طباعة هذه الصفحة

أصداء عيد النّصر في الشّعر الجزائري الحديث

الدكتور عبد الله حمادي

 

 

 

رغم أنّ عيد النصر هو يوم التاسع عشر مارس عام 1962، إلا أن الشعب الجزائري أبى إلاّ أن يصرّ على تأجيل موعد «الفرحة الكبرى» ليوم آخر يحمل أكثر من معنى ويختزن أكثر من مغزى...

إنّه ببساطة اليوم الذي شهدت فيه الجزائر لحظة الانكسار والاستسلام المقيت؛ ورغم مرور السّنوات الطوال وحضور موعد الفرحة الكبرى إلا أن الذاكرة الشعبية الحبلى بالمواجع والمواسم لم تتمكّن من محو رواسب ذاك اليوم المشين لألق الجزائر وتوهّجها، وبالتالي فقد أجّل يوم الفرحة الكبرى ليوم قادم من رحم الأحزان الدفينة حتى يكون بمثابة المحو الأبدي لانتكاسة «الداي حسين» في الخامس من شهر جويلية من عام الدماء والدموع 1830؛ لذا قرّر الشّعب الجزائري العنيد أن يجعل من يوم الخنوع موعدا للرّفعة والتسامي، فكان التاسع عشر من مارس 1962 يحمل في رحمه خصوبة موعد اقتطاف سنابل النصر وبه - فقط - يكون الاندثار الأبدي لهشيم الجرح من وجه الجزائر.
إنّ التاسع عشر مارس إذن، هو يوم للثّأر أكثر منه يوم للفرحة، ولعلّ في مثل هذا التصميم العتيد وجه من وجوه إصرار الشعب الجزائري على اجتثاث الأنفاس المخنوقة في صميم كبرياء «الذات» الجزائرية المسكونة بروح المقاومة والتحدّي...لذا قال الشاعر محمد العيد آل خليفة:
قد جاء نصرك غاسلا للشّعب من   عار احتلال الأجنبي مُطهّرا (1)
إنهّا علامة من علامات البحث عن الكمال والتطاول على عاديات الزمان مهما جلّت قدرتها، بل قل هو الإصرار من أجل إدراك الكمال غير المنقوص أو المشوب بوصمة يوم المأساة..وما أمرَّها من كبوة!! لذا قال محمد العيد أيضا بمناسبة يوم النصر بلغة الانبهار:
وأعجب لشعب قام حيّا بعد ما     قد كان مذ قرن وثلث أُقبرا (2)
كل هذا، وغيره كثير، أجبر الجزائر أن تجعل من يوم مأساتها يوما لاحتضان النصر والتلفظ علانية بهتاف الحرية..إنّه يوم عربدة النفس الثائرة ساعة انتقامها من حرقة الكبوة وغصَّة النكوص، فكانت المسافة ما بين التاسع عشر مارس 1962 والخامس من شهر جويلية 1962 بمثابة جسر العبور من الزمن الغابر إلى الزمن القادم، الذي شاءت الجزائر بفضل نضالات أبنائها وتضحياتهم أن تجعل منه موعدا للفرحة الكبرى أو لفاتحة السعادة بلغة مالك حداد، وقد حُقَّ للشاعر أحمد سحنون أن يكون سبَّاقا في تخليد هذا اليوم، فخصَّه بقصيدة مطوّلة تحمل عنوان «بمناسبة إيقاف القتال»، ولعلَّها القصيدة الفريدة التي كرِّست لهذا اليوم الأغرّ مخاطبا إياه في أول فرصة تعقب وقف إطلاق النّار ليهتف مع الجموع التي انهمرت حناجرها مدوّية:
اليوم ينعم بال كلّ شهيــد      في خلده ويقيم أعظم عيـد
