طباعة هذه الصفحة

بدائل إلاستراتيجية الخارجية الأمريكية

الأولوية لمحاربة الارهاب بدلا من المغامرات العسكرية

جمال أوكيلي

شدّ الخطاب المطوّل الذي ألقاه الرّئيس الأمريكي باراك أوباما بالمدرسة الحربية للمشاة “واست بونت” حول السياسة الخارجية لبلاده، انتباه المتتبّعين نظرا لما تضمّنه من توجّهات جديدة إزاء الملفات الدولية السّاخنة كالتدخلات العسكرية، محاربة الارهاب، أوكرانيا، سوريا، أفغانستان ومسائل أخرى.

وحملت هذه الرؤية جرأة سياسية حاسمة في إحداث ذلك التحول في مفهوم أو مبادئ نشاط الولايات المتحدة خارج حدودها، ونعني بذلك الانتقال من تلك المكوّنات التّقليدية المعروفة المتولّدة عن الحرب العالمية الثانية، والمعروفة أساسا بـ “سياسة ملء الفراغ”، أي الذهاب إلى أبعد نقطة من أمريكا من أجل حماية الأمن القومي وإلحاق الأذى بما كان يسمّى “بالمدّ الشّيوعي”، الذي اعتبر في تلك الفترة من العوامل المهدّدة للنموذج الغربي.
وإزاء عنفوان هذا التدخل العسكري الأمريكي مع احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وهذا بغلق كل المنافذ أمام الوجود السوفياتي في القارات بإعطاء المبادرة لوكالة المخابرات”CIA” بتدبير الانقلابات والاغتيالات مثلما ما حدث مع مصدق في إيران، وأليندي في الشيلي، والقائمة طويلة لا تعد ولا تحصى.
بسقوط جدار برلين تغيّرت المعطيات رأسا على عقب، وهذا بالشّروع في تفتيت الاتحاد السوفياتي وأخذ جمهورياته صفة بلدان كاملة العضوية في المجموعة الدولية، امتصها الاتحاد الأوروبي الذي يضم حاليا قرابة ٢٧ بلدا، ومنحها الغطاء السياسي والعسكري من قبل الحلف الأطلسي والولايات المتحدة، وأحداث أوكرانيا خير دليل على ذلك اليوم.
والفترات الأكثر تأثيرا في السياسة الخارجية الأمريكية هي تلك التي أشرف عليها كل من الرئيسين نيكسون وبوش وبدرجة أقل ريغن، كما يسجّل الملاحظون ما قام به كيسنجر في تلك الفترة. هذه الشخصيات كانت عقيدتها “القوة ثم القوة” سواء في الفيتنام أو العراق أو ليبيا الاعتداء على إقامة القذافي “دار العزيزية” وغيرها من الأعمال العدوانية ضد الشعوب التواقة إلى الحرية.
أوباما في خطابه الأخير أبدى رفضه المطلق لهذا المنطق المبني على التدخلات العسكرية، التي وصفها بالمغامرات المتسرّعة التي أضرّت كثيرا بأمريكا وسبّبت لها متاعب كبيرة.
وفي هذا الصّدد، قرّر الابقاء على ٩٨٠٠ رجل في أفغانستان مع الانسحاب الكلي في ٢٠١٦. وبالتوازي مع ذلك اقترح تخصيص ٥ ملايير دولار لإنشاء صندوق لمحاربة الارهاب، ولأول وهلة يتّضح بأنّ أوباما أمام خيارين، إمّا أن يتمادى في ما تركه له أسلافه، أي من سبقوه إلـى البيت الأبيض تولي مهمة “دركي العالم”  واستعمال سياسة العصا الغليظة، وؤما أن يبني “البديل الجديد” ألا وهو مكافحة الارهاب بعدما تبين بأن الخيار الأول لا فائدة من ورائه.
وفي هذا السياق، قال بأنّه يرفض إرسال جنوده ألى سوريا بعدما اشتد النّزاع بشكل حاد، معتبرا قراره بالصّائب،  وهذا في حدّ ذاته قناعة عميقة لدى أوباما بتفادي التدخل العسكري، وهي بداية توجّه جديد في السياسة الخارجية .. حلّت محله محاربة الارهاب، هذا ما يفهم ممّا قاله الرئيس الأمريكي.
ويدرك الأمريكيون أنّ شعوب العالم ترفض التدخلات العسكرية من أجل إسقاط أو الاطاحة بأنظمة معينة، لكنها لا تلمس نفس الموقف حيال ضرب الارهاب ودكّ معاقله. هذه المقاربة هي التي ستعطى لها الأولوية على ضوء ما ورد في محتوي خطاب أوباما، بالرغم من انتقاده الشّديد لما أسماهم بدعاة “العزلة” والتدخل، وشعوره الأقوى بالأحكام الصادرة عن عمل الديبلوماسية الأمريكية، والتي مفادها أنّها متردّدة وعاجزة عن اتّخاذ القرار في ذورته.
وقد انطلق أوباما من هذه القراءات السياسية والخلفيات الاستراتيجية في الرد على كل من يبدي تحفّظات تجاه السياسة الخارجية الأمريكية، كان آخرها تصريح وزير الشؤون الخارجية الفرنسي فابيوس، الذي قال صراحة أنّ التّراجع الأمريكي في توجيه ضربة عسكرية لسوريا هو الذي أدّى إلى كل هذه الأوضاع المعقّدة التي دخلها النّزاع.
وفي نفس السياق، أثار الرئيس الأمريكي أحداث أوكرانيا  والموقف الروسي منها، وكذلك التحركات الصينية ضد ما أسماه بحلفاء الولايات المتحدة في آسيا، وهذا اعتراف ضمني بأنّ أمريكا لا تلعب وحدها في هذا الفضاء وإنما هناك روسيا والصين. وهذه إشارة لما هو قادم في إعادة صياغة مسار العلاقات الدولية وفق نظرة مغايرة تماما لما يحدث اليوم، أي احتكار القرار الدولي من قبل قطب واحد ظهر مباشرة بعد سقوط جدار برلين، وانكماش العديد من الدول التي كان لها تأثير مباشر في هذه العلاقات.
وبهذا تكون الولايات المتّحدة قد تخلّصت من كل أعباء المغامرات العسكرية، ونقصد بذلك التدخلات التي كلّفتها ماديا وبشريا نقطة انطلاقها هو الانسحاب من أفغانستان في ٢٠١٦ لتلتفت إلى مسألة حسّاسة جدا، ألا وهي محاربة الارهاب وملاحقة قيادات وعناصر القاعدة.