أصبحت الصحف الإلكترونية التي توفر مكانا لتعليقات القراء من أهم منتديات الحوار الفكري الذي أتصور أنه يفرض اليوم نفسه كضرورة حيوية للخروج من «جُبّ» الحضيض الذي سقطنا فيه. وهكذا، فإن الكاتب المناضل (وتوضيح الصفة مقصود) لم يعد يتصرف بمنطق «قُلْ كلمتك...وأمشِ»، بل أصبح ينتظر، وفي اليوم نفسه، ردود فعل القراء المهتمين، التي تشكل في حد ذاتها ثروة إضافية لمضمون الحديث، سواء باستكمال المعلومات أو بتوضيح الرؤى وتعميق المفاهيم، خصوصا عندما يتجاوب معها الكاتب بالتوضيح أو التفنيد، هذا إلى جانب أنها تعطى صورة تقريبية لتوجهات الرأي العام فيما يتعلق بموضوع الحديث. ويتعامل الكاتب غالبا مع ردود الفعل بما يحقق الهدف الأسمى لكل حوار مثمر ونزيه.
غير أن هناك ما أعتبره خللا لابد من مواجهته حتى لا يؤثر سلبا على حماس الكاتب للتفاعل، وعلى نتائج الحوار الذي جعل الصحيفة في وضعية «هايد بارك» إعلامي يفتح مجال الحوار أمام كل صوت قادر على استعمال مفاتيح الحاسوب.
الخلل الذي أقصده هو تزايد عدد التوقيعات المستعارة التي يبدو من بعض تعليقاتها أنها تهدف إلى تسريب أفكار معينة بدون أن تتحمل مسؤولية التصريح العلني بها، أو تعبر عن خلفيات تجسد تصفية حسابات معينة مع هذا الاتجاه أو ذاك، ودائما بالتخفي وراء توقيعات رمزية أو مبتسرة.
وقد برز هذا الخلل مؤخرا في التعامل مع الجرائم الترويعية الأخيرة التي يتحمل مسؤولية تفجيرها رئيس لم يُحسن اختيار كلماته، توجّه لتيار سياسي معين في بلاده أراد أن يستقطبه أو يحيده أو يواجهه، فراح يأكل الشوك بأفواه المسلمين.
لكن هناك من راح يحاول تبرير مواقف الرئيس الفرنسي، بدون أن تكون له شجاعة التوقيع باسم صريح.
وقرأنا لمن انتهز الفرصة ليحاول تصفية حسابات سياسية، خصوصا مع التيار الإسلامي في الوطن العربي، وبعد أن سمعنا من قال إن التيار الإسلامي هو السبب في سقوط الأندلس قرأنا لمن راح يفترى على الفتوحات الإسلامية ويقدمها كمثيل لعملية الاستعمار الشمالي لدول الجنوب، وفوجئنا بمن حاول تصفية حسابات، لعله كان محقا في مضمونها، لولا أنه خلط بين المراحل والتواريخ، حيث يقول: (احتقار الغرب للعالم العربي و الإسلامي واستهداف مقدساته يعود بالدرجة الأولى إلى قابلية الأنظمة الحاكمة في هذه البلدان للاحتقار) ولمجرد أن هذا الادعاء لا ينطبق على كل المراحل التي عرفها الوطن العربي، ولن أذكر بقيمة بلدانه ووزنها في عهد محمد الخامس والحبيب بورقيبة وأحمد بن بلة وهواري بو مدين وجمال عبد الناصر وصدام حسين وزايد آل نهيان وقيادات الكويت وآخرين يحجب أسماءهم ضباب الزمن.
ويكفي أن أذكّر هنا بأن «بيرلسكوني» انحنى على يد العقيد القذافي ليقبلها، وبغض النظر عن الرأي الشخصي في القائد الليبي.
