طباعة هذه الصفحة

الكاتب والباحث بوداود عميّر لـ «الشعب ويكاند»:

الجزائر توقّفت عن استيراد المجلّات الثقافية لأسباب غير مفهومة

حوار: الخير شوار

 نحتاج آليـات جديـدة للتكفـل بالكتـاب والمجلّات 

التحوّل الرقمي جـاء في وقتـه، ليفـك عزلتنــا

المجلات في العـالم، رغم الطفرة التكنولوجيـة، لم تتــوقّف

قبل ثلاثين سنة كانت السوق الجزائرية تعجّ بالمجلات الثقافية المستوردة والصادرة محليا، لكنها ولأسباب «غير مفهومة وغير منطقية» توقّف كل شيء وتحوّلت البلاد إلى «عالم مغلق ومتخلّف» مثلما يستعير ضيفنا الباحث بوداود عميّر من مقولة للراحل عمار بلحسن.
في هذا الحوّار نحاول مناقشة القضية من مختلف جوانبها، مع الكاتب والباحث والمترجم، بوداود عميّر، الذي وجد في الانفتاح الرقمي فرصة ليصبح واحدا من أنشط الكتّاب والمترجمين في الجزائر.

 الشعب ويكاند: الجزائر لا تتوفّر على مجلّات متميّزة، والأكثر من ذلك لا يصلها ما يصدر في العالم إلا بشكل نادر، كيف تقرأ هذه الحالة؟
بوداود عميّر: منذ عقدين أو ثلاثة عقود، توقفت الجزائر، لأسباب غير مفهومة وغير منطقية، عن استيراد المجلات الثقافية، خاصة المجلات العربية؛ بعد أن كانت تزدان بها واجهات المكتبات وأكشاك بيع الصحف والمجلات، وتملأ رفوفها. كلّ عناوين المجلات العربية الثقافية الشهرية أو تكاد، كانت تصلنا، وكانت توزع على جميع مكتبات الوطن، بما في ذلك المدن الداخلية. ولعل من أشهر تلك المجلات: العربي الكويتية، الدوحة القطرية، الفيصل السعودية، الموقف الأدبي السورية...إلى جانب مجلات أسبوعية متنوعة مثل الوطن العربي، كل العرب، المستقبل، اليوم السابع... من بين مسببات هذا الغياب أو التغييب التي راجت يومها كتبرير، أمام حيرة القارئ الجزائري وتساؤله؛ انتهاج الجزائر سياسة اقتصاد السوق، المعتمد على قانون العرض والطلب، بعد انتهاء عهد تطبيق الاشتراكية، الأمر الذي تسبب في التخلي عن التكفل بمنجزات تعتمد أساسا على الدعم الحكومي وتؤدي خدمة عمومية، من بينها استيراد المجلات؛ وهي في الواقع مبررات تبدو غير مؤسسة، ذلك أن المجلات المستوردة من خلال معظم عناوينها كانت تباع بشكل واسع، وكان هناك إقبال شديد من القارئ على اقتنائها، حتى أن مجلات معروفة مثل العربي الكويتية، كانت تنفد نسخها بسرعة، باعتراف معظم الباعة. هناك مبرر آخر راج خلال تلك الفترة، يتمثل في سياسة تشجيع الصناعة المحلية، على أساس أن توقيف الاستيراد يتيح رواج المجلات الجزائرية التي لا تملك الإمكانيات ولا القدرة على المنافسة. غير أنه ومع مرور الوقت اتضح العكس، ذلك أنه في زمن استيراد وصول المجلات، كانت تصدر كذلك مجلات جزائرية متنوّعة، وكانت تحظى باهتمام القارئ الجزائري، بفضل أسعارها الزهيدة وقيمة محتوياتها، مثل مجلات: الثقافة، الأصالة، آمال، ألوان، الوحدة، الجزائرية... وكانت هناك مجلات خاصة بالأطفال أشهرها وأنجحها على الإطلاق مجلة مقيدش، باللغتين العربية والفرنسية، والتي كان ينجز رسوماتها كوكبة من ألمع الرسّامين الجزائريين آنذاك، هكذا لم يمنع استيراد مجلات عربية وفرنسية متخصصة في الأطفال، ولم تمنع المنافسة، من إقبال القراء على اقتناء المجلة الجزائرية والاطلاع على محتوياتها الرائعة؛ بينما عندما توقف الاستيراد، توقفت المجلات الجزائرية عن الصدور أو تكاد؛ ما عدا محاولات محتشمة، لم يكتب لها الاستمرار.
