مخطّط صهيوني تخريبي يريد إشعال المنطقة المغاربية
عاملان استراتيجيان يجعلان بلادنا مستهدفة
فتح قنصليات في العيون المحتلة قرصنة دبلوماسية
يشخّص الخبير الدولي المختص في أزمات الساحل وقضايا الهجرة، حسان قاسيمي، في هذا الحوار، طبيعية التهديدات التي تواجهها الجزائر في الداخل وفي جوارها الإقليمي، مؤكدا أن كل المؤشرات اشتعلت بالأحمر، بسبب مخطط تخريبي تقف وراءه قوى الهيمنة والأطماع التوسعية.
هذه التهديدات عالية الخطورة، حسب قاسيمي لا تدفع إلى الخوف، لأن الجزائر قادرة على صدها وضربها في المهد، ولكن تحفز أكثر من أي وقت مضى تقوية مؤسسات الدولة وعصرنتها، وتعزيز صمودها لبناء قدرة استباقية للاستجابة لمختلف المخاطر المتغيرة.
- الشعب ويكاند: بصفتك خبيرا دوليا في الأزمات والشؤون الاستراتيجية، كيف تشخّص الوضع الأمني اليوم، في الجوار الإقليمي للجزائر؟
الخبير حسان قاسيمي: بداية دعني أشير إلى العولمة، لقد وصلت إلى نهايتها تاركة اختلالات عميقة أضعفت الدول، ودفعتها إلى التنازل عن عناصر كاملة من سيادتها لصالح منظمات غير حكومية، أو منظمات أممية على غرار منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، ومجلس الأمن الدولي الذي تحول إلى هيئة تمارس الوصاية على الدول بصفة غير شرعية وقمعية.
هذه المنظمات غير المنتخبة، يسيّرها موظّفون استطاعوا إخضاع بلدان، يسدون أوامر لحكومات منتخبة، مقوّضين بشكل خطير سيادتها. لقد تم تفقير الشعوب، وأصبحت في مستوى متدني من الهشاشة مما ضاعف نسب الفقر والبؤس في العالم، ونجم عن ذلك موجات من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في الدول الليبرالية.
مجلس الأمن الدولي، الذي مهمته حماية الأمن، تحول هو الآخر إلى أداة للهيمنة والمواجهة، وهو ما يتعارض مع مهمة السلم التي أنشئ من أجلها، ما يجعل من إصلاحه حتمية تصب في مصلحة السلم الدولي.
ومن أجل معالجة مشكلة السيطرة على الموارد الأولية، وضمان النمو والقوة الاقتصادية، وضعت الدول الغنية نصب أعينها هدف السيطرة بالقوة على أقاليم غنية بالمعادن أو تقع في ممرات إستراتيجية، برية، جوية أو بحرية. أول ضحايا هذه الإمبريالية الجديدة - تتخفى أحيانا تحت غطاء التحالفات الدولية برعاية من مجلس الأمن الدولي - هي الدول الهشة، منقوصة السيادة والتي تخضع لهيمنة مخادعة، بصيغة تعاون مشروط يتضمن بنودا مجحفة وقاتلة.
ولفهم ما يجري بشكل أعمق، فإن الشرق الأوسط كله، باستثناء سوريا وجنوب اليمن، يخضع للهيمنة المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني اللذين يأملان بشرق أوسط كبير من الفرات إلى الأطلسي، عن طريق تفتيت العالم العربي إلى دويلات، بهدف جعل الكيان الصهيوني قوة إقليمية مهيمنة ومهابة الجانب.
الكيان الصهيوني، هو الوحيد في العالم الذي يملك حدودا مطاطية، يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية، بما يسمح بتجسيد هدفه الأكبر في بناء دولة كبرى على حساب الدول العربية. وتمّت إزاحة كل من شكل عائقا مزعجا أمام تنفيذ هذا الهدف الامبريالي والنيوكولونيالي.
لذلك فالتطبيع اللاّمشروط وبصيغة الاستسلام مع الكيان الصهيوني، يندرج ضمن مسار بداية خضوع وتفكيك العالم العربي. وقد وضع الكيان الصهيوني خططا خبيثة، أدخلت البلدان العربية في صراعات لا تنتهي.
