لم تكن مسألة محاربة الفساد أمرا هيّنا مع استفحال الظاهرة على مستويات عديدة، ووسط تغوَّل ذهنية «أنا ومن بعدي الطوفان». بالرّغم من التشريعات والقرارات السياسية، التي كانت تصب دائما في خانة محاربة «الجائحة»، لكن الفساد كان دائما ما يجد طرقا ملتوية للإفلات من العقاب، ما يصعّب ملاحقة الفاسدين ومحاربتهم أينما وجدوا.
مع التطوّر التكنولوجي الحاصل والتّوجه اليوم نحو التحوّل الرقمي، ها هي الرّقمنة تحل بكل مفهومها وبأدواتها وبرامجها وتطبيقاتها لتسلّط أضواء الشفافية على الزّوايا المظلمة، التي عاشت بها مفاصل الدولة طيلة عشريات سابقة.
تحلّ اليوم الرّقمنة لتلقي بكامل ثقلها من خلال البرمجيات والأدوات الحديثة، فتسلّط أضواء الشفافية على مفاصل المنظومة الاقتصادية والإدارية. وها هم شباب اليوم من طلبة وخريجي المدارس الوطنية العليا والمعاهد والكليات يرفعون شعار التحدّي من خلال تسخير مؤسساتهم الناشئة، ومختلف التطبيقات والمنصّات الالكترونية، التي أبدعوا في إنشائها لرقمنة الإدارات والهيئات العمومية، لتوقّع بذلك الجزائر بداية نهاية ممارسات ضربت عصب المنظومة الاقتصادية في العمق، مع وجود إرادة لمحاربة الظّاهرة دون هوادة، والمضي قدما نحو بناء «جزائر جديدة» مبنية على أسس متينة وصلبة تحت عنوان..»الجزائر للجزائريين».
المألوف سيصبح غريبا..
ما كان مألوفا خلال عشريات سابقة وعلى مستويات متعدّدة ابتداء من نهب الأموال العمومية، مرورا بالرّشاوى وظهور «أشخاص «فوق العادة»، مستفيدين من عطاءات المال العام دون سواهم من المواطن المغلوب على أمره، وانتهاء بتعيين أشخاص في مراكز وظيفية لا يستحقونها، أو لا حاجة لوجودها، ما تسبب في تفشي البيروقراطية في الإدارة، بدأ يصبح اليوم غريبا، مع عزم السلطات محاربة ظاهرة الفساد المالي والإداري.
«الشعب» تسلّط بهذا الريبورتاج الأضواء على نماذج لشباب «الكتروني» يحملون في جعبتهم أفكارا ومشاريع ابتكارية أكبر من سنّهم، بداية بامتلاك مؤسسات ناشئة تخصّ الرقمنة، وتصميم تطبيقات ومنصّات إلكترونية لخدمة المتعامل الاقتصادي وحتى المواطن من أجل تسهيل حياته اليومية، وجعل الجزائريين سواسية في مجالات إدارية ومالية عدّة، في ظلّ عزم الدولة الجاد على محاربة الفساد بشكل مغاير عن طريق الإسراع في رقمنة كل القطاعات الاقتصادية، المالية والتجارية والهيئات الإدارية ذات الصلة لهدف واحد، هو تكريس الشفافية قصد النهوض بالاقتصاد الوطني.
جنود الأمن المعلوماتي على أهبة الاستعداد
«إقتحمنا» المدرسة العليا للإعلام الآلي بواد السمار بالجزائر العاصمة، التي تخرَج مهندسين في علم الحاسوب، معقل من معاقل «أمخاخ» الجيل الصاعد في مجال الكمبيوتر والمعلوماتية، لإماطة اللثام عن بعض من أفكارهم التي ظلّت حبيسة جدران الجامعة.
وبالرّغم من أن حظَنا كان قليلا، لأن طلبة المدرسة كانوا يجرون امتحانات نهاية السنة التي تأخرت بسبب الظروف الصحية الخاصة التي تعيشها البلاد وكافة العالم جراء انتشار جائحة «كوفيد 19»، لكننا افتككنا لقاء مع المسؤول الأوّل عن أحد النوادي العلمية التي تزخر بها المدرسة، ويتعلّق الأمر بالشاب الطموح رضوان نيبوشة، الذي يقود 40 طالبا
من خيرة أبناء المدرسة تحت عنوان نادي «Shellmates» شلميت، وهم اسم مركب Shell يعني بيئة عمل نصّية تتيح للمستخدم التواصل مع باقي أجزاء النظام من خلال استخدام برمجيات نصية وmates تعني أصدقاء.
