لا يمكن الحديث عن الثورة التحريرية بالجزائر، دون التوقف عند محطات حاسمة فيها خاصة بمنطقة الأوراس، بعد سنوات كثيرة من التحضير لها.
الشعب» وقفت على آثار الاجتماع الحاسم للتحضير للثورة خلال الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر، وهو آخر اجتماع عقده البطل مصطفى بن بولعيد بعد عودته مباشرة من العاصمة التي التقى فيها بالستة الكبار، حيث تم تقسيم الكتائب وأقسموا اليمين بأنهم لن يخونوا الثورة ووضعت كلمة السر «خالد عقبة»، ثم رجعوا إلى دشرة أولاد موسى لتنفيذ ما اتفق فيه في الإجتماع.
تحتفظ العديد من الأماكن التاريخية بولاية باتنة، بالكثير من الذاكرة الجماعية والتاريخية للجزائريين، الخاصة بأحداث الثورة المباركة ومنعرجاتها الحاسمة بداية بالتحضير لها، ومرورا باندلاعها ووصولا إلى المعارك الضارية التي خاضها المجاهدون واستشهد فيها أبطال، وانتهاء بالإنجازات التاريخية التي حققتها الثورة وهي انتزاع الاستقلال من المستدمر الفرنسي بعد ضريبة تاريخية فاقت الـمليون ونصف مليون شهيد في سبع سنوات من الجهاد، دون الحديث عن الفاتورة التي قدمها الجزائريون من أرواحهم الزكية الطاهرة منذ دخول الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر الطاهرة سنة 1830.
تاريخ ثورة وذاكرة أجيال
وثقت كتب التاريخ وشهادات المجاهدين أن من بين الأماكن التاريخية التي لا تزال شاهدة على تحضيرات الثورة وللأسف لم تأخذ حقها من الكتابات التاريخية، منزل المجاهد الراحل البطل عبد الله بن مسعودة المعروف بـ»مزيطي»، الذي احتضن اجتماع لقرين الشهير ببلدية أولاد فاضل بباتنة، الذي تخلله نسخ بيان أول نوفمبر 1954 لأول مرة شاهدا ماديا حيا على عظمة الثورة ورجالاتها، يحفظ الذاكرة الجماعية للجزائريين، كونه احتضن الاجتماع التاريخي لقادة الأوراس قبل انطلاق الثورة وسط سرية كبيرة ودون أن تتفطن لذلك القوات الفرنسية التي كانت حريصة على مراقبة ومتابعة قادة الثورة قبل اندلاعها لتصفيتهم.
يتحول المنزل، الذي شهد اجتماع لقرين الشهير مع اقتراب تاريخ ذكرى اندلاع الثورة المجيدة، كل سنة إلى محجّ للزائرين من مختلف الولايات، وهو موجود ببلدية أولاد فاضل المعروفة تاريخيا ببولفرايس أو توفانة، الموجودة بين الطريق الولائي رقم 20 الرابط بين بلدية الشمرة بباتنة والطريق الوطني رقم 88 المؤدي إلى ولاية خنشلة.
يتطلب الوصول إلى المنزل العتيق الموجود بمنطقة فلاحية عبور مسالك ترابية، على مسافة 400 متر من الطريق الولائي رقم 20، فهو يشهد إقبالا كبيرا من طرف الزوار باستثناء هذه السنة، التي حالت جائحة كورونا كوفيد 19 دون تسجيل حركية بهذه الدار، وسط منطقة جرداء، مبنية -حسب ما عاينته «الشعب»- بالحجارة القديمة المتراصة بخليط من التربة.
يبدو المكان مهجورا من ساكنيه وهم أصلا من عائلتي بن مسعودة وحمزاوي، لتبقى آثار باب حديدي وبقايا بيوت حجرية تحولت إلى أطلال من الحجارة والطين شاهدة على حقبة تاريخية حاسمة في تاريخ الثورة.
يتكون المنزل «المعلم» من غرفة واحدة بسقف خشبي احتفظ بحالته الأصلية، رغم عملية ترميمه في عهد الوالي الأسبق عبد الخالق صيودة، أنجز حسب جمعية تاريخ أولاد فاضل سنة 1942 من طرف صاحبه المجاهد عبد الله بن مسعودة، حيث يضم بعض الحجرات المفتوحة على فناء في الوسط فيما يتواجد بيت الضيوف في الجهة الخلفية للمنزل في نهاية رواق منفصل، تم فيه لقاء لقرين الشهير ونسخ فيه بيان أول نوفمبر1954 في النصف الثاني من شهر أكتوبر من ذات السنة.