إنّه مخطط تخريبي، تكتيكي، يشبه إلى حد ما الصراع السني-الشيعي، الذي لم يحقق الأهداف المنتظرة، والتي ستفرض اليوم على العالم العربي، بما فيها الدول التي ستتقاتل فيما بينها في صراعات مفتعلة قابلة للانفجار.
اليمن وليبيا والعراق والسودان، تعرضوا إلى هذه الموجات التخريبية، وبرمجت بلدان أخرى لاستقبال كورونا الامبريالية. نلاحظ اليوم أن مصر والسودان بصدد تشكيل تحالف ضد النهضة في إثيوبيا، في الجهة المقابلة يتولى الكيان الصهيوني تسليح أديس أبابا. والهدف من وراء ذلك هو توريط مصر في حربين: في ليبيا وإثيوبيا بهدف إضعاف قواتها المسلحة وتحييدها.
والمرور إلى المنطقة المغاربية بقوة التخريب، عبر تفكيك ليبيا، هو استمرار لمخطط صهيوني بدأ في السوادان، العراق، سوريا ثم اليمن. وها هو الكيان الصهيوني يدفع باتجاه المواجهة المسلحة بين الجزائر والمغرب المتورط في حرب في الصحراء الغربية، لا تستطيع ميزانيته تحملها. ميزانية تختنق بالديون وتتآكل على وقع البطالة والفقر.
وأحد مميزات التحولات بالقوة في مناطق النفوذ هذه، هي أن القوى الدولية أو الفاعلين الدوليين لا ينخرطون بشكل مباشر في الصراعات الجديدة وفي الأزمات الإقليمية. فبعض القوى في الشرق الأوسط وتحت الحماية الأمريكو-صهيونية، تتولى عملية التمويل وتتحرك بالوكالة، لتجنيد القوات المرتزقة. وتسلح القبائل مع افتعال صراعات إثنية لم تكن موجودة في السابق من أجل تفجير هذه الدول.
يضاف إلى ذلك، جيوش المجرمين والمنحرفين، الذين يتم تجنيدهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن طريق حسابات وهويات مزيفة، تروج لرسائل تخريبية، قصد تهييج الشارع وإسقاط الحكومات القائمة وتنصيب هيئات انتقالية متواطئة مع الصهيونية.
هذه الحرب الالكترونية الجديدة، تدور رحاها على مواقع التواصل الاجتماعي، تثير قلق الدول التي وضعت أطر قانونية قاسية لمكافحة الجريمة الإلكترونية وكل أشكال المساس بالنظام العام.
- بناءً على هذا، هل تعتقد أن الجزائر مستهدفة أم أنها معنية ومفروض عليها التعامل مع هذه التحولات؟
هناك عاملين حاسمين: الثروات المعدنية والمعابر الإستراتيجية، هما ما يجعلان من بلدنا منطقة معرضة لتهديدات أجنبية خطيرة للغاية. ودون أدنى شك فإن الجزائر بلد يمثل هدفا انتقائيا بفعل المصالح التي يستظهرها على الصعيد الاستراتيجي. فهي تتوفر على هذين العاملين (الثروة الباطنية والموقع) اللذان يجعلان منها هدفا مفضلا، بالنظر إلى مكانها في قلب الضفة الجنوبية للمتوسط، مع حيازتها على موارد هامة من الغاز، وتقاسمها الحدود مع دول الساحل الغنية بالموارد الأولية والأراضي النادرة، التي تمثل أهمية تكنولوجية قصوى للشركات المتخصصة.
إنّ الجزائر تحوز على 40 بالمائة من الأراضي النادرة في العالم وهي غير مستغلة، ما يجعلها البلد الأغنى في العالم. كما تحوز أيضا على احتياطي معتبر من الغاز في أعماق الجهة الغربية والشرقية للمتوسط (مياهها الإقليمية)، والتي يبدو أنها تطرح انشغالات جدية مع الجانب الاسباني بشأن تحديد الحدود البحرية وبالأخص جزيرة كباريرا.
