أدوات الصراع الدولي تبدلت منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي
لا أظن أن هناك مـبرر لشرعيـة مصطلـح «الأمن الدينـي»
الموجة الجديدة للتكنولوجيا يديرها الخبراء ويتابعها المفكرون
في ثمانينيات القرن العشرين، ظهرت القنوات التلفزيونية الفضائية التي سبقت «الانترنت» بقليل، إنه عصر «المعلومات» الذي أعطى مفهوما جديدا للثقافة والإعلام وبرزت معه قنوات مخصصة، منها القنوات ذات المحتوى الديني التي لم تكن مجرد قنوات.
في هذا الحوار مع الباحث محمد بغداد، نحاول الإحاطة بالموضوع من جوّانب الفعالية والتمويل والآفاق.
ومحمد بغداد، الحاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع، له العديد من الإصدارات في هذا المجال وفي غيره، أحدثها «المؤسسة الدينية وإدارة الأزمات»، ويشغل حاليا منصب مدير الإعلام بالمجلس الإسلامي الأعلى.
«الشعب ويكاند»: هل انتقلت الصراعات الدينية من الحروب التقليدية إلى القنوات الفضائية؟
محمد بغداد: من طبيعة الكون (فعالية الصراع) وهو ما يجعل الأمم والشعوب تحصل على مكانتها وتستعين قوتها من طبيعة الصراع لتستقوى به على تجاوز العقبات التي تعترضهاك ومنذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي تبدلت الأدوات التقليدية للصراع الدولي لتدخل أدوات جديدة استخدمت التكنولوجيات المعقدة وسيلة لإدارة الصراع، وهي الوسيلة التي اعتمدت على الذكاء البشري والقدرات الخلاقة للإنسان، دون أن ينتبه له المسلمون، مما جعلهم اليوم يجدون أنفسهم غير قادرين على استيعاب ما يدور في الكون، ويتكبدون الخسائر الباهظة، كونهم يصارعون بوسائل وأدوات قديمة جدا. حتى في مجال الإعلام نجد أنفسنا أمام إعلام تقليدي سيء ومبتذل للنماذج الغربية، مما جعل محتوى هذه القنوات تساهم في تعميق التخلف وإلحاق المزيد من الخسائر التاريخية بالأمة.
ولكن الموضوع لا ينحصر في مفهوم الصراع الكوني الطبيعي بين البشر، وإنما في تلك الحالة من الأوهام التي تنتجها بعض النخب (وهي تتصور أنها تحسن صنعا) فتورط الأجيال الجديدة في تلك الدهاليز من المعارك الهامشية التي تفقد فيها الطاقة ويهدر الوقت وتضيع الأعمار وتتضخم الخسائر، ومن الضرورة الاتجاه نحو فهم أفضل للعالم وما يدور فيه، على أن ترتقي النخب إلى مستوى القدرة على امتلاك المهارة والذكاء الذي يجعل منها قادرة على الإجابة الصحيحة على الأسئلة الحقيقية للتاريخ.
- أي حديث عن «الأمن الديني» ونحن نشهد جموع الجزائريين «تحج» إلى قنوات فضائية أجنبية بهويات مغايرة، وهل خسرنا الحرب منذ بدايتها؟
لا أظن أن هناك مبرر لشرعية مصطلح (الأمن الديني) والناس تسعى إلى تلبية حاجاتها، خاصة وأننا في سوق مفتوح مما يجعل من ظاهرة استهلاك المحتوى الديني من قنوات أجنبية أمرا مؤلما. ولكن لم نجد من مؤسساتنا قليل الاهتمام بالموضوع، بالرغم من تحول هذا الموضوع إلى مجرد (ندب وعويل وصراخ وتحذير) ممن ألفوا الاستثمار في مجالات (أوهام نظريات المؤامرات)، وهي في الحقيقة مجرد تعبير عن الفشل في بناء تصور جماعي لهوية المجموعة الوطنية في إطار المنظومة الدينية، وهو الفشل الذي ينقله هؤلاء إلى الفضاءات الإعلامية، مما يزيد من الفشل أوزارا أثقل تعيق إمكانية تجاوزها من طرف الأجيال الجديدة.
إن القضية في جوهرها لا تتعلق بما تسميه (حج) إلى القنوات الأجنبية، وإنما هي الدليل الواضح والصريح على الفشل الكبير الذي تتخبط فيه النخب الإعلامية، وبالذات المشتغلة في الحقل الديني، مما يتطلب اليوم شجاعة عالية ومسؤولية جادة في الذهاب نحو القيام بتلك العمليات العميقة والمؤلمة التي تزيح الكثير من (المعاصي والآثام) التي ترتكب في حق الإعلام الديني، وهي المسؤولية التي تقع على عاتق المؤسسات المستأمنة على المنظومة المعرفية والثقافية والدينية للأمة.