لكن أخطر من هذا هو ما قرأته لمعلق يقول حرفيا، وبتوقيع رمزيّ (لو أردت أن اسرد لك ما فُعل باسم «الإسلام» من أيام معاوية إلى الآن ضد المسلمين أنفسهم وغير المسلمين وكم سفاح مرّ في تاريخنا لما انتهينا، يكفي ما فعله أجداد اردوغان في منطقتنا من تدمير وقتل ومجازر بحق الأرمن، وهؤلاء لوحدهم تم إبادة مليون إلى 1.5 مليون شخص منهم، واليونان والآشوريين والكرد والعرب…جماعة «إذا دخلت مصر فأحرق بيوتها قاطبة والعب في أهلها بالسيف…)
وإذا كنت أرى في هذا تخريفا معيبا وتحريفا للحقائق، وبغض النظر عن مواكبته لعملية استهداف تركيا التي يتزعمها الرئيس الفرنسي، فإنني لا أنكر حق المعلق في أن يقول ما يُريده، بشرط أن نعرف من هوَ وما هُوَ توجهه السياسي بل وما هي ديانته أو مذهبه، بدون التستر وراء توقيع مستعار، يجعل السطور صيحة حق مزعوم يُراد بها باطل مؤكد.
ولغوٌ يُنشر كهذا، يمكن أن يؤثر على فكر قارئ لا يملك إمكانيات المقارنة أو التحقق مما يقرؤه، وهو عبارة عن قنابل فكرية موقوتة تختفي وراء التعبيرات البلاغية، ولا يختلف، فكريا، عن الأعمال الترويعية الإجرامية التي تستهدف الآمنين.
ومن هنا، ليس من قبيل «البارانويا» أن نتحدث اليوم عن وجود عملية كبرى لتشويه الإسلام، كحضارة وكوجود عالمي، عملية قوتها الضاربة هي أجهزة الإعلام الغربية، التي تسيرها وتوجهها مؤسسات دينية ونفطية واحتكارات اقتصادية وشركات صناعة طائرات حربية وأسلحة من كل نوع وأجهزة حماية أمنية أصبحت اليوم تجارة رابحة يدفع ثمنها المواطن العربي من قوت عياله.
عملية عنوانها «الحرب ضد الإرهاب» يُفرض علينا التغني بها في وسائل الإعلام الوطنية، أي التي تُطبع في الوطن، تحت مبرر : الحق في حرية التعبير.
حرية التعبير هذه تفرض على تفكير القارئ توجهات مشبوهة تقول إن (من يقتلون باسم الإسلام يستمدون «شرعية» إجرامهم وإرهابهم من آيات وأحاديث ونصوص وتفسيرات وتأويل وفتاوى من صلب وعمق ديننا) في حين أنه ليس منا من يُبرئ أي مسلم، لمجرد أنه مسلم ولو بالوراثة، من ارتكاب عمليات إجرامية يثبت ارتكابه لها.
لكننا نعرف كما يعرف الجميع أن عمليات غسيل المخ والسيطرة النفسية الموجهة واستعمال أنواع خاصة من المخدرات ليست إجراءً مستحيل الحدوث، ولسنا سذج لنتصور أن عمليات غسيل المخ لا تستهدف إلا ضعاف النفوس والمنحرفين، بل إنها يمكن أن تركز على شباب طاهر بريء، يعاني من الإحباط النفسي الذي تحدثه تصرفات حكومات فاسدة ومجرمة، تتلقى الدعم من الغرب المنافق الذي يتغنى بالديمقراطية ويشجع الحكام الذين يقمعونها، ولقد ذكّرت بما سمعته يوما من المفكر الأمريكي «وليم كوانت»، الذي قال لي على مسمع من شهود أحياء إنه لو كانت هناك ديمقراطية لما أمكن تمرير اتفاقية «كامب دافيد».
ولقد قلت أكثر من مرة بأن معظم من قاموا بعمليات إجرامية في أوربا كانوا شبابا وُلد في أوربا وتم تكوينه فيها ولعله لا يعرِف الكثير عن بلده الأصلي، وهو في نهاية الأمر تعبير عن فشل سياسة الإدماج الغربية التي حرمت الشاب ذي الأصل العربي أو التوجه الإسلامي من مرجعيته الأسرية بحجة العصرنة والتقدم، وعندما حاول الارتباط بالمرجعية الدينية وجد أمامه فقهاء السلطة ممن ترعاهم المخابرات الأجنبية، مثل الشيخ ذي الأصل التونسي الذي كان يهتف مع جماعة «أنا شارلي».
