طباعة هذه الصفحة

أهمية المناعة النفسية في توازن مناعة الجسم الفيزيولوجية

الجائحة كشفت غياب مناعة نفسية لمواجهة الوباء

فتيحة كلواز

أبانت الأزمة الصحية التي عاشتها الجزائر لما يقارب السنة عن أهمية المناعة النفسية في توازن مناعة الجسم الفيزيولوجية أو الحيوية ضد الأمراض، وكشفت الجائحة المستجدّة أن التعامل مع الوباء له أوجه مترابطة فيما بينها، غياب واحد منها يعني اختلال توازن الأخرى، وهو ما لمسناه في سلوكيات عكست غيابا تاما لمناعة نفسية لمواجهة الصدمات ما أثّر سلبا على مقاومة الجسم لفيروس كورونا.
سألت «الشعب ويكاند» شرائح مختلفة في المجتمع لتتعرّف على طريقة تعامل الجزائري مع الوباء نفسيا، خاصة وأن الكثير منّا لاحظ حالة هلع وخوف أوصلت البعض إلى الانعزال التام عن المحيط.

ردود أفعال نفسية عنيفة وقوية اتجاه «كوفيد-19»

جمال شرشالي، موظف في مؤسسة خاصة، سألته «الشعب» عن تعامله النفسي مع الوباء، فأجاب: «كان الأمر بالنسبة لي تحديا صعبا بسبب استحالة الانقطاع عن العلاقات الاجتماعية خاصة الأهل والأقارب، ولكن وبسبب كل ما شاهدته وسمعته عن «كوفيد-19» جعلني أدخل في حالة من الخوف، اضطرني إلى طلب عطلة مرضية طويلة كانت بالنسبة لي بمثابة الهروب إلى الوراء، فالبقاء في البيت دون أي نشاط بسبب الرعب من العدوى أدخلني في حالة نفسية صعبة جدا، جعلتني أُعقّم الخبز الذي أشتريه من الخباز بماء جافيل قبل أكله، أما الأسطح والجدران وكل ما يمكن لمسه تحول إلى اهتمامي الأول، ففي كل الأوقات تراني حاملا قطعة قماش وقارورة مطهر لتعقيم الأسطح، والحمد لله أنّني أعزب وإلا لكان الأمر صعبا علي».
واستطرد جمال قائلا: «في البداية استحسنت والدتي وأخواتي الأمر لأنهنّ كنّ يعتبرنّ ما أقوم به مساعدة لهنّ في الأعمال المنزلية، لكن مع مرور الوقت خافت والدتي من إصابتي بالشك المرضي لهوسي وخوفي من أي شخص نتعامل معه، فحتى إخوتي أجبرتهم على تعقيم أنفسهم أمام باب المنزل، وبعد دخولهم إليه ما خلق توترا كبيرا في علاقتي مع المحيط الذي أعيش وسطه».
