يُنظر في الولايات المتحدة الأمريكية للصعود الصيني على نطاق واسع على أنه خطر يهدّد مكانة أمريكا المهيمنة على النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي أول لقاء له مع وسائل الإعلام بعد استلامه السلطة في جانفي المنصرم، أكد جو بايدن أن الصين هي المنافس الأول لأمريكا في العديد من المجالات، خاصة الاقتصادية منها، حيث أمر بالشروع في مراجعة شاملة للمقاربة الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية للمخاطر التي تشكّلها بكين، وأن إدارته لن تتردّد في استخدام القوة لحماية الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى الرغم من هذا، فإن فكرة التوسّع الاقتصادي والعسكري الصيني الذي لا يمكن وقفه وفقدان القوة النسبية للولايات المتحدة تستند في كثير من الأحيان حسب بعض الباحثين إلى افتراضات وتوقعات مشكوك فيها.
يرى العديد من الباحثين داخل أمريكا وخارجها، بان الصين حاليا وبالنظر للمقومات التي تمتلكها تعدّ الدولة الوحيدة تقريبا القادرة على مزاحمة أمريكا بشكل فعلي على قيادة العالم، كما انّ الصين لا تهدّد مكانة أمريكا كقوة عظمى رائدة فحسب، بل تهدد أيضًا الامتيازات والمزايا الاقتصادية التي تنجم عن هذا الوضع المتميز.
من وجهة نظر عملية، تسيطر الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي وفق ثلاث آليات رئيسية: الآلية الأولى مالية - اقتصادية، باعتبار أمريكا أكبر اقتصاد في العالم، حيث يبلغ ناتجها المحلي الاجمالي 21.4 تريليون دولار سنويا، كما أن الدولار الأمريكي يعدّ العملة رقم واحد في التعاملات التجارية الدولية، حيث يشكل80٪ من مجمل المبادلات التجارية العالمية، الثانية تكنولوجية، فالولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على الفضاء الالكتروني بشكل عام (الأنترنت)، كما ان كبرى شركات التكنولوجيا في العالم والمسيطرة على هذا المجال أمريكية مثل: مايكروسوفت، وشركة ألفا بت (المالكة لـ غوغل)، وأبل وفايسبوك.. بالإضافة الى التفوق العسكري حيث تمتلك الولايات المتحدة حوالي 800 قاعدة عسكرية في 70 دولة وإقليم في أنحاء العالم، مع انفاق عسكري سنوي يتجاوز 700 مليار دولار، وهو ما يمثل 38 ٪ من مجموع الإنفاق العسكري العالمي.
تعكس هذه الارقام الهيمنة الامريكية على العالم بشكل واضح في كل المجالات تقريبا، إلا أنه ومنذ صعود بلاد العم سام كقوة مهيمنة في النظام العالمي، لم تعرف تحديا مثل الذي تعرفه اليوم مع الصعود الصيني، فخلال فترة الحرب الباردة مثَل الاتحاد السوفييتي (سابقا) التحدي الأكبر للسيطرة الأمريكية، ورغم القوة العسكرية الهائلة للاتحاد السوفييتي إلا أنه كان «أقل قوة» اقتصاديا مقارنة بأمريكا، وأحد الأسباب التي أدت إلى انهياره في نهاية المطاف هو ضعفه الاقتصادي، وحتى روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي ليست في مقام يمكنها لوحدها في الوقت الحالي من تهديد مكانة أمريكا كقوة مهيمنة.
1 . حقيقة التنافس التجاري الصيني - الأمريكي
في حقيقة الأمر ما اصطلح عليه «بالحرب التجارية»، الجارية حاليا بين بكين وواشنطن، هي حرب معلنة من طرف واحد(أمريكا)، وهي ردة فعل أمريكية على التفوق الصيني في مجالات اقتصادية عدة. نظريا تعتبر أمريكا أكبر اقتصاد في العالم، لكن من الناحية العملية والاحصائية وفق معايير الاقتصاد الحقيقي، فإن الصين تفوقت على أمريكا في العديد من المجالات الاقتصادية، حيث تعتبر الصين أكبر دولة في العالم من حيث الصادرات وبلغت قيمتها سنة 2019، 2500 مليار دولار، متجاوزة أمريكا التي بلغت صادراتها ما قيمته 1650 مليار دولار فقط، ولا تعدّ الصين أكبر دولة مصدرة في العالم فحسب، لكنها أيضًا أكبر دولة تجارية في العالم من حيث الميزان التجاري، إذ سجّلت الصين فائضًا تجاريًا مذهلاً في عام 2019 والذي بلغ أكثر من 422 مليار دولار، ويمثل إجمالي صادرات الصين أكثر من 17% من ناتجها المحلي الإجمالي، مع العلم أن أمريكا تعاني من عجز في ميزانها التجاري، حيث تفوق الواردات قيمة الصادرات، ويتمّ تغطية العجز بطباعة مزيد من الدولار كل سنة.
