يقزّم البروفيسور في التاريخ محمد لحسن زغيدي، تقرير المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا حول الإستعمار الفرنسي في الجزائر والمتضمن 22 نقطة، ويعتبره لا حدث بالنسبة للجزائر، بل يكرّس سياسة الساسة الفرنسيين المتداولين على كرسي الإليزيه، بداية من شارل ديغول وصولا إلى أمانويل ماكرون.
ويعتبر في حديث مع جريدة «الشعب»، تصريح الرئاسة الفرنسية الأخير بعدم اعتذار باريس عن ماضيها وجرائمها الشنعاء في الجزائر، تصريحا غير ودّي وغير مقبول وغير تفاؤلي لبناء علاقات مستقبلية بين الشعبين والبلدين، من باب أن الاعتذار مطلب الجيل الحالي من الجزائريين، ويكون أمام الشعب الجزائري والعالم ككل.
«الشعب»: أثار تقرير المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا حول الإستعمار الفرنسي في الجزائر «ضجّة»، وصلت حد وصفه بأنه منحاز للطرف الفرنسي وفارغ من محتواه التاريخي الحقيقي، ما هي قراءتكم لهذا التقرير؟
لحسن زغيدي: أولا قراءتنا للتقرير الذي قدمه المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا لرئيسه، هو تقرير فرنسي بحت بطلب من رئيس فرنسي كلّف مؤرخا فرنسيا، وفق ما تقتضيه السياسة الفرنسية للنظر في إيجاد حلول لمسائل داخلية حسب توجهاتهم. ولذلك نحن لا يهمنا هذا الجانب، لأنه لم يقدر في النقاط 22 ما يدل على نية التصالح مع التاريخ فيما يتعلق بالطرف الآخر وهو الجزائر، وبقيت نفس النظرة الاستعلائية، نفس روح الوصاية، نفس الصبغة الاستعمارية، وكأن فرنسا تريد أن تتصدق بما تظهره من وسائل لمعالجة القضية، وكأن القضية محصورة في الجانب الثقافي دون الجانب الإنساني والاجتماعي والجانب الثقافي العميق المتعلق بالهوية، فكل هذه المسائل الأساسية لم يتطرق إليها التقرير وإنما اكتفى بإعطاء حلول فرنسية لا تغضب اليمين المتطرف.
كما لم نجد ولا نقطة في النقاط 22 «تدين الاستعمار أو تدين المجازر أو تدين التجاوزات اللاّإنسانية في حق الجزائريين، أو حتى تصنف الاستعمار كظاهرة إجرامية معادية للإنسانية، حيث اكتفى التقرير بالتبادل المعرفي والبحث وإقامة الندوات وتسمية بعض الأماكن والمعالم، بل نعتبر ما جاء في محتواه تجاوزات على السيادة الجزائرية فيما يتعلق بالحركى. ولهذا نجد النقاط المتضمنة في التقرير هي نقاط فرنسية لإرضاء أطراف فرنسية، لأن مطالب الجانب الجزائري أعمق بكثير، لأنه اعتدي عليه طيلة 132 سنة، تعرض خلالها لكافة أنواع الإبادة، التنكيل والتهجير، التفقير والتجهيل والاعتداء على مقدساته وكرامته وشرفه، بل أنّ الإدارة الاستعمارية غيّرت حتى تسمياته وألقابه ومسمياته، وتدخلت حتى في ثقافته ولسانه وعاداته وتقاليده، ولذلك لم يبق جانب من الحياة الإنسانية للمواطن الجزائري لم تتدخل فيها فرنسا، بل اعتدت عليها بالتشويه والتحريف، ناهيك عن اقتصاده وموارد رزقه.
لهذا، فالشيء المطلوب أن يعود ماكرون الرئيس إلى ماكرون المترشح الذي صرح بعظمة لسانه، بأن الإستعمار الفرنسي في الجزائر إرتكب جرائم ضد الإنسانية. إنّ الشيء الذي يطالب به الجيل الحالي من الجزائريين، هو الاعتراف بالجريمة والإعتذار أمام الشعب الجزائري والعالم عما ارتكبته فرنسا الإستعمارية في حق الشعب الجزائري المعتدى عليه.