إصابتها بالخوف الشديد من العدوى جعلها تؤثّر سلبا على أطفالها، الذين يعيشون إلى اليوم حالة من الرعب والخوف الشديد من أي شخص يتعاملون معه لدرجة ضربهم لكل من يحاول الاقتراب منهم، حيث صرحت «هدى - ب»، ممرضة بمستشفى مصطفى باشا لـ «الشعب»: «انعكست حالة الاستنفار الصحي في المستشفى على كل تفاصيل حياتي، فقد تأثّرت بكل تلك المعاملة التي تعرضت لها في بداية الأزمة الصحية، بسبب مقاطعة جيراني وأقربائي لي لتواجدي وتعاملي المستمر مع مرضى كوفيد-19، ما جعلني أقتنع في داخلي أنّني ناقلة للعدوى لا محالة، لذلك شرحت لأطفالي الأمر وحذّرتهم من كل تعامل غير محسوب العواقب، وكما يقول المثل «جيت نكحلها عميتها»..أصبح أبنائي يرفضون التعامل مع الغير، لا يقبلون ضيوفا في البيت، ويمتنعون عن زيارة الأقارب حتى وإن كانوا أجدادهم».
وأضافت «هدى» أنّها في عيد الفطر الماضي ذهبت لزيارة والدتها وأرغمت أبناءها على مرافقتها، بعد وابل من التهديد والوعيد، لكنهم عند دخول منزل جدتهم، رفضوا الجلوس خوفا من العدوى ما اضطر والدتها إلى إحضار الكراسي البلاستيكية من حديقة المنزل وتعقيمها بمطهر ليجلسوا على مسافة المترين..وعلقت: «في تلك اللحظة أدركت أنني السبب في هذه الحالة النفسية المضطربة التي يعيشها أطفالي بسبب خوفي من العدوى، كان عَليّ التعامل مع الأزمة الصحية بطريقة أكثر وعيا، لكن سلوكي كان مجرد ردة فعل لتلك المعاملة السيئة التي وجدتها في محيطي بسبب عملي في المستشفى».
«كان من الأجدر تعلم فن إدارة الأزمات حتى لا نترك الخوف والقلق يسيطر على تصرفاتنا ويكون الموجه الأول لها»، هذا ما قاله فريد نواسعة، طالب جامعي لـ «الشعب ويكاند»، وأضاف قائلا: «خلال سنة تقريبا من الأزمة الصحية رأينا الكثير من ردود الأفعال العنيفة في تعامل البعض مع الوباء، فحتى الدراسات النفسية أكدت وجود خلل كبير في التوازن النفسي لدى المواطنين في مختلف الدول التي مستها الجائحة المستجدة ما أدى إلى ارتفاع العنف المنزلي، الطلاق، وحتى حالات القتل والانتحار، وهو أمر مفهوم إن علمنا أن أغلبنا لا يملك الميكانيزمات النفسية السوية للتعامل مع وضع استثنائي جاء نتيجة مرض مجهول وغامض، وهو ما زاد من شدة الرعب الذي عاشته البشرية عموما والجزائر خاصة اتجاه تعاملهم مع الوباء وانتشار العدوى».
وأوضح فريد قائلا: «أظهرت الأزمة الصحية الاستثنائية ضرورة تعلم الطريقة التي تمكن كل شخص مهما كان مستواه التعليمي أو الاجتماعي من التحكم في سلوكه في حالة استثنائية، بل وتجعل الواحد منّا يعيش التوازن النفسي ما سينعكس إيجابا على مناعتنا الجسمية، فالقليل فقط يعلم أنهما مرتبطتان، بل وتؤثر الواحدة في الأخرى».