ويقول كلّ فدائي في حفـله       اليوم قد حطّمت كلّ قيودي
اليوم يفتخر الأمير بنســله       ويقول أبنائي وفّوا بعهـودي
وبنوا كما أبني وشادوا للعلا   مثلي، وزادوا في الفخار رصيدي
...والشّعب يهتف كلّه مستبشرا   يا فرحتي نضجت ثمار جهودي
فاسمع أغر قصائدي في عيدها   فبوحي ثورتها نظّمت قصيـدي(3)
إنّه الموعد الذي كان متأكّدا من قدومه شاعر كمالك حدَّاد في ثنايا ديوانه «الشَّقاء في خطر» حين تحدَّث بلغة العرَّاف قائلا:
...أنا متأكّد من ساعة الفرحة،
الفرحة ستكون في الجزائر؛
في تلك المداشر التي ستعرف ميلاد الأطفال،
الأطفال سيذهبون إلى المدارس؛
إنهَّا فاتحة السّعادة... (4)
    هذه الأنفاس الشّاعرة التي أجمعت على أنَّ يوم النصر أوشك أن يفقدها الكلام، وذلك على حدّ قول أحد الباحثين الذي تساءل أمام صمت الشعر إزاء عيد النصر ليخلص قائلا: «وإذا تساءلنا عن أصداء هذه الفرحة التاريخية في الشعر فربما استعرنا نفس الجواب الذي طرحناه بالنسبة لموقف الشعر من إعلان الثورة، وربما كان صمت الشعر في الاستقلال أعمق منه في الانطلاقة»(5)..وأنا بدوري أؤكّد هذا الرأي، رغم ضخامة الفرحة الجماهيرية العارمة وجلالة الحدث، والذي ربما أرغم فيه الشعر عن الصمت شأنه في ذلك شأن تلك العجوز الجزائرية التي تروى حكايتها في أريافنا العميقة وهي تجابه يوم النّصر بنوبة من البكاء الشديد، الذي لم تبك يوما مثله، فلما سئلت عن سبب بكائها وهي تشهد يوم النصر الموعود، وتذرع مع الذّراعين نكهته السارة أجابت بلغة براءة الأطفال وبطيبة القلب الجزائري المضرَّج بأهوال السنوات الاستعمارية: «لقد كنت طيلة أيام الثَّورة أنتظر يوم النَّصر ليعود لي ولدي المجاهد لكنَّني اليوم لم أعد أنتظر شيئا». ربّما كان هذا، وغيره، سببا في إرغام الشعر على التعطل في حضرة معجزة السلاح وما حققه ميدانيا، لذا لم يكن شاعر الثورة الكبرى والمحرّض عليها مفدي زكرياء مخطئا في نبوءته الشعرية. لقد أدرك بصوته المارد منذ الوهلة الأولى صعوبة فاتحة كتاب القصاص، وأدرك خطورة المطبّ الصعب فلهج بعد تمعُّنه الدقيق في رصاص الفاتح من نوفمبر 1954 ليؤكّد لازمته المدوّية:
نطق الرَّصاص فما يُباح كلام       وجرى القصاص فما يُتاح ملام(6)
وقبله ذكَّر بصعوبة المطبّ الشاعر محمد العيد آل خليفة حين قال وهو بصدد التذكير بمجازر الثامن ماي 1945 قائلا:
وتحوَّلت لغة التّخاطب بيننا       لغة بها جوُّ السّلاح تعكَّرا (7)
لقد خفت صوت الشّعر الجزائري في 19 مارس 1962 إلى حدّ ملفت رغم قداسة الحدث وتطلع الشعراء إليه، ذاك اليوم الذي أبسط ما يعرف به «أنه يوم النصر أو يوم ثمن الحرية الحمراء»، فأي عنفوان أزكى وأنقى من قدسية ذاك اليوم المبين!!
