خارج حدودنا. سواء تعلق الأمر بموجات من اللاجئين، أو الجريمة المنظمة، والأخطر استغلال الوضع من طرف الجماعات الإرهابية من أجل الحصول على صدى لأنشطتها في المنطقة، أو حتى محاولة نقل تأثيرها إلى داخل الجزائر.
رغم المصاعب الاقتصادية وتبعات الأزمة الصحية التي ألقت بتأثيراتها على العالم ككل، فقد تمسّكت الجزائر بمقاربتها  تجاه أزمات الإقليم، والتي لطالما زاوجت بين الأبعاد الأمنية والعسكرية، ذات الطابع التعاوني غير التدخلي، من خلال هيئة أركان مشتركة، ولجان عمل أمنية ثنائية وجماعية. ومن خلال التعاون في المجالات الاقتصادية والبنية التحتية، عبر مشاريع على غرار الطرق العابرة للصحراء، والاستثمارات.  وفي هذا السياق، واصلت الجزائر تعاونها الاقتصادي مع دول مثل مالي، على اعتبار أن الاستقرار لا يحصل من خلال العمل العسكري والأمني، بل يحتاج إلى تنمية وتحسين البنية التحتية، وهو ما تجسد من خلال اللجان المشتركة بين البلدين. كما أن النشاط الدبلوماسي لم يتراجع، بعد أن خرج من حالة ركود ميزته لسنوات، وهو ما يعكسه نشاط وزير الخارجية السيد بوقادوم، على مستوى العديد من الدول الإفريقية.

- تشهد منطقة الساحل الإفريقي تزايدا في منسوب الخطر الإرهابي، فما السبب في هذا التزايد ولماذا فشل الخيار العسكري في دحر الدمويين حتى أن البعض أصبح يفكر في مفاوضتهم من شدة يأسه من جدوى الحرب؟
 لابد من أن الإجابة تكمن في نص التساؤل، فتزايد النشاط الإرهابي هو نتيجة حتمية للخيار العسكري، فالاحتكام إلى هذا الخيار، يعني تعزيز الدافع لدى الجماعات الإرهابية بشكل عام، من أجل الرد بنفس الطريقة. وأعيد في هذا الصدد التذكير بالمقاربة الجزائرية، القائمة على اعتبار أن الحل لا ينحصر ولا يكمن في الحل العسكري، بل يتطلب حلولاً سياسية، مصحوبة بإجراءات اقتصادية، تكون مساعدة على تجفيف منابع الإرهاب. وأمام عدم رغبة الكثير من القوى الداخلية والخارجية، إقرار الإجراءات السياسية والاقتصادية التنموية، المناسبة لعزل الإرهاب، فإن هذا التصلب أدى إلى إضعاف المجهود العسكري وإفراغه من محتواه أولاً، وكذلك تعزيز مكانة الجماعات الإرهابية على الأرض، على اعتبار أنه يصعب إلحاق الهزيمة بها عسكرياً، لأنها ببساطة تتبنى أسلوب حرب العصابات.

- كلّما ذكرنا الحرب على الإرهاب، عاد نفس السؤال ليتكرّر، ما سرّ التواجد العسكري الفرنسي بقوة يتجاوز قوامها 5 آلاف عسكري في الساحل، ما دامت عاجزة عن تحقيق الخلاص لشعوب المنطقة، ولماذا تراجع ماكرون عن خفض عدد قواته بعدما وعد بذلك؟
 منطقة الساحل بشكل عام، هي حديقة خلفية فرنسية، رغم محاولات أمريكية، ألمانية وكذلك صينية، لاختراق المنطقة، لأسباب استراتيجية واقتصادية. لذلك وفي ظل هذه المحاولات لإيجاد موطئ قدم، وبالتالي منافسة فرنسا على نفوذها، لا يسمح بالاعتقاد بإمكانية تخفيض فرنسا لتواجدها العسكري، وبالتالي تراجع هيمنتها السياسية. أظن أن التصريحات الخاصة بسحب القوات، أو على الأقل تخفيضها، موجهة للبيئة الداخلية، سواءً في إطار استحقاقات انتخابية، أو على هامش أعمال تستهدف هذه القوات على الأراضي المالية بشكل خاص. فحتى قبل انتشار القوات الفرنسية في إطار عملية القط البري أو «سرفال»، ثم عملية «برخان»، كانت القوات الفرنسية في قواعدها الدائمة في بوركينافاسو أو جيبوتي، تمارس الرقابة الدائمة على الوضع في منطقة الساحل. أي أن الذراع العسكري الفرنسي دائم الوجود، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن تخفيض القوات قد يؤدي الى استغلال انتخابي للحدث، وهو ما لا يرغب الرئيس ماكرون في حدوثه، خاصة مع تساقط أوراقه السياسية والاقتصادية.

- في كلمة أخيرة كيف يمكن للجزائر أن تتفادى المخاطر التي تهدّد محيطها الجيوسياسي؟
 يبدو أنه محكوم على الجزائر بحكم موقعها، على التعامل مع الإكراهات الناتجة عن الأزمات المزمنة لمنطقة الساحل. غير أن نجاحها في تخفيف آثار هذه الأزمات، مرهون بمدى قدرتها على تقليص أثر النفوذ الفرنسي، وزيادة تأثير ودور الاتحاد الإفريقي في المنطقة. فقد أثبت الميدان أن المقاربة السلبية، القائمة على التحصن وراء الحدود، أو المقاربة القائمة على التدخل، هما مقاربتان غير قادرتان على حسم الصراعات، وإنهاء حالة الأزمة في منطقة الساحل. وعليه يبدو أنه من الأفضل التوجه نحو تدعيم مقاربة التعاون الجماعي، الذي تعكسه منظمة الاتحاد الإفريقي، والتي نجحت في مواقع أخرى من القارة الإفريقية. وهو الوسيلة الأنجح على مواجهة النفوذ الفرنسي، والذي لا يمكن مواجهته للأسف بشكل منفرد، من طرف الجزائر أو أيا من الدول الإفريقية الأخرى.