الثقة بالنفس، التفكير الإيجابي وضبط النفس أهم عناصر المناعة النفسية

صرّح المختص في علم النفس وعلوم التربية والأرطفونيا بجامعة محمد لمين دباغين سطيف 2، الدكتور خالد عبد السلام لـ «الشعب ويكاند»، أنّ كل الناس يتعرضون لمواقف مؤلمة وصادمة، ويعيشون حالات الخوف والقلق والإحباط في ظروف حياتية مختلفة، فهي من بديهيات ومسلمات الحياة، لكن كل واحد يتصرف بطريقة وكيفية تختلف عن غيره في التعامل مع تلك الانفعالات والعواطف، فمنهم من يستسلم ويهزم أمامها، ومنهم من يحاول التخفيف منها بطريقته الخاصة وحسب ما هو متاح لديه، ومنهم من يستعمل آليات دفاعية سلبية باللجوء إلى المنشطات، التدخين والمخدرات والكحول كوسائل للهروب من الواقع المؤلم أو للتخفيف من آثارها وآلامها، وقلّما نجد من يحاول مقاومتها والتعامل معها بإيجابية باستعمال ميكانيزمات دفاعية كالتجاهل، التعويض، التفكير بإيجابية في حلول وبدائل أخرى.
قال الدكتور إنّ كل تلك التصرفات مظاهر لطبيعة نظام جهاز المناعة النفسية، الذي يمتلكه كل إنسان ومدى فعاليته وقوته في مواجهة مختلف الظروف والإحباط، فكما خلق الله تعالى للإنسان نظام المناعة الحيوية أو الفيزيولوجية الذي يقوم بوظيفة الدفاع عن صحة جسم الإنسان من أخطار الفيروسات والميكروبات، فقد زوّده أيضا بنظام مناعة نفسية يمكنه من الدفاع عن نفسه أوقات الأزمات والانفعالات الشديدة.
وكما تتطوّر وتتقوّى المناعة الفيزيولوجية بمختلف اللقاحات والمضادات الحيوية والأطعمة ومختلف النشاطات الرياضية، تتقوّى أيضا مناعته النفسية بمختلف اللقاحات الفكرية، المعرفية والروحية والنشاطات البدنية والثقافية والعلمية والترفيهية من أجل تمكين الفرد من القدرة على تحصين نفسه من أخطار الضغوط النفسية، الإحباط ومختلف الانفعالات والعواطف المدمرة.
وكشف محدّثنا أنّه نتيجة جهل الكثير من المجتمع لقواهم الداخلية لاسيما قوة الجهاز المناعي النفسي الذي يملكونه، أصبحوا يستغرقون في مشاعر الحزن والأسى، يعيشون يومياتهم بها كفلسفة حياة خاصة عند فقدان قريب لهم أو إحباط ناتج عن فشل مشروع تجاري أو توظيف أو زواج أو دراسة أو غيرها، بل كثيرا ما نجدهم يحيون تلك المشاعر السلبية في كل المناسبات والظروف، بدل تجاهلها والتحرر منها باستعمال مختلف الآليات الدفاعية النفسية كالتفكير في بدائل أخرى والتفاؤل بالخير والاجتهاد دائما من أجل غد أفضل للعيش في سعادة.
وقال خالد عبد السلام إنّ علم النفس الإيجابي يعرف نظام المناعة النفسية على أنّه: «بمثابة جهاز لامتصاص الصدمات، التحديات والأزمات بتحليلها والرد عليها بشكل إيجابي يحفظ توازن العضوية نفسيا جسميا واجتماعيا»، ومجموعة من الآليات المعرفية التي تحمي الفرد من الشعور بالمعاناة من المشاعر السلبية المتطرفة عن طريق (التجاهل، التحويل، وبناء المعلومات) لتجعل الحالة الراهنة أكثر احتمالا وامتلاكا للبدائل المساعدة في تخطي الموقف، فهو مثل يعمل مثل الجهاز المناعي الحيوي أو الفيزيولوجي، بتحليل طبيعة الفيروس أو الموقف ثم مواجهته.
يتكون هذا الجهاز المناعي النفسي من عدة عناصر أساسية أهمها حسب الدكتور خالد عبد السلام الثقة بالنفس، التفكير الإيجابي في معالجة الفرد للمواقف الصادمة والانفعالية، إضافة إلى الابتكار والإبداع وحل المشكلات، ضبط النفس والاتزان الانفعالي، وأيضا الصمود والصلابة، إلى جانب التحدي والمثابرة بمعنى رفع التحديات أمام كل الأزمات والشدائد بمعنويات مرتفعة بالإلحاح والإصرار دون انهزام ولا استسلام، كما هو بالنسبة لجائحة «كوفيد-19» التي تتطلب رفع التحدي والتكيف والتعايش معها دون قلق ولا خوف، إلى جانب الفاعلية، التفاؤل، المرونة والتكيف مع متطلبات البيئة والمواقف المستجدة وغير المألوفة.