لكن ربما هناك ما يبرر رجفة الصمت، والذي قد يكون سببها اختفاء العديد من الأصوات التي كانت محرّضة على الفعل الثوري، وذلك إمَّا بفعل الاستشهاد أو بمفعول القمع والمنفى أو ربما بمفعول صدمة الابتهاج العارم ساعة معانقة النفس المشبوبة بموعد الفتنة..وكأنيّ بالشعر الجزائري في هذه المناسبة فضَّل لحظة الصمت البليغ أمام لحظة المطلق الرهيب واكتفى شاعر كمحمد العيد بالتَّعريج على يوم النصر وهو بصدد تعداد مظاهر البهجة أيام الاستقلال قائلا:
..يا يوم عيد النصر صفوك قد جلا  ما كان ران على القلوب وكدَّرا
ذكراك ملء القلب حاضــرة      هيهات أن تنـفكَّ عنه وتعبرا
أقررت أعيننا فكلّ مواطــن   لك هاتف يعلي الهتاف مكرّرا
فالشعب أجمع يحتفي بك راضيا  مستبشرا ويراك عيدا أكبرا(8)

يكفي الشعر الجزائري فخرا خلال السنوات النضالية الممتدة ما بين جمرة الاشتعال وبارقة النصر، أنه حثَّ الخطُى بحثا عن حقيقة جديدة لماهية الشعر، محاولا من خلالها الُمضيَّ بالشعر إلى أجواء مفعمة بالبطولة وحافلة بالخوارق التي تعجز أحيانا عن ترديدها لغة الإنشاد النارية. وقد قُدّر للشعر الجزائري كما قُدّر للمجاهدين أن يكونوا شهود عيان على هذا الفعل البطولي المهيب، الذي تحولت فيه الشهادة إلى معراج يخلّد آيات الذكر على مرأى ومسمع من الزَّمن الاستعماري المهزوم.    
هذا الحدث المهيب الذي تُوّج بيوم النصر كأمر واقع في التاسع عشر مارس من عام 1962، كان وحده كافيا ليجعل الجزائر في مثل هذا اليوم تمدُّ يدا للسلم وتحتفظ بالأخرى مشدودة إلى الزّناد، ولم تتّلهَّف تلهُُّّفَ القصارى على موعد إيقاف النار، ولم تتهافت تهافت الاستجداء المشوب بالتوسل، بل زحفت إلى هذا اليوم بأنفة الكبرياء وخطوة الواثق المقتدر الذي يستند إلى رصيد من التبصُّر والبصيرة التي حنكتها الخبرة الواعية وطول المراس العنيد وعراك السنوات المحمَّلة بالمعاناة والثبات...
كان يوم النصر سمة ضاق بمجملها الوجود، وكان في الوقت ذاته دمعة حرّى انسدلت من كل عين أبية أفزعتها صرخة شهيد وفقيد وهي تتوارى مخلّفة وراءها صدى لا ينقضي كان وقعه في مسمع يوم النصر، كفيلا بأن يحدث الرجفة والارتجاج، ويرسم الصدمة والخفوت في صوت الشعر الجزائري المتهدّج، وفي صوت الملايين من الجزائريين المتوثّبين للاحتفاء بالفرحة الكبرى بقلوب عارية وأياد مشرعة للأهازيج المدوية في المدن والأرياف..
