طباعة هذه الصفحة

مسيرة أوّل رياضي مثّل الجزائر في الأولمبياد

محمد يماني..أسطورة خلّدها التّاريخ رغم المعاناة

محمد فوزي بقاص

يتميّز بتواضعه وطابعه الهادئ، يعرف برشاقته الكبيرة، إنّه الجمبازي السّابق محمد يماني، رياضي أدهش المدرّبين منذ نعومة أظافره، تخطّى العقبات وتحدّى كل الصعاب، توّج بطلا في الحقبة الاستعمارية لرياضة كانت حكرا على الفرنسيّين، لقب قاده للمشاركة في بطولة فرنسا التي لفت بها كل الأنظار وضمن بها الاحتراف صغيرا، قدر مكّنه من صقل موهبته وخطف لقب بطولة فرنسا، أبهر بمهاراته البدنية العالية التي جعلته يتفوّق على الفرنسيين. محمد يماني هو أوّل رياضي جزائري يشارك في الألعاب الأولمبية للجزائر المستقلة عام 1964 بطوكيو، بطل الجمباز الفني المعروف باسم «لزهاري»، الذي أفنى عمره في خدمة الجمباز والرياضة الجزائرية.

كان الجمباز الفني اختصاصا رياضيا حكرا على المعمّرين في الحقبة الاستعمارية، لكن ذلك لم يكن عائقا في وجه محمد يماني من أجل ولوج رياضة الجمباز، التي لم تكن تستقطب الجزائريين في تلك الفترة التي كانت ولا تزال كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية فيها، اختار أصعب اختصاص متمثل في الجمباز الفني الذي يحتوي على 12 تخصصا، لكنه عرف بترويضه المميز لآلة الحصان لقوة ذراعيه، ما مكّنه من البقاء في المستوى العالي لسنوات.
ينحدر محمد يماني من عائلة متواضعة بولاية الجزائر، هو الابن الخامس لعائلة مشكّلة من 12 طفلا، رأى النور بتاريخ 28 أفريل 1938 بحي «فيلاج طليان» بأعالي العاصمة المتواجد بالسيدة الإفريقية، درس في ابتدائية ومتوسطة مسقط رأسه بالقرب من كنيسة السيدة الإفريقية المطلة على خليج الجزائر، كان تلميذا نجيبا وهو ما جعله يتفوّق على أقرانه، الأمر الذي سمح له من الانتقال للدراسة بالثانوية التقنية بالعناصر.

 قرار والده غيّر مسار حياته

خطواته الأولى في عالم الرياضة كانت في سن الـ 14، بعدما انزعج والده من نحافة جسمه وطالب أخاه الأكبر بتسجيله في أحد التخصصات الرياضية ليطور جسمه ويحسن مظهره الخارجي، وقال يماني بهذا الخصوص لـ «الشعب ويكاند»، «والدي الذي لم تكن له أية علاقة بالرياضة قيل له بأن الأخيرة تساهم في تطوير البدن».
وأضاف «بما أنّي كنت نحيفا منذ الصّغر وهذا الأمر كان يزعجه كثيرا، طالب من أخي الأكبر الذي كان يمارس رياضة رفع الأثقال، تسجيلي في أحد الجمعيات الرياضية لممارسة الرياضة»، قرار غيّر حياة الطفل يماني الذي لم يكن له أي اهتمام أو ميول رياضي في تلك الفترة.
تلبية لقرار والده، اصطحب العربي أخيه الأصغر محمد إلى قاعة التدريب التي كانت متواجدة تحت ثانوية «بيجو» آنذاك التي تحمل حاليا اسم ثانوية الأمير عبد القادر المتواجدة بحي باب الوادي العتيق، وقال بهذا الشأن «أول ما شد انتباهي مجموعة من الأطفال يقفزون على آلة الحصان ويقومون بحركات تفاعلت معها، وقتها لم أكن أعرف حتى تسمية تلك الرياضة التي غيّرت حياتي، وجعلتني أطوف العالم سنوات بعد ذلك».
يماني الطفل النجيب المثقف دخل عالم الرياضة دون أي طموح، حيث كان يتدرّب بمعدل حصتين في الأسبوع في بداياته مع فريقه، تدريبات كانت تقتصر على الحفاظ على التوازن والمشي على الأيدي.
مع مرور الأيام ارتفع اهتمامه برياضة الجمباز أكثر فأكثر، لكنه اصطدم بواقع قلة خبرة مدربيه، الذين كانوا مجرد رياضيين هواة بعيدين كل البعد عن الجمباز العصري، أين لقّنوه أبجديات اللعبة وما اكتسبوه من خبرة، وهو ما جعل يماني يرفع تحدي العمل رفقة مجموعة من الرياضيين الجزائريين، لمحاولة تجسيد حركات صعبة واكتساب معارف جديدة، تحد كان بمثابة أولى منافساته الرسمية التي ساعدته على التميز والانفراد على جيله.