- المال هو عصب الإعلام، لماذا لم نستثمر في هذا الجانب، هل لغياب المال أم لغياب الرؤية؟
المشكلة لا تكمن بالضرورة في المال وحده، ولكن عندما تغيب التصورات والطموحات التي تستوعبها مشاريع حقيقية قادرة على المنافسة في المشهد الإعلامي الكوني، وإمكانية بناء مشاريع حقيقية لا تتوفر شروطها في الظرف الحالي، كون المنخرطين في المشهد الإعلامي وبالذات الفئات والأطراف الميسورة وقعت ضحية تصورات ومشاريع وهمية متصادمة مع المضامين والأهداف والمرامي التي تتجه نحوها الحركة الكونية لثورة الإعلام والاتصال، مما جعلنا اليوم نعيش حالة من التيه المؤلم في مجال الإعلام، حتى تصور المواطن العادي أنه ليس بإمكانه ممارسة مهنتين؛ لأنه زمن التخصص بما يمتلك الجرأة على ممارسة كل أنواع الإعلام ويجد من الاستهلاك لمحتوياته الكثير من الفضاءات الاستهلاكية.
وإذا كانت القاعدة المتبعة في التسويق الإعلامي من زاوية الارتكاز على التمويل، فإن ما يفترض أنه واجب عيني اليوم، هو تلك المشاريع التي ترتكز على (المال الذكي) الذي يستجيب لقوله تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا). وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ويبقى الرهان على تلك القدرات والمهارات الإبداعية التي يمتلكها الإنسان التي هي عامل النجاح الأول، وهي التي تضمن الديمومة الفاعلة للأمة في التاريخ.
- تجاوزت الحرب الإعلامية الأطر التقليدية إلى وسائل «الإعلام البديل»، أي حديث عن الهوية في ظل هذه «الفوضى المنظّمة»؟
المعلوم من الواقع بالضرورة، أن الموجة الجديدة من تكنولوجيات الإعلام والاتصال يديرها الخبراء ويتابعها المفكرون، مما جعل الأولوية في صناعة المحتوى خاضعا للحسابات الاستراتيجية للدول والقوى المهيمنة على مصادر الطاقة في العالم، وهو ما يعني أننا مازلنا لم نستوعب ما يحدث في عالم الثورة الاتصالية، بدليل ما يدرس في كليات الإعلام والاتصال وما نراه من منتوج إعلامي للمؤسسات الإعلامية. للأسف، لا يمتلك خصائص الجودة ولا مميزات الاستهلاك، وهو ما يجعل من إمكانية انتقالنا إلى ما تسميه بالإعلام البديل، ضربا من المستبعد في الظروف الحالية، كوننا لا نمتلك من القدرة على استيعاب خلفيات وأبعاد هذا الإعلام البديل، ومراميه التي يريد المهيمنون عليه الوصول إليه.
إن الثورة التكنولوجية لعلوم الإعلام والاتصال أصبحت تعيد صياغة الهويات المحلية والإقليمية وحتى الإيديولوجية والكثير من الفاعلين في الحقل الديني يجدون أنفسهم ضحايا (الإعلام البديل)، كونهم لم يتحكموا بعد في خلفياته ولم يسطروا على فنونه ولم يمتلكون المهارات الكافية للتعامل معه، مما جعل المحتوى الذي ينتجونه يكون ضربات توجه إلى قناعتهم والمضامين التي يؤمنون بها. وهم يغفلون عن تلك التنبيهات التي تضمنتها السيرة النبوية وأحاديث السنة المطهرة والتجربة التاريخية للأمة التي يكمن فيها الكثير من المحفزات الكافية لتجاوز العثرات.
إن الممارسة الإعلامية للمشتغلين بالحقل الديني في فضاءات (الإعلام البديل)، تتطلب المسارعة إلى تنفيذ الأحكام الشرعية للإسلام وذلك بالتوبة والإقلاع عما يرتكب من ممارسات تسيئ ليس لصورة الإسلام فقط، بل تلحق كبير الضرر بالمصلحة العليا للأمة. وليس عيبا أو منقصة أن يتم مراجعة الممارسة وتدارك الأخطاء والإنصات للخبراء في صناعة المضمون الإعلامي الحديث.
