إنّ المجتمع المدني الحيوي والمتنوع والمستقل، والمنوط بالمعرفة، والمهارة في مجال حقوق الإنسان والذي يحتاج إلى حرية ومسؤولية وضبط، هو عنصر أساسي في تامين حماية مستدامة لحقوق الإنسان وتحقيق التنمية المستدامة.
نحن في عالم يشهد حركة متسارعة للأحداث والأوضاع، أضحت مسألة حقوق الإنسان موضوعا ذو أهمية قصوى سواء كان ذلك على الصعيد الوطني أو الدولي، فهذا الموضوع، كان ولا يزال محل العديد من الفعاليات المتعددة الأبعاد، وكذا الاتفاقيات الدولية والإقليمية يثير انتباه رجال القانون ومناضلي حقوق الانسان والمفكرين والباحثين، بل مصدر ومبدأ انشغالهم.
كما يزداد الحديث عن حقوق الإنسان يوم بعد يوم حتى أصبح الدفاع عنها شعيرة من الشعائر، وأصبح مبدأ احترامها احد المعايير المهمة في تحديد العلاقات، والمعاملات الدولية، وكذلك في قياس التطور السياسي لأي مجتمع، وتتخذ مقياسا للنمو، أو تلبية الحاجات الأساسية التي تستخدم في تحديد مستوى تطور الدول اقتصاديا وماديا، فالمفهوم اكتسب عالمية جديدة ذات فعالية أكبر، ذلك أن كل الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومختلف مواثيق القانون الدولي لحقوق الإنسان تتجاوز، وتخترق الحدود السياسية الجغرافية اللغوية، وحتى الدينية، والثقافية.
والعولمة حاليا لم تترك مجالا إلا وحشرت أنفها فيه، لدرجة بات كل شيء معولما سواء اتفقنا أو تكيّفنا معها أو عرضناها أو رفضناها، لكن لا يمكن أن نتملص من التعاطي معها، فقد دخلت كل جوانب حياتنا، ومن أبسط الأشياء إلى أرقها خصوصا في ظل ثورة الاتصالات والمواصلات، وتكنولوجيا الإعلام وتدفق المعلومات، والطفرة الرقمية، حيث اكتسب حقل حقوق الإنسان في ظل هذه العولمة بعدا جديدا مهما، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل على صعيد العلاقات الدولية في جوانبها السياسية والاقتصادية، أيضا ما رافق هذا المفهوم من تطور.
ويتجلى هذا التطور في بروز معايير جديدة فعالة في العلاقات الدولية، وفي هذا المنظور ترى الباحثة «مارتينا فيشر» من مركز «برغهوف» للأبحاث بألمانيا، أن نظرية العلاقات الدولية التي تقدم مصطلح الفاعلين غير الحكوميين الذي يشمل جميع الفاعلين على المستوى الدولي الذين لا ينتمون للحكومات، يعكس هذا التعريف نظرية الواقعية التي تقتضي بأن التفاعلات بين الحكومات تشكل العلاقات المحورية، والهامة فى السياسة الدولية، ويتضمن هذا المصطلح منظمات المجتمع المدني الحاضرة في الحياة العامة، والمعبرة عن مصالح وقيم أعضائها أو قيم أشخاص آخرين بناءً على اعتبارات أخلاقية ثقافية، سياسية، وعلمية أو إنسانية، قائمة حول الأنشطة التطوعية، والجماعية المتمركزة حول المصالح والمبادئ والقيم المشتركة، كما تعمل على تنمية استراتيجيات التواصل التي ترفع الوعي العام من أجل تحسين الدفاع عن قضايا مشتركة من خلال المراقبة والرصد.
من جهة أخرى، لقد كان تأسيس المجتمع المدني العالمي إحدى هذه الظواهر الإيجابية، لاسيما من خلال تعزيز سبل الاتصال والتواصل بين مؤسسات المجتمع المدني على المستوى العالمي، خصوصا في ظل الثورة المعلوماتية وآلياتها، التي تعد العمود الفقري للعولمة، وتتواصل مؤسسات المجتمع المدني من خلال تدفق المعارف، والمعلومات وتأسيس شبكات دولية وإقليمية تعنى بقضايا: الفقر والمرأة والطفولة والبيئة وحقوق الإنسان.
وقد لعبت هذه المنظمات دورا بارزا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، والثقافي، والحقوقي والبيئي والصحي وغيرها في شتى أنحاء المعمورة، كما أسهمت هذه التطورات في عولمة قوانين الجمعيات، والمنظمات الخاصة بالمجتمع المدني على المستوى العالمي، وذلك بتحديد مدوّنة تأخذ المشتركات الأساسية، والتطلعات، والأهداف العامة، مع مراعاة الخصوصية الوطنية، والثقافية للمجتمعات، والشعوب المختلفة وهي تمثل اليوم فاعلا لا يمكن الاستغناء عنه في حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها.