أشرتم إلى أن التقرير حمل في طياته اعتداءً على السيادة الجزائرية، ما هي أهم نقطة تشير إلى الأمر؟
أهم نقطة هي قضية الحركى وهي الدعوة إلى السماح للحركى وعائلاتهم بالدخول للجزائر، وجاء بصيغة «الأمر»، لذلك نرد على هذا التساؤل بالسؤال، هل فرنسا تسامحت وتساهلت وغضّت الطرف عن الحركى الفرنسيين الذين تعاونوا مع الألمان في الحرب العالمية الثانية؟ هل فتحت لهم الأبواب وعفت عنهم؟، بل إنها مازالت تعتبرهم خونة ومجرمين، بل هناك فيهم من هو ممنوع من الدخول إلى التراب الفرنسي.
ثانيا، إن الحركى الجزائريين هم الذين غادروا الجزائر بإرادتهم، هروبا من أفعالهم التي ارتكبوها ضد أبناء جنسهم. أما الحركى الذين بقوا في الجزائر، فهم يعيشون كجزائريين ويتمتعون بنفس الحقوق في المجال الاقتصادي، المواطنة، الاجتماعي والثقافي أيضا.
كيف ترون تصريح الرئيس الفرنسي بعدم الاعتراف بجرائم فرنسا الاستعمارية؟
كما قلت، تمنينا أن يبقى إمانويل ماكرون على مبدئه الذي كان يتسم به كمترشح لرئاسيات فرنسا. وكنا نتمنى أيضا أن يكون ماكرون محايدا، لأنه من مواليد فترة ما بعد استقلال الجزائر. لذلك تمنينا أن يبقى عقله نظيفا مثل نظافة يديه اللتين لم تتلطخا كأسلافه بدماء الجزائريين، على أن يكون عقله وفكره كيديه، ويلتزم بما صرح به خلال ترشحه بأن الإستعمار هو جريمة ضد الإنسانية. لكن أثبتت التجارب التاريخية أن سياسة الدولة الفرنسية الرسمية تختلف عن سياسة الأحزاب وسياسة الترشيح لكسب الأصوات، وإنما هي سياسة الكرسي الذي مازال بعقلية التاج الإمبراطوري الاستعماري الذي يرى في نفسه الآمر والذي لا يرد على كلامه، فلاحظنا في ماكرون أنه لا يختلف عن سابقيه أمثال ساركوزي، شيراك، جيسكار ديستان، دوغول وغيرهم... كل الفرنسيين من شارل دوغول الى ماكرون، مع الأسف، غادروا وهم يحملون الإرث الإستعماري، الذي يبقى يلاحقهم لأنهم لم يخلّصوا فرنسا من الإرث الإستعماري البغيض، ولم يخلصوا الأجيال الفرنسية منه، كما فعل الأمريكان مع اليابانيين، وكما فعلت ألمانيا مع اليهود، وفعلت إيطاليا مع الليبيين. ففرنسا تبقى لعنة التاريخ، ولعنة أرواح الأبرياء التي زهقتها بالملايين لشعوب ما وراء البحار وعلى رأسها الجزائر، تطاردها وتلاحقها على مدى الحياة البشرية.
ماذا عن مستقبل العلاقات بين البلدين؟
تجدر الإشارة إلى أن تصريح ماكرون غير ودي وغير مقبول وغير تفاؤلي لبناء علاقات مستقبلية بين الشعبين والبلدين، لأنه تصريح يجذّر ويثبت الفكر الاستعماري القديم ويتناسى، بل يتجاهل أن من يعيش فوق أرض الجزائر حاضرا ومستقبلا هم أبناء وأجيال وفية ومخلصة لأرواح الشهداء ولتاريخها وذاكرتها المجيدة.