Shellmates نادي تقني يتكون من حوالي 40 طالبا من خيرة أبناء المدرسة يقدمون خدمات لجميع طلبة الجزائر المنتشرين عبر الوطن، من تكوين وتحسيس في الأمن المعلوماتي، والأخطار الأمنية للكمبيوتر. ويوضح رضوان رئيس النادي في لـ «الشعب»، أن النادي يهدف بالأساس إلى البحث عن ثغرات وتأمينها وتطويرها حتى يصبح الجهاز المعلوماتي مؤمّنا بما يحفظ المعلومات من إختراق وقرصنة بشكل كبير. «
ويضيف أن دور النادي هو التحضير لتأمين المؤسسات النائشة «ستارت آب المستقبل»، كما يقدّم دروسا حول تأمين التطبيقات الالكترونية التي باتت خزَانا من الخدمات سهًلت حياة الجزائريين اليومية.
كما أن النادي ــ حسب مهندس الإعلام الآلي المستقبلي ــ يشرح حماية وتأمين المواقع من اختراق محتمل أوسرقة للمعلومات وضعف تأمين الحاسوب، من خلال البحوث المستمرة للطلبة، والتدريب على أمن شبكات الأنترنت أيضا، وهي كلّها أوجاع في رأس في المؤسسات الاقتصادية العمومية وإلهيآت السيادية في الجزائر.
ويهدف النادي العلمي إلى بناء بيئة الإبداع والموهبة وتطويرها ودعمها، وذلك من خلال رعاية وتطوير قدرات ومهارات الموهوبين والمبدعين، إلى جانب السّعي لإيجاد رواد من الطلبة المبدعين في مجالات الأمن المعلوماتي، من خلال تنظيم مسابقات دورية مفتوحة لجميع الطلبة في البلاد، قصد تحسين آداء وتطوير العمل بالأمن المعلوماتي.
ويلفت رضوان إلى أن النادي صرح علمي مفتوح ايضا لمحبّي المعلوماتية للتعلم والتبادل وتقاسم المعلومات.
«Chifa go» الجزائريون سواسية في قطاع الصحة
غادرنا مدرسة المعلوماتية بواد السمار، وحللنا ضيوفا هذه المرة عند واحد من خرّيجي الجامعات الجزائرية، أنيس بن طيب، صاحب مؤسسة مختصة في الرقمنة، والحاصل على مشروع رقمنة وزارة الصحة، وهي واحدة من بين الآلاف من المؤسسات الناشئة التي تعنى برقمنة الوزارات.
أنيس بن طيب شاب طموح، صاحب مؤسسة «أم بي أي» متعددة المشاريع الإستثماراتية، متخصصة في الرّقمنة والتطوير الإلكتروني، وهي مؤسسة وُلدت قبل شهرين فقط، تشتغل في مجال مرافقة المؤسسات الاقتصادية من النّاحية الإشهارية والتسويقية وتعنى بكل ما هو متعلق بعالم الويب والتكنولوجيا الحديثة.
وحتى ولو أن أنيس خريج كلية الآداب، إلاّ أن مثابرته وبحوثه واتصالاته مع أصدقاء من أوروبا وأمريكا وعمله الدؤوب جعل طموحه يتحقق على أرض الواقع، وصعد هذا «الشاب العصاميّ» سلّم الطموح درجة درجة بالاعتماد على قدراته الخاصة، تحذوه إرادة قوية.
طوَرت هذه المؤسسة منصة الكترونية خدماتية في مجال الصحة تدعى «شيفا غوــ chifa go»، توفّر عدّة خدمات لمهنيي القطاع أو للمواطنين بصفة عامة. هذه المنصة التي تؤسس لرقمنة القطاع عبارة عن موقع وتطبيق الكترونيين، ومن أهم الخدمات التي تقدمها التواصل مع أطباء ومتعاملين في مجال الطب.
