شغلت جماعة «بوكو حرام» النيجيرية العالم بأسره، حين أقدمت على اختطاف أزيد من 200 فتاة في وضح النهار من ثانوية بمدينة شيبوك. تفاعلت القوى الدولية الكبرى مع الحدث ورأت في الجماعة خطرا يهدد غرب إفريقيا.
لا يمكن وصف إعلان قمة باريس المصغرة حول نيجيريا الحرب على التنظيم الإرهابي لجماعة «بوكو حرام»، إلا بالتفاعل المتأخر الذي يخفي نوايا وأهداف قد تدفع الوضع نحو المزيد من التعقيد، فقد تحدث الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عن «مخطط عمل شامل على المديين القصير والمتوسط للقضاء على نشاط الجماعة». ويحمل بشكل مفصل « التنسيق الاستخباراتي، تبادل المعلومات، الدعم الجوي، مراقبة الحدود حضور عسكري حول بحيرة التشاد وإمكانية التدخل العسكري في حالة الخطر».
الرئيس الكاميروني بول بيا بدوره قال: «سنعلن الحرب على بوكو حرام»، ما يعني أن مقاربة الحل الشاملة لا تحمل في جعبتها إلا رصاصة الحرب الشاملة دون سواها من الحلول الأخرى.
بوكو حرام .. بداية التطرف
في سنة 2009، قررت بوكو حرام، حمل لواء العداء للحكومة النيجيرية، وأصبح شمال البلاد الذي تتحصن فيه مسرحا لأعمال التطهير العرقي بين المسلمين والمسيحيين، تارة ينسف مسجد على رؤوس من بداخله وتارة أخرى تهدم كنيسة ويقضي من بداخلها، وتطور الوضع إلى أن أمسكت الجماعة المتطرفة بزمام الأمور وبسطت سيطرتها على قرى ومدن بأكملها، ولا يمر يوم إلا وتتبنى فيه هجوما على الجيش أو محطات نقل المسافرين والأسواق، وناردة هي المرات التي تعرضت فيها للرعايا الأجانب.
كانت اعتداءاتها تسفر دوما عن سقوط عشرات الضحايا، ونجحت إلى حد بعيد في زعزعة الأمن والاستقرار وتعطيل التنمية بمناطق الشمال، وراح ضحية أفعالها الشنيعة عدد معتبر من المسلمين الذين اتهمتهم الحكومة بالتخابر أو دعم وإسناد عناصرها، فازدادت أوضاعهم الاقتصادية سوءا، علما أن الشعور بالتهميش والتعنيف و عدم المساواة في توزيع الثروة كان من الدوافع الأساسية لتشكل بوكو حرام، قبل أن ترتفع طموحاتها بارتفاع عدد هجماتها وباتت تريد إقامة دولة إسلامية في الشمال.
نيجيريا عاجزة عن التصدي للجماعة
في مقابل هذا، شكل القضاء على نشاط الجماعة، أحد أكبر الوعود الانتخابية للرئيس النيجيري «كود لاك جوناثان»، حيث نفذ جيش نيجيريا أحد أقوى الجيوش في القارة عدة هجمات شاملة ومتفرقة، دون أن يؤثر على نشاطها أو يدلل منها. وبدى الحلقة الأضعف في أزمة الفتيات المختطفات، إقدام عدد محدود من مسلحي بوكو حرام بحمل أزيد من 200 فتاة في شاحنات ونقلهم إلى مكان مجهول في وضح النهار يعد إخفاقا امنيا لا يغتفر للحكومة والرئيس والجيش. الجيش كان محل سخط الرأي العام الداخلي، حيث تناول وسائل الإعلام، قضايا الفساد المستشري في صفوفه وعدم احترافيته.
الخلل الأمني بنيجيريا فتح الباب أمام دخول فرنسا، الولايات المتحدة وبريطانيا على الخط، وبادرت الدول الثلاث بتقديم الدعم اللوجيستي والمادي، والمساعدة في العثور على الفتيات وتحديد موقع احتجازهن.
تبعات غياب التنسيق الأمني
التفاعل الدولي والإعلامي مع الأزمة، لفت إلى خطر امتداد نشاط الجماعة إلى الدول المجاورة، كالكاميرون، التشاد، النيجر والبينين التي حضرت قمة السبت الماضي بباريس، حيث اتضح غياب أدنى تنسيق في مجال الدفاع، خاصة بين الكاميرون ونيجيريا على الرغم من أن جماعة بوكو حرام تنشط على حدود الدولتين، لكن الخلاف العميق بينهما حول شبه جزيرة باكاسي الغنية بالنفط أدى إلى فتور العلاقات، قبل أن يظهر رئيسا البلدين جنبا إلى جنب، مطلع الأسبوع بالعاصمة الفرنسية، يتعهدان بالتنسيق والعمل معا على محاربة الجماعة.
هذا التغاضي عن أعمال الجماعة، جعل المعلومات المتعلقة بعدد عناصرها وارتباطاتها الخارجية ضئيلة جدا ولا يعرف منها سوى زعيمها عبد القادر شيكو، الذي رصدت الولايات المتحدة العام الماضي مبلغ 7 ملايين دولار مكافأة لمن يقضي عليه، ووصفته البلدان الغربية بقلة الاهتمام بالأبعاد الإستراتيجية والأمنية بالمنطقة، ونصبت نفسها صاحبة الحل.
اعتداءات بوكوحرام فتحت المجال أمام فرنسا وأمريكا على وجه الخصوص لإعادة انتشارهما العسكري في الساحل الإفريقي وغرب القارة.