كذلك لم يحترم ماكرون في تصريحه، الملايين من الجزائريين الذين يحملون الجنسية الفرنسية من المغتربين، وهم الذين نشأت في أحضانهم الحركة الوطنية ودافعوا دائما عن أصولهم الجزائرية، وعانوا من جرائم السياسة الإستعمارية مثل ما عاناه إخوانهم داخل الجزائر من إبادة وقمع وتشريد وممارسات عنصرية مقيتة ضدهم إلى يومنا هذا، كل هذه الأمور لم يحترمها الرئيس الفرنسي وتجاوزها بتصريحه المخيب للآمال. لهذا نحن كمثقفين وأكاديميين فوجئنا بهذا التصريح، بينما كنا ننتظر أن تترجم النوايا الطيبة التي أبديت سابقا، الى أفعال وبرامج ومبادرات تخلص فرنسا من تبعات تاريخية مقيتة وتبني علاقات بين الشعوب والأجيال على أساس نظرة تفاؤلية مستقبلية. ولهذا فان كل المقترحات التي قدمها المؤرخ، الذي لم يتجرد من فرنسيته ولم يلتزم بموضوعيته العلمية الأكاديمية التي تغلّب الحقيقة وتخلص فرنسا، بل صبّت فيما يرضي الرئاسة ولا يغضب المعارضة اليمينية. ولهذا، فإن التصريح لم يعجب حتى الليبراليين والمعتدلين من المثقفين والنخبة الفرنسية.
في رأيكم، كيف تتوقعون أن تكون ردة الفعل على التقرير وتصريحات ماكرون؟
الجزائر ليست مطالبة بأن ترد. لأن التقرير غير مشترك أو ناجم عن لجنة مشتركة، إنما تقرير يتعلق بمهمة شخصية جاءت بطلب شخصي من رئيس الدولة الفرنسية، بتكليف مؤرخ فرنسي ليقدّم له المقترحات التي ترضي الإليزيه ولا تغضب اليمين الفرنسي، وهو ما قرأناه وما رأيناه. وبالتالي بالنسبة إلينا يعتبر لا حدث ولا ينقص أبدا من مطالبنا ولا يثنينا عن الوقوف أو التريث أو التراجع عن مطالبنا، وأيضا لا يلهينا لنسكت عن ذاكرتنا، لأن الشيء الذي يجب ان يعلمه الفرنسيون عامة بكل أطيافهم، هو أن «الجزائر الجديدة»، هي جزائر الذاكرة ومعركة «الجزائر الجديدة» هي الانتصار للذاكرة، لأن «الجزائر الجديدة» هي للمرة الأولى تكون للذاكرة فيها مراتب ذات الأولوية، بل حتى ذات السيادية، وذلك بإنشاء منصب مستشار الرئيس للذاكرة، إضافة الى تخصيص يوم وطني للذاكرة، وإنشاء قناة وطنية للذاكرة، جزائر اليوم هي الجزائر الجديدة التي استجابت لتنفيذ مطالب الحراك، بل وضعت أياما وطنية مخلدة للذاكرة وهي على التوالي يوم 22 فبراير الذي جاء ضمن أسبوع الشهيد، علما أن يوم 18 فيفري من كل سنة هو يوم الشهيد الوطني في احتفالات تدوم أسبوعا. ضف الى يوم 12 ديسمبر، حيث اختير لأنه يأتي بعد 11 ديسمبر من كل سنة الذي يخلد ذكرى معركة الشعب أو ثورة الشعب 1960، ويوم 12 ديسمبر من كل عام هو يوم قرار الشعب. أما اليوم الثالث فهو يوم الدستور الجديد، جاء ليكرس بيان أول نوفمبر، ويجعل منه المصدر والمرجع وخارطة طريق وبرنامج عمل والروح التي ينبض به دستور الجمهورية الجزائرية. فهذه التواريخ الثلاثة التي رصدت عالم الجمهورية الجديدة من أجل أن تبقى الذاكرة، هي التي تقود الوطن والمرجع لكل القرارات السيادية لهذا الوطن. وكل هذه المرجعية للذاكرة لترجع الجزائر إلى ما عرفت به عالميا؛ بلد المليون ونصف المليون شهيد، لأنها معروفة في العالم أجمع بما تخللته ذاكرتها، فهي معروفة بالذاكرة ويجب أن تعيش في أحضانها ومن أجل سيادة الذاكرة.