المنظمات غير الحكومية..بين الالتزامات العالمية والسيادة الوطنية
اكتسبت مسألة حقوق الإنسان أهمية كبيرة بالنسبة للمجتمع الدولي، والإنسانية قاطبة في ظل التطورات الحاصلة والمتسارعة، كما أصبحت قضايا حقوق الإنسان اليوم من القضايا التي تحظى باهتمام عالمي بالغ، تسعى من خلاله تأمين حقوق الإنسان بغض النظر عن الجنس، المعتقد، اللون أو المكان، وهو بما يسمى اليوم «عولمة حقوق الإنسان»، التي صارت بدورها مسألة على قدر كبير من الحساسية بالنسبة لسيادة الدول لاسيما ما تعلق بمعاينة ودراسة هذه المسألة والرجوع إلى الآثار المترتبة عن رد فعل إيجابي أو سلبي من قبل الدول، وانعكاسات ذلك على العلاقة بين المجتمع والدولة.
إذا يمكن القول «ربّ ضارّة نافعة»، فإذا كانت العولمة بوجهها المتوحش ظاهرة سلبية على التطور الدولي، فإن المظهر الإيجابي فيها يكمن في وجود منظمات المجتمع المدني الدولي كظاهرة موضوعية بغض النظر عن مساوئها، حيث برز دورها على نحو كبير واستثنائي، ولاسيما في أبعادها المختلفة على الرغم من سلبية بعضها إلا أن ثمة شيئا إيجابيا ولها تأثيرات ملموسة وجوهرية على المجتمعات.
وانطلاقا من هذا الجانب، يمكن للتأثير بمعناه الأوسع أن يكون داخليا، حيث يتسبب فيه غياب حقوق الإنسان ما يولد استياء عاما لدى المواطنين أو ضمن شرائح المجتمع، وذلك ما يمنح دعما، وشرعية، ومصداقية لجميع حركات الاحتجاج الداخلية، وأشكال التعبير المعبرة عن الآمال المشروعة أو ترجمة لطموحات أخرى لم تحض أبدا بتكفل ملائم، قد تكون منبعا ومستندا للمنظمات غير الحكومية الدولية أو حتى المنظمات الدولية في إعداد تقاريرها، وطرحها في المحافل الدولية باعتبارها فاعلا محوريا دوليا وشريكا في صياغة معايير جديدة لحقوق الإنسان بالنظر لمكانتها ودورها الجوهري في تعزيز حماية حقوق الإنسان في المنظومة الدولية.
ومن هنا، يجد التهديد الخارجي ميدانا خصبا في مجتمع غاضب ويئس، وغير راض عن مؤسساته، الشيء الذي يسهل من أعمال الرصد والمراقبة ومن ثم إصدار ونشر تعاليق وآراء التنديد والتشهير والترويج بالنقائص والادعاءات المغلوطة، هذه هي الحقائق التي تشوه صورة البلد في الخارج، وتجذب أنظار المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان ولا شيء غير ذلك. بدلا من السخط على ردود فعل المنظمات غير الحكومية، أليس من الأفضل عدم تزويدهم بالعصا التي يضربون بها؟
فالجزائر كعنصر في المجتمع الدولي تؤثر وتتأثر سواء كان ذلك من خلال، سياستها ومواقفها وإسهاماتها أو من خلال التنفيذ للتعهدات الدولية في مجال حقوق الإنسان والآليات الموضوعة في هذا الشأن، وفي سياق هذه الرهانات وأمام هذه التحديات المترابطة، كفيل لدور المجتمع المدني الوطني أن يبرز كقوة فعالة تساهم في تقوية مناعة حقوق الإنسان على الصعيد الداخلي، وهو ما من شأنه أن تصبح منظمات المجتمع المدني آلية يمكن من خلالها مواجهة المواقف والتكالبات الأجنبية والاملاءات والادعاءات الخارجية ومعالجة الأفكار السلبية الناجمة، بل فحسب ما نحتاجه اليوم وهو الأمر الذي يبدو أنه لم يحظ بالأهمية الضرورية الذي يكمن في تفعيل وتجسيد دور المجتمع المدني، الذي يساهم بصورة فعالة في تعزيز المكتسبات الوطنية والانجازات المحققة، التي لا يمكن لأي أحد إنكارها في هذا الميدان، والترويج لها دوليا وإقليميا عن طريق النشاطات التوعية والتحسيسية المكرسة لثقافة حقوق الإنسان والمنتديات الإعلامية الدولية، وإنجاز الدراسات والبحوث ذات الصلة إلى جانب الممارسة الفعلية لها تحقيقا لإحساس المواطن بها، فأيّ مسار ينبغي العمل في إطاره أو الأخذ به لتجسيد دور هذه القوة الاجتماعية..؟
المجتمع المدني...الجهات الفاعلة والحيّز المتاح
من منطلق الاختلاف في تحديد تعريف المجتمع المدني، فقد تنوعت التعاريف والمفاهيم بمضامين مختلفة لتحديد فضاء هذا المصطلح، الذي يتردد في الأدبيات التي تتعلق بواقع منظمات المجتمع المدني بمختلف مؤسساته (الجمعيات المحلية، النقابات العمالية والمهنية، جمعيات حقوق الإنسان، والبيئة، المؤسسات الخيرية، والهيئات التطوعية..إلخ والمقصود إن نطاق المجتمع المدني ينحصر في المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي يقوم نشاطها على العمل التطوعي، فالمجتمع المدني يختلف باختلاف المجتمعات والثقافات، وحتى في علم الاجتماع، وإذا أخذنا بعين الاعتبار العلاقة الوظيفية بينه وبين الدولة، فهو مجتمع مستقل إلى حد كبير عن إشراف الدولة المباشر، وبنحو عام لا يعرف السيطرة، ولا التبعية، ولا يخضع لسلطة الدولة والحكومة، فهو المجتمع المنظم تنظيما مؤسساتيا يعبر عن العلاقة بين الفرد والدولة، ويسعى إلى استثمار طاقات المجتمع لخدمة المجتمع، ذلك أن أساس مؤسسات المجتمع المدني ينبع من الفكرة التي تقوم على المبادرة الذاتية للأفراد، بقناعاتهم واتّحادهم، وبالقدرة على التأثير في محيطهم السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو القانوني، خصوصا عندما تكون هذه المؤسسات مستقلة عن القطاعين الحكومي والخاص، ومتميّزة عنه، الأمر الذي أخذ بعضهم يطلق عليها القطاع الثالث أو القطاع المستقل.