كان يوما تجاوز مداه ليسع كل القلوب الإنسانية المتعطشة للفرحة والانتصار والتحرر..وكان أملا مشهودا أعاد البسمة إلى شفاه الأمة العربية الظامئة إلى نكهة البطولة التي افتقدتها منذ موقعتي «عين جالوت» و»حطين»، فكان على هذه الأمة الحبلى بالمفاخر أن تنتظر القرون الطوال لتحتفل من جديد «بيوم العروبة» الذي دشنته ملاحم البطولة في قمم «جرجرة» و»الأوراس»، وهو ما أشار إليه بالتلميح دون التّصريح الشاعر محمد العيد في قصيدته «تهنئة الجيش وتحية العلم» التي عرَّج فيها على ذكر يوم النصر وأبعاده الوطنية والقومية قائلا:
فيا أيّها الشّعب «الخليلي» محنة     تبارك مـن أنجاك من لهب الجمر
هنيئا لك النّصر المبين فقد بدت   طلائعـه مثـل التباشير في الفـجر
وعاودك الحظ السعيد فعش به    سعيدا مجيـدا بالفدى طيّب الذّكر
وقافلة استقلالنا مستمــرّة     على السّير للأهداف في السّهل والوعر
ومغربنا الحرُّ الكبير موحَّـد      مع العَرَب الأحرار في كنف اليسـر(9)
كان حدثا، وكان موعدا، وكان نقلة نوعية نحو الأمل المتجدّد والعريض بعد طول انتظار واصطبار، لذا فيوم النصر الذي تخلده الجزائر في كل سنة هو بمثابة الصفحة المتجدّدة التي تضيف في كل مرة الوثب والانطلاق إلى سجل المفاخر..إنّه يوم مشاع لكل النفوس المقهورة بجبروت الاستعلاء حيث ما كان، وبغطرسة القمع الاستعماري البغيض، لذا كان يوم النصر بالجزائر كفيلا بأن يجيز للشعر أن يركن - ولو للحظات - إلى استراحة المقاتل المرهق بعد عناد المراس..إنّها ربما لحظة الخشوع والوجود والصمت الرهيب الذي شاءت الأقدار أن تجعل من هذا اليوم يختلط فيه دويُّ الرصاص الغادر الموجه إلى صدور الجزائريين من طرف زبانية المنظمة السرية الإرهابية الاستعمارية بزغاريد الاحتفال بيوم النصر...لكن رغم هذا الحيف وحقد الاستعمار البغيض، فإن صوت الشعر لم ينضب فها هو شاعر سيرتا المنسي أحمد الغوالمي، والذي لا يزال إلى يومنا هذا مخبوءا في صمته ينشد أول قصيدة تبشّر الشعب الجزائري بميلاد فجر جديد قائلا:
هلمَّ افرحي واستبشري يا جزائر    فشعبك بالبُشرى العظيمة طائر
هلمَّ افرحي يا أمّـة عـربـية      لتحريرك الميمون تهدى البشائر
نرحم بالذكرى على شهدائـنا     تمجدهم أفـواهنا والضمائر
أقيمي لهم ذكرى الوفاء لعهدهم     فعهـدهمو نبراسنـا يا جزائر
لدين علينا بعـدهم سنفي بهم لهـم ذكريات زاخرات بهائر
لقد  هزموا مستعمرا متحيـرا  أذل الحمى ما مثلها الدهر جرائر
لقد رفعوا شعبا  وذادوا  جريرة    فما مثلها في العالمين جرائـر
مضت حجج سبع وخمسة أشهر     وجيشـك شاك للسلاح وثائر(10)
هكذا يلهج أول صوت شعري بموعد الفرحة الكبرى مسميا الأشياء بمسمياتها ومعددا سنوات النضال يوما فيوما وسنة فسنة وشهرا فشهرا...إنها الدقة الواقعية التي علَّمت الثورة المشاعر كيف تصوغها، دون أن ينسى الشاعر في خضمّ الابتهاج انتماء الجزائر العربي...وبعد هذا التقديم الافتتاحي يوجّه الشاعر التهاني إلى الشعب بمناسبة عيد انتصاره فيخاطب الشعب الأبي من خلال الجزائر المحفوفة بمهابة النصر والمتوجة بإكليل البطولة قائلا:
هلمي انشدي أنشودة المجد والعلا    يموت عدو مستبـد وجائر
ويحيا كفاح الشعب في كل ساحة       ويحيا جهاد للتقدم سائر
فمن شاء فليسرع، ومن شاء فليقف     فإن دُوار الفلك لابدَّ دائر
فنحـن له في الهاديات مراجـم         ونحن له في النَّازلات خفائر
سلام على كلّ الضحايا برمسهم        فإنهــمو للعلمين ضمائر
سلام على جيش شجاع وجبهة        فإنهـما للعالمين منــائر
سلام على الشعب المكافح إنـه        بفرحته الكبرى لا شك طائر(11)
إنه المتلفظ الأول بعبارة «الفرحة الكبرى» لأن يوم النصر، يوم بحجم آلام وآمال الجزائر، إنه سجل المفاخر والمظالم التي فرح بها الشعب بفضل جيشه الشعبي وجبهته العتيدة منشدا أنشودة المجد والعلا..لا شك أن في عبارات الشاعر نتلمس تحية إكبار لأولئك الذين رفعوا راية الجزائر فوق هام السهى وبروج السعود، أولئك الذين كتبوا بأدمع ودماء ملاحم مجاهد وشهيد مؤرخين لها كما يقول الشاعر «بطه هاد وطوبى لجهاد حر ونصر مجيد»، فأي معنى من المعاني أدق من انتقاء لعبقري حر شهيد! إنهم أبطال الشاعر الذين استحضر مشهدهم وقاماتهم في يوم النصر، وقد زرعوا من الشهامة حقلا أخصب في الذرى والنجود سنابل كانبلاج الضياء فوق مربع ونجود..وكم..وكم من أبي رتل الذكر حولها بالآلي وبالنشيد...