هذه الجزيرة تقع في المياه الإقليمية الجزائرية المجاورة لأرخبيل البليار،يوجد تحتها الكثير من الغاز الذي قد يكون محل نازعات قضائية تستدعي تحكيما دوليا وفقا ما تنص عليه الاتفاقية الدولية لقانون البحار. وأذكر هنا أن الجانبين اتفقا على انتهاج لغة الحوار والتفاوض وتفادي أي نزاعات، وذلك أثناء الزيارة الأخيرة لوزيرة الخارجية الاسبانية للجزائر.
- ماهي الخيارات المتاحة والواجب اتخاذها من قبل الجزائر للتعامل مع كل هذه التهديدات؟
القوة والصّلابة العسكرية للجزائر، في المتوسط أو على الصعيد الإقليمي، لا شك فيها. وهي تفرض احترامها على مفتعلي الفوضى الذين يشعلون النار على حدودها الشرقية ويستعدون لإشعالها على الحدود الغربية.
وكونها عرضة لعديد التهديدات فهي قادرة على التصدي لها، عبر استجابة كلاسيكية، في حالة ما تعرضت إلى عدوان من قبل دولة أخرى، أو باستجابة لا تناظرية في حالة حدوث تهديد تخريبي متحرك يصعب تحديده. وفي الحالتين تتوفر الجزائر على وسائل عسكرية وقوة استخباراتية عملياتية تجعلها قادرة على الرد على كل تهديد مهما كان نوعه وطبيعته.
إنّ بلادنا، مستعدة لكل الاحتمالات، بما فيها الحرب الالكترونية التي تتطلب أدوات حديثة، وإذا أرادت حماية حدودها الشرفية، الجنوبية والغربية، يجب أن تكون قوة يحسب لها ألف حساب على الصعيد الجهوي.
في المقابل، ينبغي على الجزائر تعزيز مؤسساتها وعصرنتها، من أجل تقوية صمود دولتنا، وقدراتها الاستباقية ضد التهديدات المتغيرة، التي تظهر من حين لآخر في الداخل كما في الخارج. ويجب علينا، أن نعيد تأهيل مؤسساتنا، ومنحها مرونة أكبر وقدرة عملياتية تسمح لها باستباق التهديدات والاستجابة السريعة للأحداث التي يهتز لها العالم اليوم في المكان والزمان.
- دخلت الجهة الغربية لحدودنا درجة عالية من التوتر بعد خرق المغرب لاتفاق وقف إطلاق النار مع البوليساريو، هل نحن اليوم أمام حزام أزمات يطوق الجزائر؟
الحدود الشرقية للجزائر معرضة لتهديدات أمنية خطيرة بسبب الحرب الأهلية في ليبيا. في الغرب يواصل المغرب استفزازاته للجزائر، بإشعاله النار في معبر الكركرات بالصحراء الغربية، متسبّبا في إسقاط اتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع البوليساريو سنة 1991.
في شمال مالي، فرنسا متورّطة في حرب لا تنتهي ضد الإرهاب، في شمال النيجر شاهدنا إنشاء أزيد من 10 قواعد عسكرية أجنبية. إن العدو متمركز على الحدود الجزائرية ويتأهب لإشعال النار.
على الحدود كل المؤشرات اشتعلت بالأحمر، مما يجعل قواتنا المسلحة في حالة تأهب قصوى. مقابل هذه التهديدات التي تتزامن ومرحلة جديدة ناجمة عن عولمة متوحّشة وهدامة، استبقت الجزائر هذه التحولات الخطيرة، منذ عقود، حيث قامت بعصرنة قواتها المسلحة وأطلقت صناعة عسكرية رفيعة المستوى، تعطيها الاستقلالية في حالة نشوب الحرب.
صحيح أن الجزائر مطوقة بحزام تهديدات، ولكن ولا دولة أعلنت نية عدائية ضد بلادنا، القادرة حاليا على صد كل الهجمات التي تترصد الثغرات لضرب استقراها.