صياغة بيان أول نوفمبر وكتابته
كان المنزل قبل اندلاع الثورة عبارة عن زاوية لتعليم القرآن الكريم وتحفيظه للأطفال على أيدي العديد من المشايخ، ليتحول بعدها إلى ملاذ آمن للمجاهدين الذين لاحقتهم السلطات الاستعمارية وضيقت على نشاطهم في منطقة أريس على غرار قرين بلقاسم والصادق شبشوب وحسين برحايل، والذي جمع البطل بن بولعيد بصاحب المنزل، وأصبح يتردد عليه باستمرار إلى غاية اختياره كمكان لعقد اجتماع تحضيري للثورة.
تحول المنزل، اليوم، إلى معلم تاريخي به جدارية تشير إلى الأبطال بشير شيحاني وعاجل عجول وعباس لغرور والطاهر غمراس المعروف بنويشي، وعبد الله بن مسعودة ومسعود خنطر وحاجي موسى، والذين كانوا شهودا على نسخ أول بيان لميثاق أول نوفمبر 1954 ووضع آخر الترتيبات لتفجير الثورة المجيدة من قلب الأوراس.
ويحمل منزل بن مسعودة رمزية تاريخية كبيرة، نظرا لأهمية اجتماع لقرين التاريخي، الذي تم فيه، والذي حدث بدوار أولاد عمر بن فاضل بالمكان المسمى لقرين بين قريتي بولفرايس والشمرة بعد عودة بن بولعيد من الجزائر العاصمة، عقب اجتماعه بالقادة أعضاء لجنة الستة الكبار وهم محمد بوضياف ومصطفى بن بولعيد وديدوش مراد ومحمد العربي بن مهيدي وكريم بلقاسم ورابح بيطاط.
في هذا الصدد، ذكر المجاهد الراحل «آخر لصوص الشرف» أحمد قادة، في تصريح سابق لجريدة «الشعب» بمنزله، والذي عايش هذا الاجتماع بأن بن بولعيد بعد ترحيبه بضيوفه من المجاهدين قرأ عليهم «لأول مرة» بيان أول نوفمبر ليطلب بعدها –حسب قادة- من شيحاني، بشير كتابته بالآلة الكاتبة وأعلم الحضور بأنه قد تقرر تحديد تفجير الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954 من الأوراس الذي سيحتضنها من 6 إلى 8 أشهر لتعم كل مناطق الوطن.
مطالب بتحويل الدار إلى متحف تاريخي
يذكر الراحل قادة أحمد أن مصطفى بن بولعيد قام بتقسيم الأفواج التي حددها آنذاك بـ 27 فوج منها خمسة أفواج «ببسكرة يتكفل بها قادة أحمد وحسين بالرحايل، وخمسة أفواج بخنشلة يتكفل بهم عباس لغرور وعثماني عبد الوهاب والباقي لباتنة تتوزع على شيحاني بشير ومصطفى بوستة، وعاجل عجول حيث حدد لكل مجموعة الأهداف التي ستضربها.
بدوره المجاهد الكبير الراحل الطاهر نويشي، الذي حضر الاجتماع أيضا يروي في مذكراته، أن اجتماع لقرين الشهير شهد المصادقة على قرارات هامة، لم يتجاوز سرها مصطفى بن بولعيد، شيحاني بشير، عاجل عجول وعباس لغرور، أهمها توزيع المسؤوليات وتحديد المهام، تعين أماكن الاتصال، كيفية جمع المناضلين الذين سيجندون في أمكنة معينة، وكيفية توزيع الأسلحة على المجندين الذين لا يملكون سلاحا، إضافة إلى إعداد المركبات لنقل أفواج المجاهدين إلى أماكن العمليات، وكذا تحديد ساعة اندلاع الثورة، وكلمة السر التي تم الاتفاق عليها وهي «خالد عقبة» وأخيرا تحديد عدد العمليات العسكرية بثلاثين هجوما على مستوى منطقة الأوراس.
واستهل اللقاء -حسب الراحل قادة أحمد- بأداء اليمين على المصحف والإلتزام بعدم الخيانة أو إفشاء السر، بحضور المجاهد شيخ الزاوية سعد حب الدين الذي كان كاتب لجنة اجتماع لقرين أين أدى الجميع اليمين على المصحف الذي كتبه والده الشيخ العلامة حب الدين محمد الطيب.
ولا تزال المطالب بتحويل المنزل لمتحف تاريخي، نظرا لأن اجتماع لقرين كان مفصليا في تاريخ الثورة كونه شهد آخر ترتيباتها وذلك حفاظا على الذاكرة التاريخية للأجيال رغم توسعة هذه الدار وتعبيد الطريق الترابي المؤدي إليها.