- وماذا عن الإعلام الديني في قنواتنا التلفزيونية، ألا ترى أنه منفصل عن الواقع وواقع في فخ التقليد الشكلي والمضموني لنماذج أجنبية؟
هذا التقييم ينبث من مشكلتين أساسيتين؛ أولهما الإهمال الكبير للمرجعية الفكرية للتجربة الإعلامية الجزائرية، مما أثر على الهوية الاتصالية للمنتوج الاتصالي الوطني، وجعل منتوج الإعلام الديني عندنا محروما من الهوية الاتصالية المتلائمة مع المجتمع، مما نتج عنه عدم التفريق بين الاستديو والمسجد والمنبر، فظهر خطاب إعلامي هو أقرب إلى المواعظ والخطب المسجدية.
والمشكلة الثانية، عمقت من الأزمة وتمثلت في عدم القدرة على التكيف مع متطلبات التقنيات والفنيات التكنولوجية الاتصالية الحديثة، مما حرم الخطاب الإعلامي الديني من الوصول إلى أكبر قدر من المستهلكين. وخلال المشكلتين تميز الخطاب الإعلامي بفقدان الإقناع وضعف الحجاج. ومع الأسف، لا نجد دراسات علمية جادة في المكتبة الوطنية حول الإعلام الديني، ولم تكلف المؤسسة الدينية نفسها ولا القائمون عليها السعي إلى بناء منظومة بنائية هيكلية للخطاب الإعلامي الديني. والغالب مما هو متوفر مجرد تقليد ضعيف لنماذج أجنبية من طرف جيل محروم من المرجعية الفكرية للتجربة الإعلامية الوطنية.
لقد رصدت حالة المنتوج الإعلامي الديني في عد دراسات قدمتها مساهمة مني لإثراء الممارسة الإعلامية، وهي الدراسات التي عملت على تتبع هذا المنتوج، وكانت الأمنية أن تجد من الاهتمام ما يجعل البناء عليها في صالح تطوير التجربة الإعلامية، ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى المسارعة نحو انجاز مشروع إعلامي حقيقي يستجيب للشروط والإكراهات الملحة التي تفرضها المعطيات التكنولوجية الإعلامية الحديثة، وهي الخطوة التي تجنبنا الكثير من الخسائر الباهظة التي سنتكبدها كلما تأخرنا عن الإقدام عليها.
- وأي دور لمؤسسات دستورية على غرار «المجلس الإسلامي الأعلى» في الانتباه إلى مثل هذه المشكلات ومواجهتها؟
لقد عملت منذ توليت مسؤولية مديرية التوثيق والإعلام بالمجلس الإسلامي الأعلى، على التأسيس لأسلوب مغاير في تعامل المؤسسة الدينية مع الأحداث، كون المهمة الأولى للمجلس الإسلامي الأعلى (هي الحث على الاجتهاد وترقيته)، مما جعل من الأخذ في الاعتبار تلك التحولات العميقة لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، والهدف من ذلك هو صناعة اتصالية تكون قادرة على جلب جاذبية الاهتمام والوصول الى الاقتداء، يتناسب مع الطبيعة الفلسفية الكونية للإسلام، باعتباره رسالة كونية تعمل على الوصول إلى الناس كافة في كل زمان ومكان، متجاوزة عتبات العصور والقرون والأجيال. كما كانت الاستعانة بالتراث الإعلامي للتجربة الجزائرية، التي أسسها الرواد المؤسسون، وهي الجهود التي منحت الممارسة الإعلامية الجزائرية هويتها الخاصة التي تميزها عن غيرها، فقد حاولنا الاستفادة من المهارات المستعملة في الممارسة الإعلامية الكونية، مع مزجها بالملامح الملازمة للهوية المحلية.
وقد وجدت بعض الثمرات التي يمكن أن نبني عليها في المستقبل إذا توفرت الإرادة وشحذت الهمم وتلاحمت الجهود. وتبقى هذه الخطوة بحاجة إلى مساهمة جادة من طرف النخب وإثراء ما تساهم به المؤسسة المستأمنة على المنظومة العلمية للتجربة الإعلامية، كون الأمر يتعلق بنموذج يفترض أن يكون جاذبا للاقتداء، يتخلص مما لحق به من شوائب الأيام والممارسات الخاطئة، كما يكون لما تقدمه المؤسسة المستأمنة على المنظومة العملية للممارسة الإعلامية الوطنية دوره في بناء المشروع القابل للحياة والقادرة على المساهمة في المسيرة الإنسانية.