انهيار ليبيا كان يراد له أن يستمر في الجزائر مثل لعبة الدومينو، وإدخالها في سقوط حر. لقد فعلوا كل شيء من أجل تفجير الشارع وتسريع سقوط الدولة الجزائرية. لم ينجح هذا المخطط، بعدما أدرك الجزائريون أن الحراك تم اخترقه وبات يخدم أجندة أجنبية، غريبة عن قضيتهم الأساسية، من خلال وضع معالم ثورة خاطئة، يقيم قادتها في الخارج، وينشطون لصالح جهات أجنبية. والحقيقة أن هذا السيناريو ليس جديدا، لقد تم تنفيذه في عديد الدول وكلّل بالنجاح.
بعض فواعل الحراك الحاملين للمخطط التخريبي، ومناضلي سفارات الغربية، وهم معروفون، تم فضحهم ومخططاتهم التخريبية أمام الرأي العام، في وقت كانوا ينشطون تحت غطاء النضال من أجل الحرية والديمقراطية.
بعض الأطراف الأجنبية التي تقف وراء هذا المخطط المروع، في الجزائر، أرسلت على رأس هذه المهمة، جواسيس بهويات مرموقة، سبق واشتغلوا في العراق، في سوريا وأفغانستان، من أجل إعادة تنشيط الشبكات التخريبية النائمة في بلادنا.
في الصحراء الغربية، ملك المغرب، يتحرك بشكل خطير، بتشجيعه لبعض القوى الوظيفية لفتح قنصليات في العيون المحتلة، ضاربا بالشرعية الدولية عرض الحائط.
إن مثل هذا التحركات التي لا يمكن تصنيفها إلا في خانة القرصنة الدبلوماسية، لن تغير شيئا من طبيعة النزاع، الذي سيظل دائما في نظر المجتمع الدولي على أنه قضية تصفية استعمار.
إنّ الأزمة التي تسبب فيها المغرب، في الكركرات ذات رهان معروف، وهو توسيع تجارة المخدرات باتجاه ليبيا والساحل الإفريقي، وإضافة إلى ذلك يؤكد اقتراب القوات المغربية من الحدود الموريتانية النوايا التوسعية للمغرب عبر بتمديد حدودها، فكأن الدور قد جاء على الأراضي الموريتانية.
وبالنسبة للمخزن، تعتبر ليبيا جنة حقيقة للحشيش (الكيف) المغربي، وإغلاق الحدود البرية مع الجزائر شكل ضربة موجعة له، لأنه بات يجد صعوبات بالغة في تسويق سمومه عندنا.
وينبغي التذكير بأنه على مستوى الاتحاد الإفريقي، أغلق الملف نهائيا، فالجمهورية العربية الصحراوية، هي عضو مؤسس لهذه الهيئة، والمغرب عندما انضم لها يكون قد اعترف رسميا بهذه الحقيقة، ما يجعله بلدا مُحتلاً، وذلك ما تؤكده قرارات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الأوروبية.
- في ظرف أسبوعين، أوقفت الأجهزة الأمنية الجزائرية إرهابيين (2) ممّن أطلق سراحهم من سجون مالي في اطار صفقة تحرير رهينة فرنسية..ما هي درجة خطورة تلك العملية على الجزائر؟
حسب معلومات من مصادر مؤكدة، يكون الإرهابي إياد آغ غالي (زعيم تحالف 4 تنظيمات إرهابية)، قد تفاوض مع منظمات غير حكومية فرنسية، ووسطاء مفوضين، تحدثوا باسم فرنسا من أجل تحرير الرهائن.
وبعد مفاوضات أجرتها أطراف أجنبية ووسطاء ماليين، تم التوصل إلى اتفاق بتحرير الرهائن الأوروبيين الثلاثة رفقة السياسي المالي سوميلا سيسي، مقابل فدية مالية ضخمة زائد الإفراج عن أزيد من 200 إرهابي يقبعون في السجون المالية.
في هذا الملف لم تتعاون السلطات المالية كما ينبغي مع نظيرتها الجزائرية، بالمقابل السلطات الفرنسية نفت دفع الفدية، فيما أكد صحفيون فرنسيون أن بلادهم ضخت للإرهابيين 6 مليون يورو. بينما كشف صحافي موريتاني متخصص أن قيمة الصفقة أكبر من ذلك وناهزت بـ 10 ملايين يورو. هذه المعلومة بثتها أيضا الإذاعة الألمانية دوتشيه فيلي.
