من يزور تلمسان ولا يتفقد بعينيه وعقله وحواسه الخمس، قلعة المشور في تلمسان يكون قد جانب كثيرا من المتعة والسياحة والتاريخ، وتفاصيل كيف تحول البدوي إلى الضفة الأخرى من العمران، وخطوات حضارية أخرى..
عرفت مدينة تلمسان مكانة تاريخية وحضارية مرموقة منذ القدم العصور القديمة، وأثرت تأثيرا بالغا في المغربين الأوسط والأقصى، وقد مرت بجميع الفترات والمراحل التي مر بها المغرب الإسلامي بصفة عامة والمغرب الأوسط بصفة خاصة، مما ساهم في الأحداث التاريخية والسياسية والحضارية للمنطقة، ونتج عنه ازدهار عمراني ومعماري زاخر تراكم عبر الأزمنة.
من بين أشهر المنشآت المعمارية التي أسست في عهد الدولة الزيانية، قلعة المشور المنيعة، وقد تبوأت مدينة تلمسان مكانة مرموقة منذ دخول الإسلام إليها، خاصة في فئة حكم «بتٍ عبد الواد» الذين جعلوا من تلمسان عاصمة لسلطانهم، حيث يجمع أغلب المؤرخين والرحالة على ان الدولة الزيانية تأسست في عهد «يغمراسن بن زيان» (1235م–1554م 633هـ-962هـ)، فعظم شأنها وازداد امتداد نطاقها واتسعت أرجاؤها، وأضحت قبلة للعلماء والمفكرين، وطلاب العلم والمعرفة الذين ارتحلوا اليها من بلاد الأندلس ومن المشرق للتعلم والتعليم.
وتحولت مدينة تلمسان من مطلع الربع الثاني من القرن (7هـ13م) إلى عاصمة للدولة الزيانية، هذا بالرغم من الفترة العصيبة التي كانت تعيشها المنطقة والتي سادتها الحروب والصراعات، إلا أن هذا الأمر لم يمنع «يغمراسن بن زيان» من الاهتمام بالتعمير، فاجتهد في صبغ محيطه بشيء من مظهر الأبهة، إذ وصف ذلك ابن خلدون هذه الحركة المعمارية بقوله «أول من خلط زي البداوة بأبهة الملك».
قلعة.. وقصور
اهتم الزيانيون بتحصين المدن ببناء الأسوار والأبراج، فبنيت المنازل ورفعت المساجد وشيدت القصور، وزينت المعالم الدينية بالمدينة بفتح أبوابها لفناني الأندلس، فقد أمر الأمير الزياني ببناء مأذنتي مسجد أغادير والمسجد الجامع الأكبر المرابطي، هذا الأخير الذي كان يسكن بجواره في بداية عهده، وبتحول تلمسان الى حاضرة اقتصادية وثقافية، واستقطابها لعدد كبير من الناس غالبيتهم استقروا بها لما تتوفر عليه هذه المدينة من حسن ظروف المعيشة، وبمجيء السلطان يغمراسن بن زياد في أواسط القرن (7هـ/13م) ليشيد في لحد المناطق المنفردة التي تمتاز بالموقع الاستراتيجي بأعلى نقطة بمركز المدينة آنذاك، على ارتفاع يقدر بـ806 متر على مستوى سطح البحر، أحد أشهر المنشآت المعمارية للدولة الزيانية متمثلة في قلعة المشور المنيعة، لتكون سكنا له ولأهله ومقرا لدواوينه.
وتعد قلعة المشور من أجمل وأعظم ما خلفه الزيانيين في مدينة تلمسان، حيث تميزت هذه القلعة المنيعة بأسوارها العالية، ومحيطها الخارجي ذو الشكل المربع الذي يحتل حوالي 4000 متر مربع من المساحة، زينته أبراج عالية تحوز بداخلها قصرا ملكيا كبيرا وفسيحا، وبها العديد من الدور والحدائق والنافورات، به بابين، الباب الأول داخلي يسمى باب المشور، والثاني خارجي يسمى باب التويتة، إضافة إلى المسجد الذي شيده فيما بعد السلطان الوياني أبي حمو موسى الأول.
