طباعة هذه الصفحة

كلمة الوزير الأول باسم رئيس الجمهورية:

التحول الديمقراطي، انفتاح الأنظمة السياسية واقتصاد السوق... معايير تحكم العلاقات الدولية

بسم الله الرحمن الرحيم
والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين
وعلى آله وصحبه إلى يوم الدّين

أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي الغبطة والسرور أن أرحب بكم، باسم فخامة رئيس الجمهورية، السيد عبد العزيز بوتفليقة، كل الترحيب بالجزائر، بمناسبة انعقاد هذه الدورة الوزارية لحركة البلدان غير المنحازة.
دعوني أستحضر، وجوانحي يغمرها التأثر، ذكرى القمة الرابعة لحركتنا، التي انعقدت في سبتمبر 1973، في هذا المكان بالذات، برئاسة الرئيس الراحل هواري بومدين، عقب ندوة وزارية ترأسها السيد عبد العزيز بوتفليقة، وزير الشؤون الخارجية آنذاك.

إنني أغتنم هذه الفرصة السعيدة لأعرب عن امتناني لجميع الوفود الحاضرة اليوم معنا، من أجل استمرار رسالة عدم الانحياز الوجيهة على الدوام وإعلاء لقيمه ومبادئه.
هذا، وأزجي التحية والإكبار للرئاسة الإيرانية لقاء التزامها وانخراطها في خدمة حركتنا.


الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية

أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة،
إن نظرة إلى الوراء وإلى الأشواط التي تم قطعها منذ تلك الفترة، تتيح لنا بالوقوف على التحولات الكبرى التي وسمت العلاقات الدولية بميسمها عقب اختفاء الصراع شرق - غرب ونهاية الحرب الباردة.
لقد فرضت عملية التحول الديمقراطي وانفتاح الأنظمة السياسية، إلى جانب تعميم اقتصاد السوق، نفسها كمعايير باتت تحكم اليوم العلاقات الدولية.
ولقد سجّلت الديمقراطية وحقوق الإنسان تقدما بالغا في كافة أصقاع العالم وفي بلداننا على الخصوص.
إننا لنغتبط لهذا التقدم الذي يعزز مثل الحرية، والرقي، والانعتاق، اللصيقة بكفاحنا التضامني.
أما الاقتصاد العالمي فإنه سجل من جانبه تحولات عميقة أثناء هذه الفترة. وأتاحت ظاهرة العولمة والثورة الرقمية تحرير طاقات ضخمة، وقلّبت قناعاتنا وأنماط تفكيرنا مثلما أحدثت تعديلات هامة خلال الحقب الأخيرة أتاحت بروز أطراف فاعلة جديدة يُعترف اليوم بوزنها ونفوذها عالميا.
وعلى ذات المنوال، لم يبق العالم العربي بمنأى عن دينامية التغيير هذه، وإن الجزائر، التي تتابع بأقصى الاهتمام هذه التطورات، لتود بهذه المناسبة، تجديد الإعراب تضامنها مع الشعوب العربية، آملة أن تتغلب الحلول السلمية والتوافقية في هذه المراحل الانتقالية الجارية.

تحولات... وإصلاحات عميقة

أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة،
لقد شهدت الجزائر، هي الأخرى، على امتداد هذه السنوات، تحولات معتبرة واجتازت محطات دقيقة في تطورها السياسي والاقتصادي.
إنها باشرت، منذ 1988، بكل حزم، إصلاحا عميقا لمنظومة حكمها باعتماد التعددية السياسية واقتصاد السوق. ولئن تعطل مسار الإصلاحات الهيكلية، خلال التسعينيات، بسبب الإرهاب المدمر الهمجي، فقد تواصل وتعمق، منذ 1999، بفضل سياسة الوئام والمصالحة الوطنية، وإعادة الاعتبار لدور الدولة وتحديث الاقتصاد.
لقد نظمت بلادي، انتخابا رئاسيا يوم 17 أفريل الماضي، بحضور مراقبين أجانب من عديد المنظمات الدولية. وشكل الانتخاب هذا محطة نوعية جديدة في تعميق الممارسة الديمقراطية وتعزيز دولة الحق والقانون.
وتلقت الحكومة، التي تم تعيينها في مطلع هذا الشهر في سياق هذا الاستحقاق الانتخابي، من السيد رئيس الجمهورية خارطة طريق حددت المعالم لمخطط عمل ذي بعدين، سياسي واجتماعي ـ اقتصادي.