وهكذا ارتمى الشباب في أحضان دعاة مشبوهين، تم تكوينهم لأهداف سياسية في بلدان معينة، لعلها نفس البلدان التي تحظى اليوم بالرعاية المطلقة ممن يدعونا لاحترام الحق في حرية التعبير لمحاربة الإرهاب، ويتستر على ما يتم عند الآخرين من حلفائه من تناقض حقيقي مع حرية التعبير.
لكن الاستهانة بالروح البشرية وبالمعاناة الإنسانية ليست من طباع المسلمين، فلم يحدث أن أعدم متهم بطريقة الخازوق البشعة التي استعملها الجيش الفرنسي في مصر مع سليمان الحلبي، ولم يحدث أن علقت على المشنقة رفات سياسي «بعد موته»، كما حدث مع كرومويل في بريطانيا، وبالطبع لم يحدث أن أعدم إنسان حرقا كما حدث مع جان دارك، التي سلمها الفرنسيون للعدوّ البريطاني.
وقد كنت أشرت إلى معلومات صحفية تقول إنه تم تجنيد أعداد من الصهاينة في بعض المجتمعات، طُلب منها أن تظل خلايا نائمة إلى أن تتلقى التعليمات بالتحرك في لحظة معينة لتخلق حالة من الذعر في العالم، وخصوصا في أوربا، التي تزايد فيها عدد المسلمين بشكل لا يتردد كثيرون هناك في التحذير من أخطاره على البنية الديموغرافية للغرب، حيث تخفي الادعاءات اللائكية الخلفية التي تربط العهد الجديد بالعهد القديم، أي تربط النصرانية باليهودية.
ولم يكن هذا بالأمر الجديد، فقد أثبت التاريخ أن مجرمين من الأوربيين الذين قاموا بغزو أمريكا كلّفوا باستثارة من أسموا أنفسهم «الرواد» (LES PIONIERS) ضد السكان الأصليين، أو من يُسمّون خطأً «الهنود الحمر»، وذلك بارتداء زي هؤلاء، ووضع الأصباغ على وجوههم وأكاليل الريش على رؤوسهم، ثم مهاجمة أبناء جلدتهم من الأوربيين، وقتلهم بأساليب بالغة البشاعة، ليُتهم السكان الأصليون بأنهم هم المجرمون، وبأنهم لم يحترموا اتفاقيات السلام الموقعة بينهم وبين الغزاة الأوربيين، وهكذا يجري تأليب الجميع ضدهم ويسهل التخلص منهم.
ويمكن أن نتصور احتمال تنفيذ عمليات مماثلة في العصر الحديث، تستهدف خلق أوضاع معينة تسهل على المستعمر السابق تشديد قبضته على رجاله ممن يمارسون الاستعمار الجديد تحت لواء الاستقلال الوطني المزيف، ويدعم هؤلاء أصواتٌ منكرة تستعمل شعار حرية التعبير في تشويه مواقف الوطنيين الذين يدافعون عن حقوقهم المشروعة، وأبسطها حقهم في مقاطعة البضائع الأجنبية والكماليات بوجه خاص، وهي مبادرات فردية تلقائية ثبت مؤخرا أنها كانت وخزة موجعة لمن استهانوا بالإرادة الإسلامية، لكنها لقيت من المستلبين ردود فعل شرسة، بدأت بالتقليل من أهميتها ثم راحت تشكك في فعاليتها وأخيرا اضطرت إلى التنديد بها.
وهكذا يتحمل كلٌّ مسؤولية عمله ونتمكن من القضاء على العملة الفكرية الزائفة التي تكاد تطرد العملة الصحيحة من ساحة الإعلام.
وحرية التعبير حق مقدس ومكانه محفوظ، لكن حق التبعير شيء آخر، ومكانه ليس منابر الفكر الحرّ وإنما قنوات الصرف الصحي.
آخر الكلام: رحم الله المجاهد لخضر بورقعة وغفر له وأكرم مثواه.