وحسب موقع «ايكونوميك تايمز» بلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين في السلع والخدمات نحو648 ملياردولار، وبلغت قيمة صادرات الصين لأمريكا نحو478 مليار دولار، بينما تبلغ الصادرات الامريكية إلى الصين نحو169مليار دولار، في تفوق واضح للصين.
تدرك أمريكا جيدا هذا التفوق الصيني الذي يصعب إيقافه ولكن يمكن كبحه،أو تعطيله وهذا ما تجلى في السياسات الحمائية والعقوبات الاقتصادية التي طبقتها إدارة دونالد ترامب ضد الصين، والإدارة الامريكية الجديدة تواصل تقريبا بنفس النهج، خاصة أن مجال المناورة ضيق جدا مع التنين الصيني، وتسعى إدارة بايدن للضغط بملفات كلاسيكية على بكين، كملف حقوق الإنسان في منطقة تيمور الشرقية (الإيغور)، والتدخّل في هونغ كونغ وتايوان، وهذا ما عكسه آخر لقاء سياسي بين الصينيين والأمريكيين في ألاسكا منذ أيام (18 مارس 2021).
كما أن أمريكا تدرك جيدا أن التفوق الاقتصادي الصيني الكلي لا يكبحه الا الدولار باعتباره العملة الرئيسية للمعاملات التجارية العالمية، وتحاول الصين تجاوز هذه المعضلة من خلال اقتراح عدة بدائل من بينها طرح عملة إلكترونية مشفرة مطلع العام القادم (2021)، اليوان الرقمي، حيث يعمل بنظام (البلوكشين) هذه التكنولوجيا الجديدة غير خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة الامريكية، باعتبارها نظام نقدي لا مركزي، تمّ تطويره سنة 2009، من قبل شخص يدعى ساتوشيناكاموتو، ويمكن تداول اليوان الرقمي عبر الانترنت من أي مكان في العالم، كما يمكن تحويل ملايين الدولارات في فترة لا تتجاوز 10 دقائق. هذه العملة ستكون مدعومة بشكل كامل من قبل البنك المركزي الصيني، وتسعى الصين لتحويلها لعملة للتبادل التجاري مع بعض الدول كخطوة أولى، لكسر هيمنة الدولار على المعاملات المالية وبالأخص مع حلفاء الصين، مع العلم أن نظام عمل العملات الرقمية المشفرة (Cryptocurrencies) يختلف تماما عن نظام السويفت المالي (Swift) الذي تسيطر عليه أمريكا حاليا وتمر عبره 80٪ من التحويلات المالية العابرة للحدود، بالرغم من أن المنظمة المشرفة على النظام المالي ( سويفت) تعتبر نظريا منظمة مستقلة ومحايدة وغير خاضعة لنفوذ أي دولة، لكن واقع الممارسة السياسية يثبت العكس، حيث رضخت المنظمة (مقرها في بروكسل) للضغوطات الامريكية لمنع ايران من استخدام هذا النظام، بقرار من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي الايراني سنة 2018، والجدير بالذكر أن نظام السويفت يضمّ 9000 مؤسسة مالية حول العالم في أكثر من 200 دولة.
2 . التنافس الأمريكي الصيني في المجال التكنولوجي
منذ أيام قليلة (13 مارس 2021) صنفت هيئة الاتصالات الفدرالية في الولايات المتحدة شركة هواوي الصينية وأربعة شركات أخرى، ضمن شركات معدات الاتصالات الصينية التي تشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، الكثير من الناس قد تستغرب هذا التصنيف، خاصة أن هواوي شركة متخصّصة في تكنولوجيات الاتصالات والهواتف النقالة وليست شركة تنشط في مجال الصناعات العسكرية!.
لكن إذا عرف السبب بطل العجب!! فمن الأسباب المباشرة لهذا التصنيف هو تطوير شركة هواوي لتكنولوجيا الجيل الخامس، باعتبارها شركة رائدة في هذا المجال على المستوى العالمي، متفوقة على أكبر شركات التكنولوجيا الامريكية والغربية بشكل عام، حيث تمتلك هواوي حاليا براءات اختراع عديدة في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، والصراع المحتدم بين أمريكا والصين حول تكنولوجيا الاتصالات من الجيل الخامس ليس فقط تكنولوجياً أو تجارياً أو أمنياً، بل الثلاثة في آن واحد.
وتمنح تقنية الجيل الخامس الشبكة العنكبوتية سرعة عالية في الأداء، ويقول المختصون إنها ستغير عالم الإنترنت وستنتجُ ثورة في عالم الطب وعالم الصناعة، وخاصة صناعة السيارات ذاتية الدفع.
وسيتمّ اعتماد هذه التكنولوجيا في كافة البنى التحتية لدى دول العالم المتقدم بالأخص، بما فيها المستشفيات والمواصلات ومحطات إنتاج الطاقة، وأي يد صينية في تلك الحقول تخيف الغرب، وفيما الجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصالات الرقمية صار على الأبواب، تتجهز كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والصين من أجل فرض رؤيتهما الخاصة لنظام الإنترنت على العالم.