يتحدّث أنيس عن مشروعه الإلكتروني، مؤكّدا أنه تحصل على «الصفقة» بعد أن عرض المشروع على وزارة الصحة، في وقت سيتمّ إطلاق المشروع بداية من السنة المقبلة.
وحول سؤال متعلق بكيفية محاربة الفساد في قطاع الصحة من خلال الرّقمنة، يقول أنيس «أنه لو تتم رقمنة كل القطاعات لتراجع الفساد المالي والإداري بنسبة كبيرة في الجزائر، ولكم أن تتخيّلوا أن رقمنة قطاع الصحة العمومية سينهي زمن المحاباة والتوظيف بالهاتف، حيث سيعتمد في المستقبل على معايير رقمية وانتقائية لأحسن المؤسسات الخدماتية مثلا، التي تنشط في القطاع وبسرعة أيضا».
مواعيد أونلاين..
يضيف المتحدث قائلا إن «أي مشروع للرّقمنة لابد أن ترافقه إرادة سياسية قوّية لو تم إعداد برمجيات «لوجسيال» لضبط المواعيد الطبية في المستشفيات العمومية تحت عنوان «مواعيد أونلاين»، سينجح المشروع بصفة كبيرة، وسيكون العدل هو السيّد في أخذ المواعيد ومحاربة الممارسات السابقة مثل «المعريفة»، كما تساهم الرّقمنة بلا شك في استقرار سوق الأدوية واختفاء الاحتكار».
وتعالج قضية التبرع بالدم وتوزيعه العادل، منصة «chifa go» من خلال توزيع كميات الدّم في المستشفيات بطريقة أفضل، ويتم حفظ المادة السائلة من الفساد جراء التكدّس، حيث سيتم الربط بين المتبرعين والمحتاجين أونلاين، وينهي زمن التبرع العشوائي، «حيث ستجدون في خدمتنا إعلانات المتبرعين والمحتاجين ويتم الربط بينهما حتى في تحديد المواعيد»، يقول محدثنا.
ويضيف أنيس: «فضلا عن إتاحة المشاركة في الملتقيات الطبية لكل المهتمين عبر الوطن، سيتم تحسين مستوى الاتّصال الطّبي في الجزائر، فالملتقيات الطبية التي كانت تجري بالعاصمة، ولا يحضرها المختصون من ولايات داخلية وبقيت حكرا طيلة عقود على ولايات كبرى، ستصبح متاحة للجميع، حيث سترافق الخدمة النشاطات الطبية وإيصال المعلومة لكافة الولايات لينتهي بذلك احتكار النشاطات والتهميش الممارس من قبل، خاصة على مناطق الظل».
كما أنّ التوظيف في المؤسسات العمومية الإستشفائية له حصّته من الخدمة الالكترونية، حيث سيكون نشر الإعلان عن طريق البوابة، كما سيكون دفع الملف أيضا عن طريقها، ولمزيد من الحذر والحيطة لا يتمّ منح صلاحية الدخول الى البوابة لشخص واحد كما كان معمولا به، أين ينفرد الأخير بملفات التّوظيف ويفعل فعلته، حيث سيكون مثلا مدير الموارد البشرية مسؤولا عن التوظيف، كما سيكون مستشار الوزير أو الوزير مثلا في يدهما قرار التوظيف، ومن هنا يتم كبح المحاباة وانتفاع أشخاص من مزايا غير مبررة. وحسب صاحب بوابة «شيفا غو» فان المشروع سيرى النور مطلع سنة 2021، بينما تناقش كل التفاصيل مع وزارة الصحة مستقبلا حول كيفية العمل.
ويختم أنيس كلامه متوجها إلى السلطات بضرورة مرافقة المنصة الخدماتية لأنها تقدم خدمة عمومية مجانية حضارية للمواطن، متمنيا التوفيق والسداد للشباب المبدع في «الجزائر الجديدة» التي يجب أن تحذوها إرادة سياسية قوية طبقا له.