وجود علاقة وظيفية بين المناعة النفسية والمناعة الحيوية

أكّد المتحدّث وجود علاقة وظيفية بين المناعة النفسية والمناعة الحيوية، حيث كلّما كان نظام المناعة النفسية قويا كلما زادت قوة نظام المناعة الحيوية أو الفيزيولوجية، معتبرا جهاز المناعة النفسية العمود الفقري للمناعة الفيزيولوجية لأن ضعف المعنويات وسيطرة الضغوط النفسية أو الإجهاد العقلي كثيرا ما يؤثر في ضعف المناعة الفيزيولوجية عن طريق إفرازات الهرمونات وكيمياء الدماغ بازدياد كميات الأدرنالين في الدم، فالإنسان وحدة متكاملة فيزيولوجية، جسمية، نفسية، عقلية واجتماعية لا يمكن الفصل بينها، كل جانب يؤثر ويتأثر بالجوانب الأخرى سلبا أو إيجابا، وعليه من أهم الاستراتيجيات التي يمكن اقتراحها لتدعيم وتحصين نظام المناعة النفسية ما يأتي:
- إستراتيجية تنمية الثقة بالنفس، بتعزيز مقومات التقدير الإيجابي للذات والإيمان بقدراتها وإمكاناتها على تحقيق ما تتمناه، عن طريق مختلف النشاطات والإنجازات والأعمال التي ينخرط فيها الفرد، حسب اهتماماته وميوله في مختلف المجالات الحياتية، فكلما نشط الإنسان كلما زادت ثقته بنفسه، وكلّما تعزّز مشاعر إيجابية اتجاه نفسه واتجاه المحيطين به واتجاه الحياة ككل.
- إستراتيجية التنمية الروحية بالإكثار من العبادات، لاسيما قراءة القرآن والتمعن فيه، ومحاولة فهم دلالاته نظرا لمفعوله في النفس الإنسانية، وكذلك الصيام والزكاة، الصدقات والأعمال التطوعية والخيرية، لأنها تساهم في التسامي الروحي للإنسان وتخرجه من دائرة الأنانية المفرطة والطمع وغيرها من الطبائع السلبية، ما يعزّز لديه السلام الداخلي والاطمئنان مع نفسه ومع غيره أكثر فأكثر.
- إستراتيجية التدريب على استراتيجيات التفكير الإيجابي، عن طريق المطالعة والتكوين الذاتي، فبدل البكاء والندب على ما فات خطط لما يجب أن تكون عليه في المستقبل، لأن الماضي لا يمكن تغييره ولا تعديله، مع تبني قناعاته، أنّه «لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، وأنه «عندما نريد نستطيع»، وأنه «لا وجود للمستحيل في الحياة» بل كل ما نتمنّاه يمكن لنا تحقيقه وبلوغه بالتخطيط الإصرار والعزيمة، وبدل اللجوء إلى التدخين أو الكحول أو المنشطات الأخرى كوسيلة للهروب من الواقع، الجأ إلى ممارسة الرياضة، النشاطات الترفيهية، التنزه، الأعمال التطوعية، ومطالعة الكتب الخاصة بالتنمية الذاتية وعلم النفس، وكذا مجالسة كل من يرفع معنوياته.
- أخيرا إستراتيجية التنشيط الرياضي والثقافي والترفيهي، وفي هذا السياق أكد الدكتور أن الكثير من الدراسات العلمية أوضحت أهمية النشاطات الرياضية، فالإنسان خلق ليكون نشطا ومتحركا لأنهما رمزا للحياة، بينما السكون وعدم الحركة رمز للموت، وعليه أصبحت النشاطات الرياضية من أهم الوسائل التي تدعم وتعزز نظام المناعة النفسية والفيزيولوجية معا، لما توفره من شعور بالراحة والاطمئنان والسعادة.
وكثيرا ما تساهم النشاطات الثقافية كزيارة المتاحف ودور السينما والمراكز الثقافية لحضور مسرحيات وألعاب الترفيه والتسلية، في تغيير المناخ العقلي للإنسان وتطور فيه المشاعر الإيجابية اتجاه الحياة والناس من خلال الاحتكاك والتعارف، بالإضافة إلى الجولات السياحية والتنزه في الغابات والبحار والجبال لها مفعول إيجابي في تنمية مشاعر السعادة، وغيرها من النشاطات والاستراتيجيات التي يمكن للإنسان ابتكارها لتعزيز، تقوية وتحصين جهاز مناعته النفسية.