أما فيما يخص معنى المشور فيعتقد أنه كان المكان الذي يقيم فيه السلطان اجتماعاته مع وزرائه، علما أنه في سنة (717هـ/1317م) أضاف له السلطان أبو حمو موسى الأول معلمين معماريين آخرين وهما القصر والذي سماه الدار البيضاء ومسجد خاص بالأمراء ورجال الدين، وإلى جانب قصر السلطان هناك قصور عديدة صغيرة، أبدع الفنانون في جعل ساحات القصر روضة من رياض الجنة ببساتينها الجميلة وكثرة مياهها العذبة، حيث وصف « محمد التنسي» المشور بـ « منازله الجليلة وحدائقه النضرة»
التطور التاريخي والعمراني
مرت قلعة المشور الأثرية بفترات ومراحل تاريخية جد مهمة، فكانت بذلك قلعة منيعة وإرث عمراني ومعماري، كما أنها تعرضت لأعمال الترميم والتخريب في عدة فترات منها عند دخول الدولة الزيانسة في دوامة الحروب، خاصة مع المرينيين الذين حاصروا المدينة وحاولوا الاستيلاء عليها عدة مرات، بعد وفاة « يغمراسن بن زياد» واعتلاء العرش من بعده ابنه « عثمان يغمراسن بن زياد في (681هـ ـ 703هـ/ 1283م ـ 1303م) لكن تلمسان لم تستسلم للمرينيين فحوصرت حصارا شديدا لمدة ثماني سنوات تعرضت خلالها للهدم والتدمير، ويقول ابن خلدون في هذا الشأن: «نهض يعقوب المنصور سنة 699هـ إلى تلمسان فأناخ عليها واختط المدينة لحصارها وسرح عساكر في نواحيها»، واستمر الحال الى غاية فترة حكم أبي موسى الذي عمد على إعادة الاستقرار للمنطقة بعد الحصار الشديد الذي عاشته المدينة وأهلها، حيث سارع الى ترميم ما تلف من عمرانها خاصة أسوار قلاعها، ولتفادي تمرد بعض القبائل والعائلات الملكية واسكنه القصبة، يقول ابن خلدون «ونزلهم بالقصبة وكانت شاسعة تسع المئات من الناس، ثم تمادى في خطته إلى أن ملأ القصبة بأبناء أهل الأمصار والثغور من المشيخة والسوقة، وأذن لهم في إبتناء المنازل والزواج واختط لهم المساجد، فجمعوا لصلاة الجمعة ونفقت بها الأسواق والصنائع» واستعمل ابن خلدون مصطلح القصبة بدلا من القلعة كون قلعة المشور أصبحت عبارة عن سجن وسمح لنزلائه بالبناء، وهذا ما يعني أن قلعة المشور أو القصبة أصبحت آهلة بالسكان وبالمباني في هذه الفترة، وقد قام ابو حمو موسى ببناء مسجد داخل القلعة، الذي لايزال يحافظ على قطع الزليج ذات البريق المعدني المحفوفة بنقوش كتابية بخط نسخي على سطح نباتي. وفي حكم الأمير الشاب أبي تشفين (718ـ 737هـ/ 1318ـ1337م) الذي كان متشبعا بالثقافة الأندلسية، وكان فنانا وذوباع في الرسم، حيث أسهم أكثر من سابقيه في تزيين المدينة ونسب اليه المؤرخون المباني المدنية الموجودة في قلعة المشور وهي عبارة عن قصور فخمة، وتتمثل في دار الملك ودار السرور ودار أبي فهر، ويجمع المؤرخون على انه في فترة حكم أبي تاشفين تحضرت الدولة وتميزت بالزخرفة وعرفت ازدهارا منقطع النظير.
ولع أبي تشفين
ولعل ولع أبي تشفين في التعمير جعله يستدعي الصناع من الأندلس، حيث بعث له «أبوالوليد بن الأحمر» أمهر البنائين، إضافة إلى الآلاف من الأسرى المسيحيين الأوربيين الذين كانوا في السجون الزيانية نتيجة الحروب التي كان يشنها الأسطول الزياني في البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما أكدته الدراسات الأثرية إذ أن المربعات الخزفية التي تزين مسجد المشور هي من صنع أندلسي .