لقد كانت ثورة عارمة لم تنس الشاعر، وهو عراف زمانه أن يرسم لها طرقات المستقبل بما ألهمته فخاطب الحشود من قاص ودان:
هلموا إليها واستجـدوا حـياتها      فليس لها غيـر الجديد ذخائر
وليس لها غـير الحضارة ثـورة     على أرضها تجبـى المنى لا الثوائر
بواكـر أعمال وإنهاض أمــة     على أرضها المخصاب تحلو البكائر
ترفـرف رايات عليك جميــلة     تقلبها باللثـم حـتى المنابـر
وتطفح بالبشرى سرورا وغبطـة     بفـوزك أحرار لنا وحـرائـر
وتصدق في حب الجـزائر كلها     مدى الدهر أقوال لنا وسرائر
وتخصب أرياف فسـاح  سهوبها  وتغزر أرباح بها لا خسائـر
وتثمر أشجار ويملـد غصنـها     وتخضر ساحات وتزكو غضائر
ويزدهر العمران في كــل بقعة     لها في المغازي الخالدات موائر
ويحتضن  التعليم  كل ربــوعها      تنـور ألباب بـه وبصائــر
تدير السياسات الرشيـدة شعبها         تؤلف ما بين القلوب المصائر
تعم الصناعات المفيـدة دورها       على منهج التجديد تبنى الحظائر
وتكسو الحضارات الجديدة أرضها    وتكثر أنصار بها  ونصائـر (12)
لا أدري ما إذا كانت نبوءة الشاعر قد تحققت أو ما تزال مشروعا يعِد بحسن الإصغاء إلى ضمير الثورة والتيمن بعتباتها ورموزها حتى يتحقق ما بشر به الشاعر العراف، وهو يعدد المفاتن التي ستنجلي على أعقاب الفرحة، فرحة انتصار الإرادة على التردد..إنها إرادة الجزائر التي عهدها ابن باديس «عاتية على الرومان والوندال، لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسحها الأيام نوائبها..رغم ما لحقها من تشويه وتصوير لجميع عصورها بأقبح الصور في الكتب التي تدرس في المكاتب الفرنسية..يا للبلية، يا للحسرة لأبنائنا! إن جنايات الاستعمار الأوربي على البشرية أن قلب حقائق التاريخ على الناس، فقد صور الأمم التي ابتليت به وأصيبت بشره بصورة من الهمجية والوحشية والتأخر والانحطاط لا أبشع منها ذلك ليبرر استيلاءه عليها»(13). ونقول بدورنا لقد نسي المستعمر أن الوطن هو تاريخ الوطن، ولا حياة لأمة إلا بإحياء ماضيها..والجزائري مهما جلت عظمة المصائر فإنه اعتاد أن يعيش دائما في الخطر ويقذف بنفسه إلى أرض الحرائق على حد تعبير هيمنغواي وذلك حتى لا تمطر سماء الجزائر جبنا وخورا ورعونة. إن الجزائري بفضل مراسه المرير سيظل جديدا ومتجددا ومجددا لأنه متصلب في دينه ومبادئه مهما بلغت الجهالة والفقر ،على حد تعبير الشيخ البشير الإبراهيمي ..(14). لذا لم يكن مخطئا الروائي السوري صاحب رواية «وليمة لأعشاب البحر» حين قال في إحدى إفضاءاته التي تحمل عنوان «شهادة عن الحياة والكتابة والموت» والمنشورة في مجلة «العربي الكويتية» في شهر نوفمبر 1999، قائلا عن معايشته لآمال وآلام الجزائر بعد أن خبرها من الأعماق وكانت ملهمته في روايته المذكورة آنفا: «...سنوات الجزائر كانت سنوات المكابدة والغربة الداخلية. الجزائري قاس وطفل في آن. من الصعب تشييد علاقة معه لأنه حذر وشكاك بالآخر غير الجزائري. سنوات الحرب القاسية حولت قلبه إلى صخر كتيم لكن روحه العميقة احتفظت ببراءتها الطفولية. العنف الأفريقي عبر الإنسان الجزائري هو عنف الدفاع عن الذات المهددة من الخارج»(15).