إن تنامي الدور المتصاعد للمجتمع المدني وانطلاقا من الاهتمام المتزايد لهذه الظاهرة، يعتبر مفهوم المجتمع المدني أحد التعابير الأكثر انتشارا وتوسعا في نهاية هذا القـرن وبداية الألفية الجديدة، كما شهد هذا التوسع ارتباطا وثيقا بمفاهيم أخرى كدولة الحق والقانون، الديمقراطية وحقوق الإنسان (أو ما يسمى بمفاهيم الدولة الحديثة)، سواء من حيث الاستعمال أو من حيث الممارسة، بل فحسب أصبح اليوم دوره بارزا كشريك وفاعلا في مجال حقوق الإنسان بالنظر إلى الرهانات والتحديات المترابطة في هذا الميدان على المستويين الدولي والوطني، وهو ما يتسم به النظام الدولي الراهن من تلاشى حواجز المسافات وتنامي وسائط الاتصال المتبادل داخليا وخارجيا.
وليس من المبالغة إن اعتبرنا مفهوم المجتمع المدني إلى جانب المفاهيم السالفة الذكر، تعد أحد المعالم الرئيسية التي تعطى للمرحلة القادمة هويتها وخصوصيتها.
واقع المجتمع المدني في الجزائر وضرورة إعادة بنائه
إنّ تكريس الديمقراطية، توطيد سيادة القانون والحكامة الرشيدة واحترام حقوق الإنسان كل ذلك يشكل مقتضيات لا يمكن الانفصال عنها بالنسبة للدولة العصرية. كما لا يمكن بناء دولة عصرية ضمن هذه المبادئ العالمية دون أن تستند أسسها من المجتمع الذي تمثله، ذلك يقتضى صون وتعزيز بعض العناصر الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية في ترسانتها القانونية نصا وممارسة، وبالخصوص دور المجتمع المدني كعنصر أساسي.
وفي هذا الإطار، وبالوقوف على واقع المجتمع المدني في بلدنا، يمكن القول أنه لا تغيير ملموس مسجل في هذا الشأن رغم العديد من التقييمات والدراسات التي تمت مباشرتها بخصوص هذا الموضوع من طرف خبراء بارزين، وتعددت الكثير من الآراء تجاه هذه المسألة التي عرفت توسعا هائلا، وتطورا قويا مع ظهور التعددية في الجزائر إلى غاية يومنا هذا بفضل نضالها المستمر، إذ سجلت إنجازات هامة عبر مختلف المحطات والفترات التي مرت بها بلدنا، حيث تبدو نشطة للغاية على الرغم من بعض التدابير الواردة بالقانون الجديد المتعلق بالجمعيات التي انتقدها الفاعلون والنشطاء، وبالنظر إلى الواقع العملي والفعلي للمجتمع المدني وتحديات الساعة، فإن الأمر مغاير لحقيقة مسار المجتمع المدني كقوة اجتماعية وكشريك وفاعل أساسي لمواكبة هذا العهد الجديد للجزائر، الذي يتطلب حزمة من الإجراءات والآليات بهدف تأطيرها لتصبح مستقبلا رافدا في تجسيد السياسات التنموية على المستوى المحلي، وتعزيز حماية حقوق الإنسان على المستوي الوطني تحت عنوان الديمقراطية التشاركية .
واليوم، وبالأخص في هذه الفترة التي يمر بها وطننا، أضحت الديمقراطية مطلبا حقيقيا، وجماعيا للشعب، فإن تلبية مقتضياته في هذا المجال، لا يتجسّد إلا من خلال تكريس بعض المبادئ الأساسية لدولة الحق والقانون، ولن يتأتى ذلك إلا بالتطبيق الفعلي والعملي لتلك المبادئ والعناصر الضرورية والمزاوجة بينهما، وذلك وقف رؤى وخطوات ملموسة لتعزيز دولة القانون التي استمدت جذورها من بيان الفاتح نوفمبر 1954 الذي تبنى الديمقراطية كنموذج للحكم، والذي يتطلب أيضا إصلاحا جذريا متصل الحلقات، وهو مسار يحتاج دائما إلى تشجيع التنسيق والتشاور والمشاركة يراعى فيه دور المجتمع المدني لإعادة بنائه وتجسيده على ارض الواقع كعامل أساسي.