إن الصين اليوم لم تصبح تنافس أمريكا فحسب، بل تفّوقت عليها في العديد من مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا، وباتت تشكل تهديدا مباشرا لهيمنتها المطلقة على العالم، وفيما يخصّ آخر ذراع للهيمنة الامريكية، والمتعلّق بالتفوق العسكري، فيعد الحلقة الأخيرة التي تسعى الصين لكسبها، قبل إعلان نفسها قطب رئيسي في النظام الدولي.
3 . الانفاق العسكري الصيني
عرفت الصناعة العسكرية الصينية تطورا كبيرا في آخر السنوات، حيث نما الإنفاق العسكري الصيني بشكل مطرد، فحسب معهد ستوكهولم لأبحاث السلام ارتفع الانفاق العسكري الصيني من 80 مليار دولار سنة 2011،ليصل إلى أكثر من 200 مليار دولار سنة 2019، حيث تضاعف الإنفاق ثلاث مرات متجاوزا روسيا، المنافس العسكري التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال.
ولطالما ادعت الصين في خطابها الرسمي أنها لا تنوي أن تدخل في سباق للتسلح مع أمريكا، إلا أن لغة الأرقام تعكس الطموح الصيني في تطوير صناعة عسكرية ترتقي لمستوى نظيرتها الأمريكية.
يرى جون ميرشايمر وهو أحد المفكرين الأمريكيين البارزين والمحسوبين على التيار الواقعي، أن مسألة توظيف الصين لقوتها العسكرية وإعلان نفسها كقوة عالمية منافسة في النظام الدولي مسألة وقت فقط، وحسب أطروحاته النظرية، فإن الصين سوف تحذو حذو نظيرتها الولايات المتحدة الامريكية حين تدخلت في الحرب العالمية الثانية، رغم تبنيها لسنوات طويلة سياسة العزلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهي حالة شبيهة نوعا ما لوضعية الصين اليوم، ويضرب ميرشايمر مثال على ذلك بقوله: «عندما نسمع المسؤولين في واشنطن يقولون انهم ذهبوا الى بكين وتكلموا مع مسؤولين صينيين وقد تناقشوا طويلا واقتنعوا أن بإمكان الصين أن تنهض بطريقة سلمية أنا اعتبر ان هذا يفتقد للمنطق، انا لا يهمني من تحدثوا إليه الآن، لأن من تحدثوا اليه سيكون حتما في عداد الموتى بعد 20 او 30 سنة، ومن سيحكم الصين بعد عقدين او ثلاثة عقود هو بعمر 15 سنة اليوم، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بطريقة تفكيرهم بعد تلك السنين، لا نعرف أصلا من سيحكم الصين بعد 15،20 أو 30 سنة»، وبالتالي فحسب ميرشايمر فإن المسألة متعلقة بالنوايا والتي من الصعب التنبؤ بها.
يقرّ المختصون في مجال الدراسات العسكرية، أن الولايات المتحدة الأمريكية مازالت تعتبر القوة رقم واحد في المجال العسكري، والصناعة العسكرية الصينية لم تصل بعد الى مستوى نظيرتها الامريكية، فحتى من ناحية الانتشار العسكري حول العالم (القواعد العسكرية) لازالت بيكين لا تمتلك إلا عدد محدود من القواعد مقارنة بأمريكا، حيث تمتلك قاعدة عسكرية خارجية واحدة، في جيبوتي، لكن يُعتقد أنها تخطط لزيادة انتشارها العسكري مستقبلا، لإظهار نفسها كقوة عظمى عالمية.
ولهذا فالولايات المتحدة الأمريكية تخشى دائما من تحالف صيني- روسي في المجال العسكري والاقتصادي لتغطية النقص لدى الطرفين، روسيا لتغطية ضعفها الاقتصادي والمتفوقة فيه الصين، أما هذه الأخيرة ستحاول بكل تأكيد الاستفادة من روسيا وخبرتها الكبيرة من مجال الصناعات العسكرية.
إنّ التراجع الأمريكي اليوم أصبح حقيقة، وتوقعه العديد من المفكرين، أبرزهم زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، حيث أشار في كتابه « رؤية استراتيجية « حول ما يجب ان تتبعه أمريكا لكي تواجه تراجعها المحتوم، فحسب بريجنسكي فالولايات المتحدة مطالبة بأن تعمل على ترتيب أوضاعها الداخلية للتمكن من التفاعل الذكي مع التحديات الكثيرة وغيرالمسبوقة التي سيشهدها المجتمع الدولي وبالأخص الصعود الصيني، ويرى أن أهم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة تتمثل في: الديون (60% من الناتج المحلي)، والتفاوت الاجتماعي (1% يمتلكون 33,8% من الثروة القومية مقابل 50% من السكان يمتلكون 2,5% من الثروة القومية)، وفساد النزعةالمادية، ونظام مالي قائم على المضاربة الجشعة غير المقيدة، ونظام سياسي مستقطب، وجمهور أميركي لايعرف شيئًا عن العالم (75% منهم لا يعرف مكان إيران على الخريطة)، وهو ما يسهّل للسياسيين التلاعب به كما حدث في العديد من القضايا السياسية.