مؤسّسة ناشئة لتطوير المنصّات المعلوماتية
لا نغادر عالم المبدعين، وليس بعيدا عن محمد سوى مئات كيلومترات، يسعى تكسانة محمد، مهندس دولة متخرج من جامعة الإخوة منتوري بقسنطينة للإعلام الآلي، وهو صاحب مؤسسة ناشئة لتطوير المنصات المعلوماتية، بدوره للمشاركة في رقمنة الحياة الإقتصادية، حيث يدير منصتين الكترونيتين، واحدة متخصصة في طلب القطع الميكانيكية، وهي منصة لتسهيل التبادل بين تجار الجملة ومستوردي قطع الغيار للمركبات وتجار التجزئة وأخرى في مجال مساعدة أصحاب المركبات العاطلة «ديباناج» يجري إقامتها بالتعاون مع الجزائرية للطرق السيارة.
ويرى المهندس في الإعلام الآلي في حديث مع «الشعب»، أن الرقمنة اليوم ضرورة حتمية لأنها تسمح بربح الوقت، تقليص مساحة التداخل في العمل، لإضفاء مزيد من الشفافية في المعاملات.
ويشير إلى أن ظاهرة الرشوة واستشرائها ستتراجع عن طريق التطبيقات الالكترونية التي ستعرفها مختلف الإدارات، حيث سيتم التعامل عن طريق الموقع الكتروني أو المنصّة من مكتب الوزارة وعن بعد وتكون المعلومة آنية، وحتى المحاباة ستتقلّص بنسبة كبيرة، ويصبح المواطن حينها من يراقب الموظف.
هيئة الفساد...وضع اليد على مواطن الخلل
في الموضوع يرى طارق كور رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته، في لقاء مع «الشعب»، أن مسألة مكافحة الفساد من بين اهتمامات السلطات العليا للبلاد»، موضحا أنها من أهم الحلول لمجابهة الظاهرة على جميع المستويات.
ويضيف أن «الإتجاه نحو الرقمنة بمثابة وضع اليد على أماكن الخلل، فالرّقمنة قلّصت الفساد في أوروبا في بنسبة 30 بالمائة مجال الصفقات العمومية».
فهي ــ حسبه ــ تقلّص الاحتكاك بين المواطن والموظف العمومي، وكلما تراجعت المسافة بينهما كلما سهلت الإجراءات وقلّت الرّغبة في الحصول على امتيازات ورشاوى، وحتى من تعسّف الموظف العمومي مع اقتصاد كثير من الأعباء والمصاريف.
وعن أشكال الفساد التي تحاربها الرقمنة يرى رئيس الهيئة أنها «متعددة، منها الرشوة، إساءة استغلال الوظيفة، استغلال النفوذ»، ويقول محدثنا أنها «تغيّر سلوكات المواطن، حيث سادت فكرة بيروقراطية الإدارة التي جعلت المواطن لعشريات في رحلة معاناة يومية للحصول على وثيقة معينة، فعلى المواطن أن يعلم أنه لمّا يقصد البلدية ليستخرج وثيقة لابد من أن هذا حق من حقوقه وليس امتيازا للإدارة، وبالمقابل لايعطي مقابل للحصول على حق من حقوقه».
ويرى كور أن مشروع «الحكومة الالكترونية» سواء بالصيغة القديمة أو الجديدة سيسيّر كل القطاعات والمؤسسات، ويحل مشاكل كبيرة خاصة الربط البيني للمؤسسات الذي يقضي بشكل كبير على البيروقراطية باعتماد نظام التصريح.
وعن أهمّ أمثلة القضاء على البيروقراطية، من منظور رئيس الهيئة هو تكفل الإدارة بتكوين الملف عوض المواطن لتفادي معاناة التنقل بين عشرات الإدارات مثلا، ويمكن تخيّل ما يترتب عن احتكاك المواطن بموظف إداري وما ينتج عنه من فساد إداري.
هذه أمثلة لعينة من شباب طموح تحذوه إرادة قوية لإثبات وجوده، ففيما كان العالم ينتظر ركود عاصفة «كورونا» كانت عاصفة محاربة الفساد تهبّ في الجزائر، مؤكدة أن التغيير ليس ظرفيا، بل هو قرار استراتيجي مرتبط بمصالح الدولة العليا وتطلعات الجزائريين ومستقبلهم في كنف «الجزائر الجديدة» في ظل وجود «أمخاخ» الجزائر، الذين عزموا على تطهير الإدارات من خلال عملية الرقمنة وضرب عصفورين بحجر واحد.