وعامل آخر لا يمثل أقل أهمية، حيث سيشكّل التكريس الفعلي للامركزية، عاملا قويا في دولة القانون ووسيلة حيوية للتجانس الوطني، ولذا فإن التفكير في دور السلطات المحلية وبصلاحيات واسعة تكفل مكانة فعلية للمجتمع المدني تسمح له بالقيام بالدور المنوط له على هذا المستوى أمر ضروري للغاية، ذلك من حيث أنه يعزز الديمقراطية التشاركية من خلال مشاركة الفاعلين المحليين في مسار اتخاذ القرار العمومي. وبمعنى آخر يساهم في تقوية هيئات لا مركزية لاسيما البلديات التي تمثل الخلية القاعدية للساكنة العامة.
إن الواقع والرهانات الاجتماعية السياسية الحالية لا تترك مجالا للشك في ضرورة بعث المجتمع المدني من أجل دور جديد يساير التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خاصة، ليصبح دوره رياديا في التوجه نحو الإصلاح والحوكمة المحلية بما ينعكس إيجابا على أداء المؤسسات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ومن الملاحظ كذلك تضخم المجتمع المدني أكثر فأكثر، وتوسع حضوره في المشهد العام على حساب الأحزاب لسبب أو لأسباب أخرى، فإن تقزيم دوره المتعاظم في حياة المجتمع قد ينعكس سلبا على بلوغ الديمقراطية المطلوبة وتوفير الشروط الضرورية لتعميق ممارستها وتأكيد قيمتها الأساسية، وهو ما ينبع من طبيعة المجتمع المدني وما تقوم به منظماته من دور وظائف في المجتمع لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية بما يتماشى مع احتياجات العصر، فالجزائر اليوم تحتاج لهذا المجتمع المدني الذي أبان قدرات لا يستهان بها لاحظناها وشهدناها خاصة في الأزمة الوبائية الحالية، خاصة في التصدي للأزمة عن طريق المبادرة والانخراط في الحملات التحسيسية بروحه التوعوية والتضامنية، فضلا عن مشاركته الايجابية لمختلف منظماته في الحملة الانتخابية حول دستور الجزائر الجديدة.
المجتمع المدني المنظّم أو الفوضوي؟
«إذا لم يصغي القادة لشعوبهم، فإنهم سيسمعونهم في الشوارع والساحات، أو كما نرى الآن في كثير من الأحيان، في الساحات. هناك طريقة أفضل، المزيد من المشاركة، المزيد من الديمقراطية، المزيد من الانخراط والانفتاح. وهذا يعني إتاحة الحيز الأقصى للمجتمع المدني»، تصريح بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، في الحدث الرفيع المستوى بشأن دعم المجتمع المدني، 23 سبتمبر 2013.
إن مثل هذا التصريح يقودنا إلى الحديث، والجزم بأن حرية التعبير، وتكوين الجمعيات، والتجمع السلمي، والحق في المشاركة في الشؤون العامة تعمل بمثابة وسيلة لممارسة العديد من الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى. فهي تمكّن الرجال والنساء كجهات فاعلة في المجتمع المدني من الانخراط في أنشطة تهدف لإحداث تغيير مجتمعي باتجاه الأفضل.
فالمجتمع المدني كأفراد، ومجموعات ينخرطون بشكل طوعي في أشكال المشاركة، والعمل العام بشأن مصالح أو أغراض أو قيم مشتركة تتفق مع الأهداف المنشودة في شتى المجالات المرتبطة بحياة المجتمع، وذلك من منطلق تحسين الحياة اليومية الذي يعكس مبدأ العمل المتجذر في احترام حقوق الإنسان، فإن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني تسعى إلى تعزيز حماية حقوق الإنسان، سواء بشكل صريح أو ضمني من خلال مضمون عملهم أو طبيعته.
وتعزّز الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الوعي بالحقوق، وتساعد المجتمع في صياغة الشواغل ورسم الاستراتيجيات، والتأثير على السياسات والقوانين. كما تعمل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني على جمع آراء المجتمعات، وإيجاد السبل حتى يتسنى لها الاطلاع على عملية اتخاذ القرارات بشأن السياسات العامة بشكل كامل. هذا وتوفر الجهات الفاعلة في المجتمع المدني خدمات، وسبل لأولئك الذين هم عرضة للخطر، والضعفاء على جبهات متعددة كالنساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة.
ويؤكد نص المادة 1 من إعلان الأمم المتحدة المتعلق بحق ومسؤولية الأفراد والجماعات وهيئات المجتمع في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها عالميا بأنه «من حق كل شخص، بمفرده وبالاشتراك مع غيره، أن يدعو، ويسعى إلى حماية، وإعمال حقوق الإنسان، والحريات الأساسية على الصعيدين الوطني والدولي».