عندما نطلّع على الأرشيف نجد تجارب ناجحة جدا شكلا ومضمونا، صدرت في السنين الأولى للاستقلال، كيف حدث هذا التراجع؟
مجلة الثقافة، مثلا، التي كانت تصدرها وزارة الثقافة، سنوات الثمانينيات والتسعينيات، والتي أحتفظ في مكتبتي الخاصة بأعداد كثيرة منها، أعود لها كل مرة في أبحاثي ومقالاتي؛ سنجد عندما نطالعها مقالات رائعة في الأدب والثقافة والتاريخ، لا تقلّ شأنا وقيمة عن مقالات مجلات عربية عريقة؛ مقالات ودراسات صارت الآن مرجعا حقيقيا في الأدب والتاريخ. المجلة كان يشرف على رئاسة تحريرها أبرز كتّاب تلك الفترة مثل الدكتور حنفي بن عيسى، عثمان شبوب، الشاعر صالح خرفي؛ وكان يحرص على الكتابة فيها أبرز كتّاب تلك المرحلة على غرار: أبو القاسم سعد الله، عبد الله شريط، بشير خلف، ابن هدوقة، محمد زتيلي، عبد المجيد مزيان، محمد مرتاض، زهور ونيسي...وهو ما دفعني إلى أن أقترح على رئيس تحرير مجلة «انزياحات» التي أصدرتها وزارة الثقافة حديثًا، الصديق الكاتب والإعلامي اسماعيل يبرير، اختيار مقال من مقالات مجلة الثقافة، بإعادة نشره في المجلة، حتى يتسنى للجيل الجديد الذي لم يتح له قراءة هذه المجلة العريقة الاطلاع على بعض موادها والاستفادة منها، أذكر في هذا السياق، مقالا رائعا كتبه المفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي وترجمه الدكتور حنفي بن عيسى حول الشيخ البشير الابراهيمي في ذكرى رحيله، كما اقترحت أيضا مقالا مهما جدا، كتبه الشيخ عبد الرحمن الجيلالي عن ابن خلدون. كان هناك تنوّع رائع: للتاريخ مجلة، وللفكر الإسلامي مجلة وهي الأصالة، وللمرأة مجلة وللأطفال أيضا؛ وكانت هناك تجارب ناجحة جدا، يكفي فكرة تخصيص مجلة تعنى بإبداع الشباب، وهي: مجلة آمال؛ التي فتحت صفحاتها لإبداع الشباب، وكانت من وراء اكتشاف مواهب كتّاب كانوا شبابا، أصبحوا الآن كتّابا بارزين.
مع هذا الحال، هل أنت مدين للتحوّل الرقمي الذي فكّ العزلة، وماذا لو لم يتم هذا التحوّل؟
من حسن حظنا كمساهمين ومتابعين للشأن الثقافي في الجزائر والعالم، جاء التحوّل الرقمي في وقته، ليفك عزلتنا ويفتح أمامنا أفقا واسعا نشبع من خلاله فضولنا المعرفي، هكذا أصبحنا نتابع راهن الثقافة العالمية وجديدها بسرعة وتفاصيل دقيقة؛ صار بإمكاننا أن نقرأ معظم الصحف والمجلات تلك التي حرمنا من قراءتها ردحًا من الزمن، نقرأها الآن وبعد صدورها مباشرة؛ ليس فهذا فحسب، بل أتيح لنا قراءة صحف ومجلات لم تكن تصلنا وكنا نحلم بقراءتها. ولعل النتيجة المستخلصة من هذا الانفتاح الرقمي، أن المجلات الورقية في العالم، رغم الطفرة التكنولوجية، مستمرة في الصدور، لم تتوقف، بل وتعرف تطورا وانتعاشا كبيرا؛ عكس ما كان يروّج. هكذا تطوّرت المجلات العربية مثلا، وتدعّمت بكتب كهدية، توزع مجانا مع كل مجلة، وبسعر مدعم في متناول القارئ؛ وهو ما يعني ببساطة أنه لو أتيح استيراد هذه المجلات، سيتهافت لا شك على اقتنائها القراء. لقد بلغ بنا الحال درجة، أن المجلات الثقافية العربية أصبحت تهرّب من بلدان مجاورة خاصة تونس، وأصبح القراء في مدننا الحدودية يقرأون منتوجا ثقافيا كما لو أنه سلعة مهربة.