أوّل منافسة وأوّل لقب

في يوم من الأيام، اقترح على مروّض الحصان المشاركة في بطولة صنف الأواسط التي كانت مقررة بحسين داي، وهو الأمر الذي وافق عليه بعدما طغى على تدريباته الملل لقلة احترافية من كان يتتلمذ على أيديهم، وقال «يوم المنافسة كنت منبهرا من عدد الرياضيين ومن الأجواء السائدة، خضت العديد من المسابقات بعدها في مشواري لكنها بالنسبة لي كانت الأجمل».
وتابع حديثه «كانت الأولى وتمكّنت خلالها من نيل لقب البطل في أول منافسة رسمية، منافسة جسّدت انطلاقتي الفعلية في رياضة الجمباز».
مباشرة بعد نهاية المنافسة، طُلب من بطل الأواسط رفع حجم تدريباته من حصتين إلى أربع حصص، بعدما تيقّنوا أنه يملك إمكانيات لا يستهان بها للذهاب بعيدا في رياضة الجمباز، قرار جعله يتدرب تارة مع المجموعة، وتارة أخرى بمفرده للرفع من جاهزيته البدنية ومرونته مع الأجهزة وكذا تحسين أدائه وسرعته، رغم قلة الإمكانيات في قاعة التدريب، لكنه كان دائما ما يتسلّح بالشجاعة لبلوغ القمة.
تدريبات مكثّفة ومتواصلة سمحت له من التحضير جيدا للمشاركة في ثاني منافسة له في مشواره الرياضي في صنف الآمال، وكانت عنوانا لخطف لقبه الثاني، وتحدث بهذا الشأن «نلت لقب بطولة الآمال، وذلك اللقب فتح لي الأبواب للمشاركة في بطولة فرنسا بمدينة إيفيان».
اكتشاف المستوى العالي
بعد أخذ ورد، تلقّى يماني الضوء الأخضر للمشاركة في المنافسة، ونال تذكرة الباخرة التي جسّدت أحلام الصبا، تذكرة كانت الأقل تكلفة ورمت به في الطابق السفلي، حارمة إياه حتى من وجبة ساخنة تدفئ ليلته البادرة، وبعد 24 ساعة من الإبحار رست الباخرة في ميناء مرسيليا.
لم تنته معاناته مع السفر بوصوله مرسيليا، ووجهته المقبلة كانت مدينة إيفيان عبر القطار، قطار امتطاه من محطة سان شارل، ليحط أخيرا الرحال بالفندق، أين تمكّن أخيرا من تناول وجبة العشاء، والخلود للنوم بعد مغبة السفر بحرا وبرا، ليلة طالت وكادت تحرمه من المشاركة في المنافسة، بعدما وجد نفسه وحيدا في الفندق في اليوم الموالي، مخاوف يماني بالإقصاء سرعان ما تبدّدت بعد وصوله قاعة المنافسة، والتأكد من أن دوره لم يحن بعد للوقوف على البساط.
رغم صغر سنه والتعب الشديد الذي نال منه جراء السفرية الشاقة، إلا أن يماني اضطر مجددا لرفع تحدّ جديد، بعدما وجد نفسه وحيدا تائها وسط عدد معتبر من الرياضيين المرفوقين بأطقمهم الفنية ومسيري فرقهم، وقال «لاحظ مدرب اسمه ريمون دوت أني أجلس وحيدا، واستفسر عن وضعيتي وهنا  رويت له قصتي، قصة أثّرت فيه كثيرا وجعلته يأمر رياضيي الجمعية الرياضية لبيتو بالتكفل بي، وهو الأمر الذي حفّزني وأدخلني مباشرة في المنافسة».
وأضاف «نهاية المنافسة كانت سعيدة، حيث وجدت نفسي خامس أفضل رياضي آمال في فرنسا، صراحة اندهشت من النتائج التي تحصّلت عليها، خصوصا لما وقفت على كل الإمكانيات التي كانت متوفرة هناك في القاعة، التي شاهدتها لأول مرة».