ومن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني على سبيل المثال: منظمات حقوق الإنسان (المنظمة غير الحكومية والجمعيات والشبكات بشأن، أمثلة، حقوق المرأة أو حقوق الطفل أو القضايا البيئية، الأشخاص ذو والإعاقة)، المدافعون عن حقوق الإنسان، بمن فيهم الناشطين على شبكة الانترنت، الاتحادات والنقابات وكذلك الجمعيات المهنية الخاصة بالصحافيين والقضاة والمحامين ونقابات المحامين، والأطباء والمهنيين، المؤسسات العامة التي تبذل أنشطة بهدف تعزيز حقوق الإنسان (المدارس والجامعات والهيئات البحثية)، حيث يتوسع نشاطها في محاولة حل المشاكل ومعالجة القضايا التي تهم المجتمع: كمكافحة الفقر والفساد وعدم المساواة الاقتصادية، تعزيز سيادة القانون والمساءلة ومراقبة الانتخابات، تعزيز الحريات العامة والمواطنة، حماية البيئة، إعمال الحق في التنمية، تمكين الأشخاص المعرضين للخطر، مكافحة أي شكل من أشكال التمييز، دعم جهود منع الجريمة، مكافحة الاتجار بالبشر، تمكين النساء، محاربة خطاب الكراهية، تمكين الشباب، دفع عجلة العدالة الاجتماعية وحماية المستهلك، الاستجابة للأزمات الإنسانية.
وتعمل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني على جميع الأصعدة: المحلية والوطنية، ويتمثل الحيز المتاح للمجتمع المدني في المكانة التي تشغلها الجهات الفاعلة في المجتمع والإطار الذي يعمل المجتمع المدني من خلالهما والعلاقات السائدة فيما بين الجهات الفاعلة في المجتمع وكل من الحكومة، القطاع الخاص وعامة الجمهور.
وفي هذا الإطار قام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة باعتماد عدة قرارات لصالح المجتمع المدني ذات أهمية خاصة، ومنها على سبيل المثال اعتماد قرارين رقم 21/24، و31/37، يقرّان بالأهمية الحاسمة للمشاركة النشطة للمجتمع المدني، على جميع المستويات، في عمليات الحوكمة، وفي تعزيز الحكم الرشيد بطرق من بينها تحقيق الشفافية والمساءلة على جميع الصعد، وهو أمر لا غنى عنه لبناء مجتمعات تنعم بالسلام والرخاء والديمقراطية.
ظروف العمل الحر والمستقل والممارسة الجيدة للمجتمع المدني
إنّ الدور الأساسي الذي يلعبه المجتمع المدني في البناء الديمقراطي والتغير الإيجابي لا يمكن تجسيده إلا بتوفر مناخ وبيئة عمل مؤسسات المجتمع المدني تبرز الدور المنوط له، والداعم له والمشجع لمختلف الاهداف والدوافع المنشئة له وللأدوار العديدة التي يمكن أداؤها، على سبيل المثال المشاركة في وضع قوانين، السياسات العمومية، الانتخابات الحرة والنزيهة باعتبارها إحدى المؤشرات المهمة التي تعتمد لقياس مستوى نضج اي تجربة ديمقراطية، ووسيلة أساسية لتعبير الشعب عن إرادته الذي هو أساس سلطة الحكم ذاتها، كما تعد الوسيلة أكثر رواجا في ترسيخ ثقافة المشاركة السياسة، وتعبئة الأفراد، وتعزيز مشاركتهم الايجابية في صنع القرار كونها الحاضن الأول للتغير، وبالتالي تغير واقع إلى واقع أفضل.
وفي هذا السياق، تتطلب الالتزامات القانونية الدولية ظروفا اقتصادية، سياسية، اجتماعية، ثقافية وقانونية من شأنها دعم قدرة وإمكانية الأشخاص، بمفردهم أو بالاشتراك مع غيرهم، على الانخراط في الأنشطة المدنية بفاعلية، فقد دعا إلى ذلك الأمين العام للأمم المتحدة سابقا، «بان كي مون»، في رسالة مسجلة بالفيديو خلال الدورة 25 لحقوق الإنسان سنة 2014، موضحا بأن «المجتمع المدني الحر المستقل يشكل محور الحوكمة الديمقراطية والمتجاوبة مع الأصعدة المحلية والوطنية والعالمية».
كما تسمح مبادئ حقوق الإنسان التي تؤطر العلاقة بين السلطات العامة، والجهات الفاعلة في المجتمع المدني كالمشاركة، عدم التمييز، الكرامة، الشفافية والمساءلة، المشار إليها في القرار رقم A/HRC/25/55 بخلق بيئة تكفل ممارسة فاعلة للمجتمع المدني ضمن حيز مشترك للحوار والتعاون، وبيئة سياسية عامة مواتية في اطار تنظيمي داعم بالموارد المتاحة، فضلا عن التدفق الحر للمعلومات كحرية الوصول إلى البيانات والتقارير والمبادرات مما يمكن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني من الاطلاع والعلم بالقضايا، والتعبير عن الشواغل والانخراط بشكل بناء والمساهمة في إيجاد الحلول.
ولكي تكون منظمات المجتمع المدني فاعلة، تحتاج أيضا إلى منابر عامة تسمح بتبادل المعلومات والأفكار وتدفقها، إذ تمثل حرية الصحافة أحد المبادئ التي كرسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهي مهمة في حد ذاتها ومهمة أيضا لممارسة الحقوق الأخرى، من خلال دورها التوعوي، الوقائي والرقابي بحيث تشكل مؤشرات لمراقبة مستوى ممارسة حقوق الإنسان، ومكملا لممارسة الديمقراطية الحقيقية.
