فعّل مشروع تعديل الدستور المعروض على الاستفتاء، اليوم، الدور المحوري والأساسي للمجتمع المدني حتى يكون شريكا فاعلا للسلطة في بناء الجزائر الجديدة، في تكريس واضح وصريح للديمقراطية التشاركية، ما يعزز مشاركته في مختلف جوانب الحياة سياسية،اقتصادية واجتماعية، بغية وضع قواعد العلاقة التي تربطه بالسلطة، على اعتبار أنها مؤسسة استشارية وشريك فعال في ترقية المجتمع.
كلما تواجدت مؤسسات المجتمع المدني وأدت دورها، كلما كانت الديمقراطية أقوى وأكثر فاعلية، على حد قول المفكر الإيطالي روبرت بوتنام، لقدرتها على تعبئة المجتمع وصناعة الرأي العام وعلى اعتبار انه قوة موازية للدولة.
وتبرز أهمية المجتمع المدني وتأثيره على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في القضاء على سياسة التهميش الاجتماعي والسماح لمختلف مؤسسات المجتمع المدني، بالعمل في جو من الحرية والاستقلالية بعيدا عن الولاءات والحسابات الضيقة.
لذلك، كانت المكانة التي احتلها المجتمع المدني في المنظومة الدستورية الجزائرية مختلفة ومرتبطة بالظروف المحيطة، بمعالجة مفهوم المجتمع المدني، انطلاقا من مختلف التحديات والتعريفات التي أعطيت له وكذا التفاوت الكبير في تحديد العناصر والقوى التي يتشكل منها.
نحاول اليوم معرفة هذه المكانة من خلال تتبع الحركة الدستورية وما انطوت عليه من مبادئ ديمقراطية، لها علاقة بنظام الحكم والمبادئ التي يقوم عليها، على اعتبار أن الدستور هو الحجر الأساس الذي يعكس بحق الارتقاء إلى الديمقراطية التشاركية، ونقطة البداية لإقرار أهمية المشاركة السياسية وتوفير الحد الأدنى من ممارستها على أرض الواقع عن طريق مجتمع مدني حر ومستقل.
وفي هذا السياق، نلاحظ أن دساتير فترة الحزب الواحد لم تعط المجتمع المدني الدور المنوط به، فقد نص دستور 1963 في المادة 19 على حق المواطن الجزائري وحريته على تأسيس الجمعيات والاجتماع، كما نص في المادة 20 على حقه النقابي ومشاركة العمال في تدبير المؤسسات.
أما دستور 1976 فقد جعل من المجتمع المدني امتدادا لحزب جبهة التحرير الوطني من خلال المنظمات الست: الاتحاد العام للعمال الجزائريين والمنظمة الوطنية للمجاهدين والاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية والاتحاد الوطني للنساء الجزائريات، بالإضافة إلى التنظيمات العلمية والثقافية والمهنية. لكن رغم حضور المجتمع المدني وتنوع ميادين عمله، إلا أن سيطرة الحزب الواحد وهيمنته عطلت دور المجتمع المدني ووضعته على الهامش أو تحت غطاء عباءة الحزب الواحد.
أما دستور 1989، الذي تزامن مع مخاض عسير عرفته الساحة السياسية والاجتماعية، أخرج الجزائر من الأحادية إلى التعددية، فقد شكلت أحداث 5 أكتوبر 1988 المنعرج الذي أعطى الجزائريين حرية أكبر، ما منح المجتمع المدني فيه مساحة أكبر ودورا أوسع تلعبه في مختلف مناحي الحياة، حيث نصت المادتان 32 و39 على دور الجمعيات والأفراد وعلى الحقوق الأساسية للإنسان وعلى الحريات الفردية والجماعية... وكذا المادة 53 التي أكدت على الحق النقابي واعترفت به لجميع المواطنين، بل وتحميه بقوة القانون.
الواقع أن تلك الدساتير لم تعتبر المجتمع المدني شريكا، بل كان دائما مجرد تابع.
أما دستور 1996 وعلى ضوء الظروف الأمنية الخاصة التي عاشتها الجزائر في تلك الفترة، نص في المادة 43 على الحق في إنشاء الجمعيات ونصت المادة 41 على حرية التعبير والتجمع والاجتماع مضمونين للمواطن وهو إقرار بدور المجتمع المدني، لكن وبالنظر إلى ما سبق لم يكن يشكل قوة مؤثرة في تلك الفترة.
وكرست دساتير 2011 إلى 2016 مفهوم المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية في إطار الإصلاحات السياسية في تلك المرحلة، حيث كرس من خلال مواده مشاركة الجمعيات في المراقبة، لكن ربط نشاطاتها بالولاءات، جمّد عمل المجتمع المدني الذي تذبذبت فاعليته في الميدان.
مجتمع مدني حر ومستقل
لذلك جاء مشروع تعديل الدستور المطروح للاستفتاء، اليوم، لتفعيل دور المجتمع المدني ليكون محوريا في بناء الجزائر الجديدة، حيث تم دسترة وجوده بإنشاء المرصد الوطني للمجتمع المدني كهيئة استشارية وشريك فعال في ترقية المجتمع وإشراكه في مهام الهيئة العليا لمكافحة الفساد، لتوضع أولى لبنات مجتمع مدني حر ومستقل بعيدا عن الحسابات الحزبية والسياسية.
وجاء في المادة 10، تسعى الدولة إلى تفعيل دور المجتمع المدني للمشاركة في تسيير الشؤون العمومية، والمادة 16 تشجع الدولة الديمقراطية التشاركية على مستوى الجماعات المحلية، لاسيما من خلال المجتمع المدني، المادة 205 تنص على ضرورة مساهمة السلطة العليا في تدعيم قدرات المجتمع المدني والفاعلين الآخرين في مجال مكافحة الفساد.
أما المادة 210 فتنص على أن يتولى المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، على وجه الخصوص، مهمة توفير إطار لمشاركة المجتمع المدني في التشاور الوطني حول سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في إطار التنمية المستدامة.
واستحدثت المادة الجديدة 213 المرصد الوطني للمجتمع المدني، المرصد الوطني للمجتمع المدني هيئة استشارية لدى رئيس الجمهورية. ويقدم المرصد آراء وتوصيات متعلقة بانشغالات المجتمع المدني، كما يساهم في ترقية القيم الوطنية والممارسة الديمقراطية والمواطنة ويشارك مع المؤسسات الأخرى في تحقيق أهداف التنمية الوطنية.