 لقب البطولة مع الأكابر

منافسة لم يكن ليشارك فيها يماني لولا إصرار بعض مسؤولي اتحادية الجمباز على تنقله إلى إيفيان للمشاركة في بطولة فرنسا للآمال، حيث علم من أحد أعضاء الهيئة التقنية للاتحادية بعد استقلال الجزائر، أن جلب موافقة مشاركته في بطولة فرنسا استعصى عليهم، بسبب رفض بعض الأعضاء المعروفين بتشدّدهم وتعصّبهم وعدوانهم على كل ما يمثل الجزائر والجزائريين.
ابن بولوغين عاد للجزائر بعد بطولة فرنسا للآمال وواصل العمل بجد وحزم، شارك في عدة منافسات بالجزائر آخرها كانت أول مسابقة له بصنف الأكابر توج فيها بطلا، لقب جديد كرس هيمنته على كل المنافسات، وأعادت بعث اسمه من جديد لكن هذه المرة من بوابة المنتخب الفرنسي، أين التحق به في المعهد الفرنسي للرياضة بباريس وعمره لم يتعدى العشرين عاما.

بلوغ القمّة لم ينسه جزائريّته

تعاقد مع فريق بلدية «بيتو» للمشاركة في المنافسات المحلية بفرنسا، أين خطف لقب كأس فرنسا حسب الفرق في ثلاث مناسبات، ليأتي موعد أولمبياد 1960، الذي قال عنه «بكل صراحة مشاركتي الأولى في الأولمبياد لم تبق راسخة في ذاكرتي».
وتابع قائلا «واصلت العمل لنيل التتويجات وأنهيت البطولة الفرنسية للأكابر في المركز الرابع، وفي العام الموالي ارتقيت للوصافة، والذي بعده توجت بطلا لفرنسا سنة 1962، تتويج جاء رغم معاناتي من إصابة على مستوى الصدر أبعدتني عن المنافسة طيلة شهر بأكمله».
يماني شعر أنّ الكثير من الأمور تغيّرت في محيطه، بعدما صنع المفاجأة وتمكّن من التحليق عاليا في سماء البطولة الفرنسية التي تربّع على عرشها، تغيير جاء في الحفل التكريمي الذي أقيم على شرفه، أين طالب منه رئيس فريق «بيتو» الجلوس بجانبه كونه أضحى النجم الأول للفريق، رغم الأسماء الثقيلة التي كانت تتدرب معه، تتويج احتكر به الواجهة في الإعلام الفرنسي.   ورغم ذلك فقد اختار يماني الجزائر التي عاد إليها حيث أن عودته تزامنت مع تأسيس اللجنة الأولمبية الجزائرية والاتحادية الجزائرية للجمباز، أشهر قليلة قبل أولمبياد طوكيو 1964.
تأسيس اللجنة الأولمبية دفع المؤسّسين في مقدمتهم مصطفى العرفاوي الأمين العام، للتساؤل عن هوية الرياضي الذي سيمثل الجزائر في الأولمبياد، ليأتي الخبر اليقين من محمد عبد الحميد أول رئيس اتحادية جزائرية للجمباز، الذي أبلغهم أن هناك رياضي بطل فرنسا متواجد في الجزائر وكان يحضر للمشاركة في الأولمبياد، وهو ما ساهم في اختياره لتمثيل الجزائر في أكبر محفل رياضي.
 تمثيل الألوان الوطنية..
تمثيل يماني للجزائر في الألعاب الأولمبية يبقى محطّة مهمة في مسيرته الشخصية، حيث أوضح بهذا الشأن «حلم أي رياضي في العالم هو المشاركة في الأولمبياد، وكان لي الشرف أن أشارك في 10 طبعات كاملة، اثنان منها رياضيا، والبقية مسيرا في الاتحادية الجزائرية والاتحاد الدولي للعبة الذي كنت عضوا به لمدة 23 سنة، لكن الأفضل تلك التي نلت فيها شرف تمثيل الألوان الوطنية».
وأضاف قائلا «عند وصولنا إلى طوكيو بعد رحلة ماراطونية دامت «دهرا كاملا»، نقلت إلى القرية الأولمبية وكنت الجزائري الوحيد، ويومها اكتشف العالم الظاهرة الجديدة للجزائر».
وتحدّث باستبسال «عندما شاهدوا اللوحة مكتوب عليها الجزائر والعلم الوطني، تساءلوا عن موقع هذا البلد، وتحوّلت من رياضي إلى سفير جزائري في الألعاب، وناطقا رسميا للتعريف ببلدنا في القرية الأولمبية».
خبر انتشر بسرعة البرق، وجعل رجال الإعلام اليابانيين والأجانب يصطفون أمام مكان إقامة يماني لإجراء مقابلات صحفية معه، أين عمل على التحدث عن الثورة التحريرية المجيدة واستقلال الجزائر بعد استشهاد مليون ونصف المليون شهيد.
ابن العاصمة عبّر عن سعادته الكبيرة بمشاهدة العلم الوطني يرفرف في القرية الأولمبية، موضّحا بأنّ يوم الافتتاح كان تاريخيا وأشعره بفخر كبير، «في الملعب الأولمبي تيقّنت أن الفرد لا قيمة له مقارنة بالبلد الذي يمثله، وكم كنت سعيدا بكوني أول حامل للعلم الجزائري في الأولمبياد، وهنا بدأ الضغط يرتفع لأنّي شعرت بثقل وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقي في هذه المشاركة».
البطل الجزائري مرة أخرى عانى من مشكل غياب المدرب إثر تنقله لطوكيو، وتدرب وحيدا طيلة مدة الإقامة هناك، ورغم ذلك تمكن من تمثيل الجزائر جيدا في أكبر محفل رياضي عالمي.