أمام هذا «العجز»، يصنع كثير من الجزائريين نجاح دوريات ثقافية أجنبية مرموقا، ألا ترى في الأمر تناقضا؟
تتوفر الجزائر على كفاءات إعلامية متميزة، وأقلام جيّدة، تصنع نجاح الصحف والمجلات العربية والعالمية، ثم أن التجربة الناجحة لبعض المجلات الجزائرية سنوات الثمانينيات، أثبتت إمكانية نجاح التجربة الثقافية الاعلامية. الإشكالية أعمق، ترتبط أساسا بذهنيات متكلسة سواء على مستوى الهيئات الثقافية العمومية أو على مستوى القطاع الخاص. ذلك أن الثقافة في مفهوم القطاع الخاص الجزائري، لا تعدو أن تكون مجرّد ترف يختصر مفهومها في فلكلور بدائي، أو كتاب لا يقرأه أحد، أو بضاعة كاسدة، لا تؤدي وظيفتها في اقتصاد السوق؛ تتأرجح بين معادلة العرض والطلب، بعيدا عن المفهوم الحقيقي للثقافة، كمنتجة للوعي، وتحقيق توازن الإنسان في إدراكه السويّ للأشياء من حوله. صار الخواص الجزائريون، الآن، يستثمرون في الرياضة كتسيير مادي، في صفقات بيع وشراء اللاعبين، أو يستثمرون في شؤون السياسة لضمان هالة ما، سعيا منهم لتحصين أسوار محيطهم من شبهات «تكديس» الثروة؛ وليس في مبادرة تأسيس مجلات ثقافية، أو في التربية أو التكوين.
الآن بدأت محاولات لسد الفراغ بتأسيس مجلات جديدة، ألا ترى أن الوقت متأخر والقارئ المبحوث عنه هاجر منذ زمن عبر الفضاء الرقمي؟
الإشكالية التي تتكرر عندنا دائما هي الانسحاب في منتصف الطريق. النيّة الصادقة موجودة في غالب الأحيان، والأفكار والمبادرات أيضا، لكن هذا لا يكفي. تنطلق المجلة بعنوان جديد وزخم وطموح، لكنها سرعان ما تختفي مع العدد الثالث أو الرابع. نحتاج لآليات تسيير جديدة، تتكفل بصناعة الكتاب وإطلاق المجلات. في سوريا على سبيل المثال، هناك نموذج ناجح، من خلال الهيئة العامة السورية للكتاب، وهي مؤسسة تابعة لوزارة الثقافة السورية، ذات ميزانية وصلاحيات واسعة، تُعنى بنشر المجلات والكتب والترجمة وتساهم في تطوير الحركة الفكرية والثقافية ونشاطات القراءة وصناعة الكتاب. تصدر هذه الهيئة مجلة «المعرفة» الشهرية، وعددا من المجلات الفصلية المتخصصة في السينما والمسرح والفنون التشكيلية، ومجلات للأطفال. مجلات لا زالت تصدر في موعدها وبانتظام ودون انقطاع منذ سنوات طويلة؛ وذلك رغم الظروف الأمنية الصعبة التي يعيشها هذا البلد العربي الشقيق. بالإضافة إلى المساهمة الثمينة لهيئات أخرى نشطة وفعالة، مثل اتحاد الكتّاب، الذي يصدر عددا من المجلات الشهرية والفصلية، مثل مجلة الموقف الأدبي، وصحيفة الأسبوع الأدبي، ومجلات مثل الفكر السياسي، التراث العربي، الآداب العالمية، وهو الشيء الذي لا نجده عندنا للأسف الشديد. الكاتب الراحل عمار بلحسن، كان قد عبّر عن هذا الوضع البائس الذي نعيشه، قائلا: «بداهة إنّ غيّاب وندرة المجلات في السوق الثقافية، يجعل من الثقافة الجزائرية، عالما مغلقا ومتخلفا، لا يعرف أو يشارك في تحوّلات أو يساهم في نقاشات أو حوارات، كما أن القارئ والكاتب يعيشان في عالم ثقافي قاحل، لا يسمح بأي موازاة أو مقارنات أو مقاييس، ويخلق نماذج وشخصيات ثقافية وأدبية، تملك تضخّمات عن نفسها وإبداعها وتشبه «مثقفي القرى» أو تدعي أنها تخترع البارود من جديد».