وإذا كان تحليل الرئيس الفرنسي، حول بوكو حرام، يشير إلى تزود الحركة بأسلحة تسربت من ليبيا وتدرب عناصرها شمال مالي مع العناصر الإرهابية للتنظيم الإجرامي «القاعدة»، فينبغي تذكيره أن بلاده بقيادة ساركوزي وحلف الناتو هي من فتحت خزان الأسلحة الليبية أمام الجماعات الإرهابية، بعد التدخل العسكري سنة 2011.
وإذا كانت هذه الجماعات تملك المال الوافر لاقتناء السلاح، فإن أهم مصادر تمويلها هي الفدية التي تدفعها في كل مرة لتحرير مختطفيها ضاربة تحذيرات دول الميدان وعلى رأسها الجزائر عرض الحائط.
قمة للتحكم في خيوط الأزمة
« ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية حل أية أزمة في العالم، لكن من مصلحتها التحكم في خيوط كل أزمة» ... وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر.
تقتدي الدول الغربية (فرنسا، الولايات المتحدة وبريطانيا) ببعضها البعض في تطبيق مبدأ التدخل في الوقت الذي يناسبها وتفرضها حاجتها لمساعدة الدول التي تمر بظروف أمنية عصيبة في استعادة التوازن، واعتدات فرنسا على التحكم في الانقلابات العسكرية في إفريقيا وتوجيهها دائما نحو ما يخدم مصالحها، وأنقذت في مرات عديدة الرؤساء المحاصرين بالمتمردين، في آخر لحظة بعد رضوخهم وتوقيعهم لصفقات استغلال الموارد الأولية، ولم يسجل لها التاريخ يوما تعاونا كما يفضل تسميته ساستها، أفضى إلى حل نهائي طوت بموجبه البلاد المعنية صفحة سوداء في تاريخها.
الاهتمام الذي أبدته فرنسا بأزمة الفتيات المحتجزات في نيجيريا، هذه الأيام يقود إلى طرح عدد من الأسئلة، لماذا نظمت القمة المصغرة السبت الماضي حول نيجيريا في هذا الوقت بالذات؟ لماذا لم تفعل ذلك العام الماضي حينما تم اختطاف عائلة فرنسية وتم تحريرها بدفع الفدية وبوساطة كاميرونية؟ لماذا تشحذ همم تشاد والبنين والنيجر والكاميرون لرفع تنسيق جهودها الدفاعية وهي تعلم أنهم لا يملكون لا العدة ولا العتاد الكافي لذلك؟
إن عملية اختطاف الفتيات لا تشكل إلا نزرا يسيرا مما اقترفته بوكو حرام من جرائم خلال السنوات الماضية، وتؤكد الصور العديدة وجود مقابر جماعية لضحاياها فلما ترك تدويل أفعالها الشنيعة ومحاولة وضعها على لائحة الأمم المتحدة للإرهاب إلى غاية اليوم؟
لقد جاء الدور إذا، على نيجيريا لربطها بحاجز التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة، مستغلة الجرائم الأخيرة لبوكو حرام ذريعة ومبررا يفرض التدخل الفوري ليس بنشر قوات على أرض، ولكن عبر الرقابة الجوية، فقد أضحى بحوزتها أكبر مجال واسع للملاحة الجوية يمتد من جنوب ليبيا ومالي إلى المحيط الأطلسي، ترصد من خلاله كل المعلومات المهمة، وتستغلها في التحكم بالوضع كما ينبغي.
ومن أجل إعادة ترتيب خارطتها الأمنية في المنطقة، سارعت فرنسا إلى عقد قمة باريس السبت الماضي، وجمعت الرئيس النيجيري بنظيره الكاميروني رغم فتور العلاقات بينهما، ولعبت دور الوساطة والدعم لتوحيد جهود كل الدول للقضاء على بوكو حرام، لكنها في الأصل أحكمت قبضتها على خيوط الأزمة.
الحل الغربي يثير المخاوف
انقسم الشارع النيجيري، بعد قمة باريس إلى مُرحب بالدعم الأجنبي لبلاده لمحاربة تنظيم بوكو حرام ومتشائم من طبيعة هذا الدعم، فإعلان الحرب على جماعة يشهد لها بقدرات قتالية عالية ويجهل لحد الآن مكان انتشارها وتحصنها، وأعداد عناصرها سيؤدي دون شك إلى تعفن الوضع ويعمق المأساة أكثر من أي وقت مضى.
ويمثل الوضع الراهن في ليبيا وتحولها إلى دولة منهارة تماما تصدر اللااستقرار لدول الجوار، نموذجا على التدخلات الغربية الفاشلة، حيث ركزت على الحل العسكري دون مراعاة التداعيات، وهاهي اليوم تعترف بسوء تقديراتها، وتحصي يوميا شحنات السلاح المهربة إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ومنها إلى بوكو حرام، لكن لم تتعلم من الدرس ولازالت تزج بأسلحتها الحربية العصرية، لحراسة بحيرات النفط الممتدة وحقول اليورانيوم.
إن إسناد الجزء الأكبر من قضايا الدفاع والأمن للبلدان الغربية يسيء لمبدأ الحلول الإفريقية للمشاكل الافريقية، فحتى وإن بدت الدول عاجزة إلى حد ما، تبقى مطالبة بالمصارعة والبحث عن الحلول الملائمة التي تشمل التنمية، والإصلاحات السياسية والاقتصادية وتطهير المؤسسات من الفساد والرشوة وهو ما طالبت به منظمات دولية النظام النيجيري بإقرار قبل البحث عن الوسائل العسكرية لمطاردة بوكو حرام.