المعايير القانونية الدولية المتصلة بعمل المجتمع المدني
المشاركة في الشؤون العامة هي بمثابة حق من حقوق الإنسان التي تمكن الشعوب من تبادل الأفكار، وتكوين أفكار جديدة، فهي بمثابة وسيلة لممارسة العديد من الحقوق والحريات الأساسية، وعبر ممارسة هذه الحريات العامة تتخذ قرارات مستنيرة بشأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتمكن من الانخراط في أنشطة تهدف لإحداث تغير مجتمعي باتجاه الأفضل، غير أن الحد منها يقوض التقدم الجماعي، الاقتصادي والرقي الحضاري.
كما يستمد المجتمع المدني دوره من خلال القانون الذي يمنح شرعية وجوده، ومشروعية عمله، الذي ينظم الأطر العامة لنشاطات ديمقراطية عريضة تعتمد توسيع قاعدة المشاركة في الحكم لكل أفراد المجتمع، ومن خلال مؤسساته التي تصبح شريكة فعالة في آلية إدارة الشؤون العامة، لذا فإن وظائف منظمات المجتمع تعمل على تقوية مبادئ الديمقراطية، والمواطنة الصالحة، وإثارة الوعي الديمقراطي وتشجيع العمل التطوعي وبناء نخب مجتمعية كفؤة وفاعلة واحترام حقوق الإنسان وتحصينها من خلال التوعية وتعريف الناس بحقوقهم وتأطيرهم للدفاع عنها.
ولتحقيق ذلك المبتغى، يمكن القول ان مؤسسات المجتمع المدني يجب أن تقوم بإعادة بناء واقع مجتمعي جديد، وبالذات في أسسه الثقافية، الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية لضمان قيام حياة تشاركية حقيقية تستند إلى إطار قانوني وطني متين يرتكز على المعايير الدولية لحقوق الإنسان، حيث تنطبق هذه المعايير الدولية على جميع أفرع الدولة: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وسواها من السلطات العمومية أو الحكومية، على أي صعيد كانت – وطني أو إقليمي أو محلي والدول مطالبة وفق التزاماتها، حيث يقع على عاتقها المسؤولية الأساسية لتعزيز وحماية ممارسة هذه الحقوق.
وفي هذا الشأن، يقول البروفيسور السيد «نايجل رودلي» رئيس اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، في تصريح خلال أكتوبر 2014 «لا يوجد بيننا من يمتلك لوحده كافة الحقائق أو أفضل الأفكار أو المعرفة بجميع الأسباب الكامنة وراء المشاكل التي نسعى لحلها، ويشمل ذلك الحكومات. يمكننا الاستفادة فقط من الحكمة الجماعية. ولذا فإنه من المهم بالنسبة لنا أن نسمع، قبل اتخاذ أي قرار كان، من كافة جمهور الناخبين، لاسيما الأصوات المهمشة، فعلى سبيل المثال تجمع لجنة حقوق الإنسان معلومات من مجموعة واسعة من المصادر: الحكومات بذاتها والأمم المتحدة والمجتمع المدني. وهذا يساعد على إبلاغ ملاحظاتنا الختامية، وتوصياتنا للحكومات، والتي تحدد الخطوات العملية الواجب اتخاذها من قبلها، لتصبح قوانينها وممارستها أكثر توافقا مع التزاماتها بموجب معاهدات حقوق الإنسان التي صادقت عليها»، حيث تتضمن معظم المواثيق الدولية والاقليمية لحقوق الإنسان أحكاما ذات صلة مباشرة بحماية الحريات العامة، وتشير جميعها إلى مبدأ عدم التمييز، وحق المشاركة في الشؤون العامة، وحرية التعبير، وتكوين الجمعيات، وهي المواثيق التي صادقت عليها الجزائر على غرار البلدان الاخرى.....
• الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المواد 21.20.19).
• العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المواد 25.22.21.19).
• العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المواد 15.8 ).
• اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (المادة 3).
• الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري (المادة 5).
• اتفاقية حقوق الطفل (المادتان 15.13).
• اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (المواد 30.29.21).
• الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (المادة 24).
• الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم (المادة 26).
وإلى جانب هذه المواثيق الأساسية، وثائق لها من الأهمية من ناحية مصدرها وتأثيرها في حركية الالتزامات الدولية في هذا المجال التي تعد فضاءً للتعليل والتفسير والتوضيح المنبثقة من اللجان التعاهدية الاممية كلجنة حقوق الانسان خاصة ما تعلق، بالتعليق العام رقم 34، المادة 19: حرية الرأي والتعبير، CCPR/C/GC/34، والتعليق العام رقم 25: الحق في مشاركة الشؤون العامة، CPR/C/21/REV.1/Add7 وتقارير المقرر الخاص المعني بالحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات A/HRC/23/39و، A/HRC/20/27
كما تضطلع حريات التعبير وتكوين الجمعيات، والتجمع السلمي بمهام ومسؤوليات استثنائية، ومن هنا فقد تعترض ممارستها محددات معينة، ينبغي لأي قيود أن ينص عليها في أحكام القانون كما، وينبغي أن تكون لغايات الضرورة القصوى لصالح احترام حقوق الغير أو سمعتهم، أو لحماية الأمن القومي أو الأمن العام أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
ولا يجوز أبدا التذرع بهذه الأسباب الموجبة كمبرر لتكميم أية دعوة إلى ديمقراطية تعددية، والتعاليم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
المجتمع المدني شريك لتحقيق التنمية المستدامة على نهج حقوق الإنسان
لاشك بأن الأديان السماوية كانت سباقة في الدعوة إلى العمل الخيري بجميع أشكاله، أما على المستوى الوضعي فقد نشأ وتطور مفهوم المجتمع المدني منذ القدم إلى غاية عصرنا هذا، أين أولت المجتمعات المعاصرة اهتماما ملفتا لعمل منظمات المجتمع المدني التطوعي، حيث تم طرحه على المستوى الدولي تحت عنوان برنامج الأمم المتحدة التطوعي في عام 1967، وتطورت العملية التطوعية حتى أصبحت معيارًا ومؤشرًا قويًا للتنمية والتقدم.