طبعا، الجزائر أدانت بشدة هذه الصفقة خاصة بعد الإفراج عن أزيد من 200 إرهابي، واعتبرت أن هذه التصرفات غير مقبولة ومخالفة للقرارات الأممية، التي تجرم دفع الفدية للإرهابيين، وتقوض جهود مكافحة الإرهاب وتجفيف موارده المالية.
الجزائر التي حاربت لوحدها الإرهاب في سنوات التسعينات، كانت وراء إصدار اللائحة الأممية التي تجرم دفع الفدية للخاطفين سنة 2014. واتفاق مماثل، له آثار كارثية على الأمن الإقليمي، وسيكون له تداعيات إجرامية لا يمكن تخيلها على أوروبا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ملف الأموال المدفوعة للتنظيمات الإرهابية، كشف تحقيق لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية سنة 2014، أن الحكومات الأوروبية وخاصة فرنسا، إسبانيا وسويسرا، الأكثر تسديدا للفدية لهذه التنظيمات، وحسب التحقيق، سدّدت فرنسا لوحدها 58.1 مليون يورو لتنظيم القاعدة الإرهابي ما بين 2008 و2014.
لقد أدى الاتفاق إلى الإفراج عن حوالي 206 إرهابي ينشطون في منطقة الساحل وعدد من هؤلاء الإرهابيين مطلوبين للعدالة الجزائرية، ومنهم من تم اقتيادهم إلى حدودنا الجنوبية، حيث تم تكليفهم بالمهمة الجديدة، وهي استئناف النشاط الإرهابي على التراب الجزائري.
وقد تسلّل إرهابيين (2) إلى التراب الوطني وتم القبض عليهما بسرعة فائقة من قبل الجيش الوطني الشعبي، أحدهما قبض عليه بولاية تلمسان بعد رصد تحركاته بدقة. وأدليا بمعلومات في غاية الخطورة.
ومن المؤكد أن هؤلاء الإرهابيين تم إرسالهم إلى التراب الجزائري من أجل إعادة بعث الأنشطة الإرهابية، بدعم من أطراف أجنبية ضبطت متلبسة بتمويل الإرهاب.
وبالعودة إلى صفقة إطلاق سراح الناشطة الفرنسية ومرافقيها والسياسي المالي سوميلا سيسي، يتبين أن خطوط الاتصال لم تنقطع بين المنظمات الإرهابية الناشطة في الساحل بين بعض الدول الأجنبية، مثلما كان عليه الحال دائما في ليبيا، سوريا، العراق مالي، نيجيريا وبوركينافاسو.
الناشطة الفرنسية-السوسرية في مجال الإغاثة التي اختطفت منذ ديسمبر 2016، تم إرسالها بطريقة غريبة إلى منطقة توتر ونزاع، حيث لا ينصح فيها بتواجد الأشخاص من قبل البعثات الدبلوماسية الأجنبية.
ومنذ زمن طويل، والجزائر متهمة بإيواء الإرهابي إياد آغ غالي على أراضيها، ولكن الوسطاء الذين تفاوضوا معه أكدوا أنه يتواجد في شمال مالي، وفي هذه الحالة نتساءل من يوفر له الحماية بما أن الوسطاء الماليين والفرنسيين استطاعوا ربط التواصل معه بطريقة سهلة؟
إن هذا الإرهابي لم يقطع الاتصال مع عرابي تنظيم القاعدة الإرهابي، إنه يملك قنوات دائمة بفضل منظمات غير حكومية تنشط في ميدان الإغاثة الإنسانية، متموقعة جيدا في مناطق النزاعات والحروب.
- ما تعانيه ليبيا ومالي منذ سنوات، يدفع إلى التساؤل عن أسباب الصعوبة التي تجدها الدولتان في تحقيق الاستقرار السياسي، هل الأمر ناجم عن مشكلات داخلية شديدة التعقيد أم إنها لعبة الصراعات الدولية التي لا تتوقف؟
التدخلات الأجنبية في إفريقيا أو في العالم العربي لم تتوقف يوميا، وهي مستمرة بطرق وصيغ جديدة، وبتواطؤ الحكومات الهشة. هذه التدخلات دائما ما كانت عنيفة ولا تستثني مالي أو ليبيا، ونستطيع أن نشير إلى أغنى بلدين في إفريقيا، نيجيريا والكونغو، اللذان كانا ضحيتين لمحاولات تقسيم قادتها مليشيات مسلحة، وممولة من قبل الشركات متعددة الجنسيات وبعض القوى الغربية المخربة، التي تضمن التسليح وتوظف مرتزقة وتنصب شبكات استخباراتية قوية.