 هذه شهادة معايشة ومعاينة من توقيع إحساس مرهف يعي كنه المكان وفعل الزمان قد نتفق معه أو لا نتفق. نقول فبالرغم من القلب الصخري الذي يميز الجزائري لكنه أبى إلا أن يتفجر براءة وطفولة وعنفا وشراسة حفاظا عن الكينونة المستهدفة من الداخل أو الخارج إنه كما يصف مصيره الشاعر أحمد الغوالمي:
كتب الوجـود بأنـك العملاق  يا شعب إنك للعلا سباق
الله أكــبر فالجـزائر حــرة   كل الشعوب لمجدها عشاق
ليست «بعبد القادر» البطل انقضت   ثورات شعب لفه استشراق
إن الفتوح تتابعـت شعبيــة     النصر فوق جبينها براق
قرآننا حلـو المذاق ومعجــز     لم تحل دون مذاقه أذواق
الشعب يأبى أن يضام لسانـه      أو أن يجوس دياره مراق
أذكى نفمـبر شعلة قدسيـة       كم عجلت بوصلها الأشواق
وطني أحبك صاعدا متسنـما         أوج الرقي يزينك الإشراق
شهداء تحريـر الجزائر هـم لها          شمس وبدر ما عراه محاق
سيخلد التاريخ أطيب عنصـر        زخرت به الآيات والأخلاق
كل له مجـد يصـون فخاره      شعب تفي بوفائه الأعراق
الله أكـبر والخلـود لأمـة          شهدت بنبل نضالها الأفاق(16)

مراجع البحث:
محمد العيد آل خليفة: ديوان..المؤسسة الوطنية للكتاب. ط3...ص: 440.
محمد العيد آل خليفة: ديوان..المؤسسة الوطنية للكتاب. ط3 ص: 444.
أحمد سحنون: ديوان..الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر..1977. ص: 85.
مالك حداد: الشقاء في خطر «ديوان»...ص: 47.
د.صالح خرفي: الشعر الجزائري الحديث. المؤسسة الوطنية للكتاب. الجزائر. 1984. ص: 271.
مفدي زكرياء: اللهب المقدس…ص: 42.
محمد العيد: ديوان. ص: 444.
محمد العيد: ديوان. ص: 446.
محمد العيد: ديوان. ص: 434.
أحمد الغوالمي: ديوان مخطوط.. ص: 76.
محمد العيد: ديوان. ص: 77.
محمد العيد: ديوان. ص: 77.
عبد الحميد بن باديس: الشهاب. مارس 1934.
الشيخ البشير الإبراهيمي: موقف الجمعية من الإلحاد ..سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين: ص: 62- 63.
مجلة العربي. الكويت. عدد نوفمبر 1999.
أحمد الغوالمي: ديوان مخطوط. ص: 124-125.