تميزت القصور التي شيدها أبو تشفين بالجمال والتميز إلى درجة أن أحد هذه القصور زينت بشجرة من الفضة أبدع الفنان في هندستها وتخطيطها، حيث يقول عنها «التنسي» واصفا اياها « كانت عنده شجرة من فضة على أغصانها جميع أصناف الطيور الناطقة وأعلاها صقر، فاذا استعمل المنفاخ في أصل الشجرة وبلغ الريح مواضع الطيور، صوتت بمنطقها المعلوم لمشابهها فإذا وصل الريح موضع الصقر صوت فانقطع صوت تلك الطيور كلها «، وما يمكن القول عن هذه المرحلة أن المدينة والقصر عرفا ازدهارا كبيرا ورقي ووصل التعمير في البلاد مرحلة الرقي.
بعد مجيئ تاشفين توقف الصراع الزياني المريني وما عانته المدينة والقصر الملكي للمشور من تدمير، واعتلى عرش الدولة الزيانية أمير جديد وهو «أبو موسى حمو موسى الثاني» (1359ـ1389م. 760ـ 790 هـ)، هذا الأخير جعل من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عادة عند التلمسانيين يسمح لهم بمشاركة المسر فيها، ودخول قلعة المشور كون الاحتفالات كانت تقام داخل القلعة، أما في الجانب المعماري فيمكن اختصار انجازات « أبو حمو موسى الثاني» فيما قاله ابن خلدون: «وبها للملك قصور زاهرات اشتملت على المصانع الفائقة والصروح الشاهقة والبساتين الرائقة، مما زخرفت عروشه ونمقت فروسه ونوسبت أصوله وعروضه فأزرى بالخورنق وأخجل الرصافة وعبث بالسدير وتنصب إليها من عل أنهار من ماء غير أسن تتجاذبه أيدي المذانب والأسراب المكفورة خلالها ثم ترسله بالمساجد والمدارس والسقايات بالقصور وعليه الدور والحمامات».
ويعد أبو حمو موسى الثاني من الأمراء القلائل الذين حافظو على الَرقي، الذي وصلت إليه مدينة تلمسان وعمرانها، لكن بعد وفاة هذه الشخصية الفذة مَرت المدينة بظروف صعبة نتيجة الأطماع الخارجية والتكتّلات والانشقاقات الداخلية، وهذا ما جعل الأمراء يهتمون خاصة بفرض النظام والقضاء على الثورات والانقلابات. أما العمران في هذه المرحلة لم يعرف حركة نوعية ويعود هذا أساسا بعدة أسباب أهمها اهتمام السلاطين بالوضع الأمني، ونقص مداخيل الدولة التي كانت تعتمد على الجباية بفعل تمرد العديد من القبائل وعصيانهم للسلاطين الزيانيين في تلك المرحلة وامتناعهم عن دفع الجباية، حيث لم يبق المال للإنفاق على العمران عند السلاطين الذين تعاقبوا على حكم الدولة الزيانية في العصر، والذي أطلق عليه أغلب المؤرخين فترة الانحطاط.
في العهد العثماني..
ضعفت شوكة الأمراء الزيانيين وأصبحت المدن تتمرد على الحكم الزياني، وبالمقابل ظهر خطر جديد يتربص بدول المغرب الأوسط، خاصة منها المطلة أو القريبة من البحر البيض المتوسط، وهو خطر الأسبان الذين أصبحوا يبحثون عن أقاليم جديدة يضمونها الى ملكهم أو يستغلونها في ملئ خزائنهم من خلال إجبارهم على دفع الضريبة، وبدخول الايبان المنطقة من بوابة المرسى الكبير بوهران ما كان على الأمراء الزيانيين إلا دفع الجباية وأبعاد هذا الخطر عنهم، في نفس هذه الفترة ظهرت قوة جديدة أو بالأحرى امتد نفوذ هذه القوة إلى منطقة المغرب الأوسط وهم العثمانيون، الذين وصلوا إلى مدينة تلمسان بطلب من أهاليها سنة 1517م، دخلت هذه المدينة الراقية بهذا الحدث مرحلة جديدة تميزت بالعديد من الحروب وكانت مسرحا لهذه المعارك، خاصة المعركة التي دارت بتُ بين الرايس عروج العثماني ومارتن دارغوث الاسباني، التي بدأت بحصار الإسبان للأتراك بقلعة بني راشد.