خارطة طريق تبرز أولوية إصلاح الدستور

إن خارطة الطريق هذه تبرز في المقام الأول، أولوية إصلاح الدستور، الذي سيشرك فيه، من منطلق روح توافقية، كافة الأحزاب السياسية، والشخصيات الوطنية والفاعلين في المجتمع المدني. والمتوخَّى من هذه العملية هو ترقية الديمقراطية التشاركية، وتعزيز الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وتعميق الفصل بين السلطات، وتقوية استقلالية القضاء، وتدعيم صلاحيات البرلمان ودوره وتأكيد مكانة المعارضة وحقوقها.
كما أنها تضع على عاتق السلطات العمومية تنفيذ إجراءات تحسين ملموسة لممارسات الحكم الراشد، لاسيما محاربة الفساد، والحفاظ على المال العام، وترشيد النفقات العمومية وتحسين الخدمة العمومية. لقد نصت هذه الخارطة، كذلك على آلية للإنعاش الاقتصادي المرجو منها، بعد أمد، تنويع الاقتصاد الوطني، وجعله أكثر إنتاجية وأكثر تنافسية، مع تحديد نسبة نمو قدرها 7% سنويا، مماثلة لنسبة نمو الدول الصاعدة، هدفا له.
إن المخطط هذا، الطموح حقا، سيعزز، الإنجازات الكبرى المحققة خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبناء المنشآت القاعدية الأساسية، وتأهيل الجهاز الإنتاجي وإنعاشه، كل ذلك سعياً للاستجابة للحاجات الاجتماعية للساكنة وتحسين مستوى معيشة المواطنين.

شروط الاستقرار والتطور

أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة،
تلكم هي، في عجالة، أبرز محاور الإصلاحات التي أجرتها الجزائر خلال العشرية المنصرمة، والحديث عنها في هذا المقام، إنما هو دلالة عن أهمية وحجم سياسات التجديد والتكييف التي تخوض بلداننا غمارها على الوجه الأوفى.
غير أنه لا يمكن أن نَبْلُغَ بهذه الإصلاحات مَبْلَغَها ولا أن نَجْني منها الثمار المأمولة دون استجماع شروط الاستقرار والأمن الدائمين من أجل تأمين التنمية ورفع التحديات والتهديدات التي ماتزال تلقي بظلالها على العلاقات الدولية.
من هذا الباب، أصبح الإرهاب، المتواطئ مع الإجرام العابر للأوطان وتهريب المخدرات، آفة بالغة الخطورة بالنسبة للمجموعة الدولية، من حيث إنه يرمي إلى النيل من النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدولنا ويسعى، تدريجيا، إلى توسيع مساحات اللاأمن واللااستقرار، كما هو الحال في منطقة الساحل.
ومما يبعث على الارتياح أن المجموعة الدولية أصبحت تعي مدى خطورة هذا التهديد وأنها قررت التصدي لها بطريقة منسقة وتوافقية على مستوى الأمم المتحدة وعلى المستوى الجهوي على حد سواء. من ثمة، بات من الأهمية القصوى بمكان أن تواصل حركتنا التزامها الجماعي والمتضامن، وأن توحّد دولها الأعضاء جهودها بغية قطع شأفة هذه الآفة العابرة للأوطان.


المضاربة والاقتصاد الافتراضي فتحتهما العولمة

أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة،
أجل، كان للعولمة الفضل في تفجير قوى الإنتاج أيّما تفجير لكنها، فتحت، كذلك، الباب واسعا للمضاربة والاقتصاد الافتراضي.
لقد قرّبت، بفضل التجارة وتكنولوجيات الإعلام والإتصال، بين بلدان وأناس كانوا، بالأمس، يجهل بعضهم بعضا. لكنها قد رمت، كذلك، بالأشد ضعفا وحرمانا من بيننا إلى الهامش فزادتهم ارتباكا وارتيابا.
ما من شك في أن بروز الحكامة العالمية التي لطالما طالبت بها بلداننا قمين بأن يعزز جهود العديد من البلدان النامية ويدعمها، وهو ما يتيح لها الإسهام في مسار اتخاذ القرار.
من ثمة، فإن إصلاح المنظومة المتعددة الأطراف يفرض إضفاء مزيد من التناسق السياسي والتوافق الاقتصادي الكلي، حتى يتسنّى تكييفه مع واقع الراهنة. في هذا الإطار، من المفروض أن يستقطب كل طاقاتنا تعزيز دور الجمعية العامة وإصلاح مجلس الأمن باتجاه توسيعه، موازاة مع إعادة تشكيل المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية.
إنه لمن الأهمية بمكان مواصلة الجهود التي تبذلها حركاتنا في سبيل عولمة ذات مسحة إنسانية أكثر فأكثر توازنا وتضامنا، غايتها توزيع ثمار التقدم العالمي على البشرية جمعاء.
ذلكم هو، أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، بعض من التحديات والتهديدات التي تستوقفنا جميعا وتقتضي منّا التزاما حازما في سبيل تعزيز تضامننا الجماعي وقدرتنا على الدفع بحركة عدم الانحياز كقوة عمل واقتراح من شأنها المشاركة في إثراء النقاش الدولي وفي مسارات اتخاذ القرار على المستوى العالمي.
وبودي أن أنوب عنكم جميعا في التعبير عن طموح حركتنا إلى الرمي بثقلها، بحزم وقوة، في تجسيد هذه الأهداف. وهذا إنما هو مصداق لقيم التآزر والتضامن التي تصنع قوتها، وصاغت تاريخها ورسمت هويتها.
أشكركم على كرم الإصغاء.
والسلام عليكم ورحمة الله.