مثال آخر، السودان، بعد تدخلات عنيفة ووحشية قسم إلى جزأين وعمت الفوضى كافة أرجائه، لقد أنشأت دولة جنوب السودان حسب الروايات الرسمية، بمبرر إنهاء الحرب الأهلية، الناجمة عن النزاعات الاثنية والعقائدية بين المسلمين والمسحيين.
وما نستطيع أن نستخلصه كنتيجة، من هذا الملف، هو أن جوهر المشكل بين الشمال والجنوب في هذه البلاد يتعلق أساسا بسوء الحكامة وغياب التوزيع العادل لعائدات البترول، هذا هو السبب الحقيقي. أما النزاعات العرقية فكانت موجودة لكنها لم تشكل حافزا حقيقيا للانفصال.
لقد عفنت التدخلات الخارجية الغربية، المشاكل الإثنية والعرقية بين شمال وجنوب السودان، بهدف إضعاف الدولة المركزية وتدميرها. هذا المخطط حاولوا تكراره في الجزائر وتحديدا في مناطق معروفة (الشمال والجنوب) من البلاد.
وما سمي بحركة أبناء الجنوب الإرهابية، رعتها خلية أجنبية كانت متمركزة في إحدى دول الساحل. هذه المخططات فشلت بفضل قوة الدولة المركزية ومؤسساتها العملياتية، التي فككت بحزم وصرامة كل محاولات المساس بالوحدة والسلامة الترابية لبلادنا.
على الصعيد الجهوي، ينبغي لي أن أذكر باغتيال الأمين العام للأمم المتحدة السويدي، داغ همرشولد سنة 1961، والذي كان ملتزما بتحقيق السلم في الكونغو الديمقراطية (الزائير سابقا)، وعلى الرأي العام العالمي أن يعرف لماذا قتل بطريقة خسيسة ودنيئة.
تم الترصد لهمرشولد، بعد منتصف الليل بقليل بينما كانت طائرته الخاصة تستعد للهبوط بمدينة ندولا (تابعة لناميبيا حاليا) قبل أن تتحطم، ولم ينجو منها أحد. بعد عدة سنوات، كشفت نتائج التحقيق أن الطائرة أسقطت من قبل مرتزقة أوروبيين كانوا يدعمون إقليم كاتنغا (شمال الكونغو) الغني بالثروات المعدنية، والذي كان يريد الانفصال عن الوطن الأم.
مرتكبو هذا الفعل الشنيع، هم الشركات متعددة الجنسيات التي تستغل المواد الأولية للإقليم، وترفض أي تسوية سياسية من شأنها إرساء السلم في الكونغو. ما نستشفه من هذا الحادث هو أن اللوبيات الصناعية تجند كل الإمكانيات من أجل ألا تشكل الأمم المتحدة عائقا أمام المصالح الغربية، لقد باتت الأمم المتحدة مجرد قوقعة خاوية، دون مصالح ودون تأثير، ومنذ هذا التاريخ سيطرت الدول الغنية على وظيفة الأمين العام للأمم المتحدة.
لقد بات الأمين العام الأممي قابعا تحت سيطرة الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن، ومهمته الأساسية هي تنفيذ خارطة الطريق التي يرسمونها، وليس تنفيذ مسار السلم الأممي.
إن نظام مجلس الأمن القائم على فيتو أعضائه الدائمين، حيث هذه المؤسسة الإستراتيجية التي تعنى بالأمن والسلم، وهي الآن، تدير حالات اللاأمن في مختلف مناطق العالم. قرارته يتم إعدادها والمصادقة عليها بطريقة تجارية مخجلة وفق قاعدة «كل شيء بالمقابل، ولفائدة المهيمن»، بهذا المنطق الليبرالي المتشدد، يحسب السلم في خانة خسائر العالم المفلس.