وبضغط من الإسبان انسحب الأتراك وتمركزوا بمدينة تلمسان ودام الحصار ستة أشهر، من خلال هذه المدة كان القتال مستمر ليلا ونهارا حيث تمكن في الأخير الأسبان من السيطرة على نقاط الاستحكام فأقيمت المتاريس وسط المدينة، وتحولت المعركة إلى قتال شوارع، وبعد أن فقد عروج مع قواته السيطرة على المتاريس الداخلية انسحب إلى القلعة الداخلية أي قلعة المشور، وحتى داخل القلعة استمر القتال بشراسة مدافعا عنها بكل قواه.
وهكذا تعرضت المدينة والقلعة للتخريب والتدمير، واستمر الحصار إلى أن ضجر سكان تلمسان من الحصار الطويل الذي فرض على مدينتهم وغدت منازلهم عرضة للدمار والخراب، وفي فترة حكم الرايس عروج خرج الأتراك من مدينة تلمسان إلى أنهم سرعان ما استرجعوا قواهم وحاصروا المدينة من جديد عندما كان الأمير «مسعود» يجلس على عرش الزيانيين، اذ أن هذا الأخير بعد مواجهته للأتراك خارج المدينة تزعزع جيشه وفر هاربا وتحصن بقلعة المشور.
وقد حاول الأتراك دخول القلعة بشتى الوسائل لكن دون جدوى كونهم كانوا يفتقدون للمدافع، وفي آخر المطاف تمكنوا من إجتياح القلعة بتسلقهم جدرانها المحصنة وفتحوا اللأبواب لجنود الأتراك وهكذا أصبحت قلعة المشور تحت سيطرة التراك وجعلوا دورا لهم ولأهاليهم، وهذا ما يمكن تأكيده في حادثة تمرد أهالي مدينة تلمسان ضد الحكم العثماني، حيث عمدوا إلى طلب السماح لهم بآداء صلاة العيد في مسجد القلعة وبمجرد دخولهم القلعة أشهروا سيوفهم في وجوه عائلات الأتراك.
عرفت القلعة خلال التواجد العثماني بها العديد من الإضافات والتغيرات خاصة في المسجد الذي بني من طرف ابوحمو موسى الأول، والذي فقد الكثير من خصوصياته بفعل التغيرات العديدة في العهد العثماني، إذ إن قاعة الصلاة أعيد بناؤها ومخطط المسجد أضحى مشوشا تماما والرضية مرتفعة، أما أسوار المشور هي الأخرى لم تسلم من إضافات حيث دعمت بأبراج مربعة وأخرى دائرية، وأجريت عليها عدة إصلاحات واستقبلت القلعة مجموعة من المدافع وفتحت أبواب جديدة منها باب الفروسية في الزاوية الجنوبية، وباب الحديد بالجهة الغربية إلى غير ذلك من التحصينات الأخرى التي عرفتها القلعة، في حين أن البنايات التي كانت تزينها في الداخل حطمت تقريبا عن آخرها اثر تمرد أهل تلمسان على الباي حسن عام 1670م، وما لبث سكان تلمسان يتخلصون من اضطهاد الأتراك حتى سقطت الجزائر تحت رحمة الاستعمار الفرنسي، الذي هو الآخر قام بالتعدي على الممتلكات والمنشآت وكانت قلعة المشور من بين هذه المنشآت المعمارية التي تسلم من التدمير والتخريب، ومن التعديات التي ألحقها المستعمر الفرنسي بالطراز الأصلي لقلعة المشور هي انه قام بهدم ضريح ولي صالح كان موجودا عند الباب الرئيسي المفتوح لوسط المدينة الذي أقيم مكانه منتزه قبالة فندق بالمغرب والمقاهي المجاورة له اليوم، واكتفى بوضع مكان الضريح لوحة تذكارية ما تزال موجودة في مكانها إلى غاية اليوم.