نال احترام الهيئات الدولية

قرّر يماني «تعليق» مسيرته الرياضية شهر ديسمبر 1964، وتحول لعالم التدريب لكنه صدم بمستوى الراتب الذي منح له ووصفه بالمخزي، خصوصا بعدما تم التحايل عليه في تفاصيل عقده، بطل الجمباز الجزائري عاش وضعية اجتماعية معقدة إلى غاية انتخابه رئيسا للاتحاد الإفريقي سنة 1975 الذي عمل به طيلة 23 سنة، المدة التي شغل بها عضوية الاتحادية الدولية للجمباز، وقال بهذا الصدد «الهيئات الدولية كانت تحترمني وتحترم عملي وفي الجزائر كان يقال لي بأنه ليس لدي المستوى لتولي المناصب».
يماني شرّف الجزائر دوليا وساهم في جلب منافسات دولية للجزائر آخرها كانت كأس العالم، وتمّ تعيينه من قبل الهيئة الدولية مسؤولا عن التنظيم الذي كان مثاليا بشهادة رئيس الاتحاد الدولي للعبة، بطولة اختتمت بإقامة الجمعية العامة الانتخابية للاتحاد الإفريقي، التي كانت أفضل جمعية عامة انتخابية في تاريخ الهيئة القارية بشهادة الأعضاء الحاضرين، جمعية لم تقتد بها الاتحادات الرياضية واللجنة الأولمبية الجزائرية حسبه، «تركت منصبي وغادرت من الباب الواسع، وخلفني علي زعتر الذي عمل معي منذ البداية أمينا عاما للاتحاد الإفريقي للجمباز».
وواصل «عملية تسليم المهام تمّت باحترام بين الرئيس القديم والجديد، بين المسؤول المتقدم في السن والشاب وخاصة بين جزائريين».

كتاب عن مسيرته

أوّل رياضي حمل العلم الوطني في الأولمبياد، بصدد التحضير لكتاب يروي فيه مسيرته، سيكون موثقا بالصور منذ أول منافسة خاضها هنا بالجزائر إلى آخر منافسة في مشواره بتونس في ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي أنهاها في المركز الخامس، كتاب دوّن كلماته الأولى سنة 1990.
يماني ورغم تقدّمه في السن إلا أنه لا يزال يحصد الألقاب الشخصية، حيث نال وسام الشمس المشرقة، من قبل السفير الياباني بالجزائر، وأصبحت مواطنا يابانيا شرفيا.
الجزائر وعن طريق يماني مرّت من المشاركة التمثيلية إلى المشاركة النوعية، حيث يقارب عدد الأولمبيين 500 رياضي مثلوا الراية الوطنية، ومنهم من رصع مشاركته بميدالية من مختلف المعادن، ولم تقتصر على الذكور فقط، بل هناك ثلاث إناث نلن شرف دخول تاريخ الرياضة الجزائرية من بابها الواسع، فهل سيكون سجل مشاركة الصائفة المقبلة مثمرا؟