كل هذا يفسر لماذا يعجز مجلس الأمن عن استعادة الأمن في ليبيا؟ وأكثر من ذلك هو من ساهم في تفاقم الوضع هناك. وكل المبعوثين الخاصين المعينين من أجل استكمال مسار التسوية في ليبيا يعلمون أن أعضاء مجلس الأمن لا يريدون السلم.
غوتيرس اقترح في مارس، وزير الخارجية الأسبق رمطان لعمامرة، لتولي المهمة، لكن الأمريكان اعترضوا، لأنهم يدركون جيدا أن مرشح الجزائر، بإمكانه وضع حلول للأزمة مقبولة من كافة الأطراف الليبية، وهذا ليس ضمن أجندتهم.
أما بالنسبة لمالي، فالتدخل العسكري الفرنسي له هدف واحد، هو خلق دولة للطوارق في الساحل الإفريقي، ببعد جهوي أين تتواجد كل الموارد الأولية (البترول، الغاز، الذهب، اليورانيوم..) وتحت غطاء فرنسا وهذا مشروع استعماري قديم.
- برزت منذ 2014 هجرة كثيفة لسكان دول الساحل باتجاه الجزائر، ما هو الوجه الخفي لهذه الظاهرة؟
عرفت أصناف الهجرة باتجاه الجزائر تطورا ملحوظا ومقلقا في الوقت ذاته، نحن لسنا أمام هجرة للبحث عن العمل، ولكننا أمام هجرة «توطين» لمهاجرين ينحدرون من أزيد من 50 دولة إفريقية.
في 2016، بلدية برج الحواس (ولاية إليزي) ذات 6000 نسمة، استقبلت لوحدها 7000 نيجيري. لقد جعلوا من الجزائريين أقلية في بلديتهم، وهذا خطر حقيقي، يمكن أن يتكرر في السنوات المقبلة في كل بلديات جنوبنا الكبير.
نحن أمام هجرة إثنية، حيث أن قرى كاملة بالساحل الإفريقي، تنتقل إلى الجزائر. وقدوم هؤلاء الاثنيات (الهوسا، البمبارا، الماندينغي..الخ ) يشكل في المستقبل عاملا للصراع العرقي في الجزائر، وهذا إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار الثقافات الإفريقية التقليدية التي حلت حديثا بالمنطقة ويمكن أن تصطدم مع الثقافات المحلية.
الاتحاد الأوروبي سن تدابير قاسية من أجل غلق حدوده الخارجية بينما تدخل في المقابل في ليبيا والنيجر ومالي من أجل جعل الفضاء الحر لتنقل الأشخاص في مجموعة دول غرب إفريقيا (الإيكواس) ممرا للهجرة باتجاه الجزائر.
وبلادنا ليست ضمن فضاء التنقل الحر للأشخاص لهذه المجموعة، ولهذا قررت ترحيل المهاجرين غير الشرعيين الوافدين نحو الدول التي اتخذوها كمعبر لبلوغ أراضيها، على غرار النيجر ومالي، اللذان يشكل المركز الأهم للمهاجرين باتجاهها.
وينبغي الإشارة إلى أن الجزائر تستقبل المهاجرين أكثر مما تستقبل 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، ولهذه ينبغي على السلطات تشديد مكافحة الهجرة غير الشرعية. وعليها أن تتابع عن كثب تطور هذه الظاهرة، من أجل إبقائها في مستوى مقبول كي لا تخرج عن السيطرة ولا تدخل في مواجهة مع الأمن.
ووجب التذكير بأن التدخلات الأجنبية في الساحل، لم تؤدي فقط إلى إضعاف الدول فحسب، ولكنها أفقرتها، وتركت عن أجزاء واسعة من أقاليمها، دون حكامة ودون تنمية ودفعت بالسكان إلى النزوح والهجرة والبحث عن حياة أفضل.
ومع تفشي وباء «كوفيد 19»، ستزداد الوضعية الاقتصادية لدول جنوب الصحراء تدهورا، وسينجم عنها ارتفاعا في معدلات الفقر، وتتفاقم معها النزاعات العرقية الدامية والمؤلمة.