وبهدف التأكيد على الالتزام الدولي بتحقيق التنمية وتقويم التقدم المحرز في هذا الشأن، سعت المجموعة الدولية من خلال مختلف المؤتمرات والندوات والمشاورات بإقرار وضع خطط وفرق عمل من أجل الوصول إلى خطة عالمية، وهو ما يعرف اليوم بـ «أجندة التنمية المستدامة 2030» التي تم إقرارها في سبتمبر 2015، باعتبارها المسار المتفق عليه دوليا للتنمية، تؤكد على أهمية دور المجتمع المدني في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، كما تؤكد على التزامها بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني في تحقيق هذه الأهداف، فقد دعا الهدف 17 من أهداف التنمية المستدامة إلى تشجيع وتعزيز الشراكات بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني من أجل تحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.....فكيف يمكن تحقيق ذلك؟
تكمن أهمية الدور الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني في العملية التنموية في أهمية خطة أو أجندة 2030 للتنمية المستدامة كونها تمثل أجندة شاملة طموحة تحويلية، والتي يطرح عليها اسم «تحويل عالمنا»، وقد صادقت عليها حكومات الدول مما يجعلها تشكل فرصة سانحة، ومناسبة لمناقشة السياسات العامة بما يتناسب التوجهات التنموية، والحقوقية الوطنية، وقد سبق الترويج لهذا الدور قبل ذلك من خلال القمة العالمية لمجتمع المعلومات المنعقدة بجنيف 2003 و2005 بتونس على أنه «لم يعد ممكنا أن نتصور إمكانية تحقيق السياسات، والبرامج والتنفيذ بقدر من الفعالية بدون مشاركة نشطة من المجتمع المدني الذي تحول إلى أطراف فاعلة رئيسية، وفي تصميم السياسات والبرامج يكفل وجود تعد المنظور الذي تتخذ فيه القرارات زيادة قوة النتائج، وفي إطار التنفيذ، يمثل المجتمع المدني طرفا جوهريا، وخاصة على الصعيد المحلي».
وفي حين أن المسؤولية الرئيسية لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة تقع على عاتق الدولة، فإن تحقيق النتائج المرجوة يتطلب جهوداً متضافرة من عدد لا يحصى من أصحاب المصلحة و/أو مختلف الشركاء بما في ذلك المجتمع المدني، وهذا أمر مهم خاصة وأن تحقيق ذلك يتطلب أن يصبح الافراد أنفسهم عنصراً فاعلاً في عملية التنفيذ ومن أجل القيام بذلك، ينبغي الوصول إلى الناس على مستوى القاعدة الشعبية عن طريق الحوار والتنسيق والتعبئة وتعبئتهم للعمل.
لكن التحديات ليست سهلة، فقد برزت مناقشات المؤتمر العربي حول دور المجتمع المدني في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة المنظم من قبل المنظمات غير الحكومية للتنمية، واللجنة الاقتصادية الاجتماعية التابعة للأمم المتحدة والمنعقد سنة 2017 انه من بين الشواغل التي تواجهها منظمات المجتمع المدني خاصة في منطقتنا العربية لعل أهمها افتقار بعض الدول إلى الحوار بين الأطراف المعنية، واستبعاد منظمات المجتمع المدني في كثير من عمليات التخطيط والتنسيق.
إن تجسيد دور المجتمع المدني في هذا المقام هو تجسيد اهداف منظمات المجتمع المدني بحد ذاته التي تسعى لتحقيقها، من خلال دورها الخدمي والخيري، فضلا عن العوامل التي تجسد نشاطاتها. فقد ازداد تأثير مؤسسات المجتمع المدني، وأخذت تلعب دورا منشودا، لاسيما في عملية التنمية، ويمكن ملاحظة التأثير الإيجابي لمؤسسات المجتمع المدني عبر ثلاثة أطر، هي: الخدمات (التي تمنحها) والشراكة (التي تنشدها) والعمل التعبوي (الوطني والقومي الذي تقوم به لتحريك المواطنين) من خلال تفعيل المشاركة الواعية والفاعلة على ارض الواقع وذلك بالتنسيق والشراكة، حيث يترتب على هذه الشراكة مسؤوليات مثل (المتابعة والمكاشفة والمساءلة والمحاسبة المتبادلة)، تساهم في بناء الوعي التنموي واستقراره، وتوظيفه في تحقيق التنمية المستدامة التي تعاظمت أهميتها نتيجة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
بالإضافة كذلك إلى فلسفة المجتمع المدني التي تقوم على استكمال دور الحكومات والجهات الرسمية في تقديم البرامج، والسعي لحل المشكلات القائمة، والقيام بمبادرات ذاتية وتقديم مقترحات والكشف عن الطاقات الكامنة لدى الأفراد لتوظيف خبرتهم النوعية وتنظيمها على نحو يتّسق مع خطط التنمية والاستفادة من القدرات الذاتية للأفراد لوضعها في خدمة المجتمع، وتقديم تصوّرات مستقبلية، وذلك من خلال العمل التطوعي للنهوض بالمجتمع إلى مستوى الطموحات والأهداف التي تنشدها الدولة والمجتمع.
تحديات وآفاق المجتمع المدني في الجزائر الجديدة
قد تواجه الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، عقبات تهدف للحيلولة دون القيام بأنشطتهم المشروعة أو التقليص من تأثيرها أو عكسها وذلك بسبب انتقادهم أو معارضتهم لمواقف الحكومة وسياساتها أو إجراءاتها.
وقد تشمل هذه العقبات فرض قيود على الحرية، والاستقلالية، أو المضايقة لاسيما التدابير المعيقة لعمل المجتمع المدني، والتي تستند إلى القانون او الأحكام القانونية، قد تتناقض مواءمتها مع معايير حرية تكوين الجمعيات على الصعيد الدولي التي تنطبق كذلك على الصعيد الوطني والمحلي كما جاء ذلك في تقرير مقرر الأمم المتحدة الخاص بالحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات A/69/365 وقرار مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة 24/21.
علاوة على القيود المفروضة بشكل قانوني، والتي من شأنها تقويض الحيز المتاح للمجتمع المدني، فإن إنعدام الادارة الديمقراطية والحكم الراشد داخل هذه المنظمات نفسها وعدم الإلمام بالتدابير والمناهج المعمول بها ونقص الاحترافية والمهنية التي تقيها من خطر التسييس والاستغلال السياسي تحول كذلك دون ان تصبح قوة الاقتراح والتأثير وشريكا منظما ذي مصداقية مكملا للسلطات العمومية وإطارا منظما لتعلم الثقافة الديمقراطية. فتعزيز الديمقراطية تستند هي كذلك على وجود نسيج جمعوي ونوعي وفعال، وهو ما يعد شرطا اساسيا مسبقا لبناء مجتمع مدني قوي قادر على رفع تحديات العصر.
إن الإرادة السياسية للسلطة في دسترة المجتمع المدني واستحداث فضاء دستوري مستقل، تسطع فيها الافاق والتطلعات في إطار الجزائر الجديدة، تقتضي تقويما شاملا للمجتمع المدني من أجل الارتقاء به إلى مستوى المعايير الدولية المطبقة في هذا المجال مع الاخذ بخصوصيتنا الحضارية والفكرية، وجعله يتمتع بحرية ومسؤولية مشفوعا بالأخلاق والآداب العامة، من أجل تجسيد لبنة إضافية في بناء الصرح الديمقراطي.
وكما يقال «الأزمة تلد الهمة»، فالحاجة اليوم أصبحت فرصة لتكريس المجتمع المدني وتعزيز دوره الحيوي كقوة اجتماعية وكشريك فعال إلى جانب الشركاء الآخرين، من حيث انه لا يستطيع ان يعمل بمفرده او يعيش في عزلة، ولن يتأتى ذلك إلا بوضع اليات ملائمة لترقيته وبشكل فعال من خلال تأطير جيد وتنظيم محكم يساهم في تكريس الديمقراطية التشاركية كفعل وليس كشعار ضمن استراتيجية شاملة ورؤية مستقبلية واضحة قائمة على التفكير التشاركي والإيجابي لأحداث التغير الايجابي، وتحقيق التنمية فى مختلف ابعادها وترسيخ الثقافة الديمقراطية والسياسية وتجسيد المواطنة الصالحة لبناء الجزائر الجديدة.
إن عالمنا اليوم يعتبر ويفرض في آن واحد ان المجتمع المدني يعد احد المكونات الرئيسية لكل مجتمع يوصف بالديمقراطي، بالإضافة الى انه يعتبر احد اهم الآليات الوطنية في تعزيز حقوق الانسان، حيث يقع على عاتقه دور اساسي يتمثل في الاسهام الفعال في التنمية وتحقيق التقدم من خلال استخدام قدراته وإمكاناته لخدمة المجتمع بشكل عام، كما انه يعد احد المؤشرات التي تستخدم لقياس مدى احترام الدول لحقوق الانسان.
وخير ختام هذه المساهمة الخاصة، ما قاله المفكر مالك بن نبي رحمه الله «ما لم نغير أنفسنا فإنّ غيرنا سيغيّرنا»، وإن التغير يبدأ بتغير عالم أفكارنا ومناهجنا، لأننا لا نعاني من فقر مدقع في الإمكانيات المادية بقدر ما نعاني من فقر مدقع في الفكر، وفي العمل أيضا. فمشكلاتنا ليست مجرد الإمكانات المالية، وإنما الاستثمار الحقيقي هو استثمار الطاقة الاجتماعية، طاقة الإنسان الذي هو قيمة القيم.