يعد الذكاء الاصطناعي عصب التطور الرقمي ومسار التحول العميق والجذري للمنظومتين الاجتماعية والاقتصادية، كونه يعبّد الطريق لبناء نسيج قوي وكثيف لاقتصاد المعرفة.
ثراء الجزائر بالمورد البشري يجعلها على بعد خطوات للانخراط في التوجه الجديد، لمواكبة تحولات التطور التكنولوجي السريع الذي لا يحتمل المزيد من التأخير، لكنه متاح ويعول عليه في إحداث وثبة تغيير عميقة في الاقتصاد والتسيير والصحة والتعليم والذهنيات وجميع مناحي الحياة.
من أول مركز للذكاء الاصطناعي بالجزائر ينشأ على مستوى مخابر جامعة سكيكدة، بدأ الحلم منذ أشهر قليلة صغيرا، وينتظر منه أن يتمدّد أفقيا لتستنسخ منه التجارب وتعمّم الخبرة على الأستاذة والطلبة وخريجي الجامعات لتكوين عدد أكبر من الطلبة عبر مختلف جامعات الوطن، من منطلق قناعة أنه لا مفاتيح سحرية من دون التواجد في قلب الثورة الصناعية الرابعة.
المغامرة العلمية الجريئة انطلقت بمجموعة من طلبة الدكتوراه وأساتذة عددهم يعد على الأصابع، فنما المشروع العلمي المتفرد بتأطير من علماء جزائريين بالمهجر ساهموا في نهضة الدول المتقدمة. وتحمّسوا اليوم كثيرا عندما عرضت عليهم الفكرة، أقيمت المخيمات العلمية ووضعت النواة الأولى الواعدة لاستبدال كل ماهو تقليدي بأسس تكنولوجية دقيقة شفافة لا تقبل الخطأ، بعيدة عن الإخفاق تهدف إلى تغيير حياة الجزائريين نحو الأفضل.
تواصلت جريدة «الشعب» بمدير المركز وبالطلبة وبالمشاريع قيد الانجاز، ووقفت على تجربتي مؤسستين ناشئتين نموذجتين لشباب يشع بالطموح، قفزت بفضل اندماجها في الرقمنة إلى ابتكار حلول ذكية قابلة للتصدير، ليبدو مستقبل الثروة البشرية مضاهيا للثروات الباطنية، على اعتبار أنه من يرسم معالم وجه الجزائر الجديدة المتلاحمة اجتماعيا والمتناسقة اقتصاديا والمتطورة رقميا، وبالموازاة مع ذلك تتكامل هذه الجهود مع تألق مدرسة نموذجية خاصة رائدة في منطقة شمال إفريقيا، تعلم الأطفال الذكاء الاصطناعي و»الربوت» ودفعتهم نحو الأمام فخطفوا الجوائز العالمية، وهذا من شأنه أن يقوي من المؤشرات الإيجابية للتموقع الجدي في الثورة الصناعية الرابعة.
حلول للمسير
بالكثير من الجدية والصرامة تحدث البروفسور حداد عميد جامعة سكيكدة، عن تحديات ورهانات ميلاد أول مركز للذكاء الاصطناعي على مستوى هذه الجامعة، عبر تكوين فريق من طلبة دكتوراه وأساتذة تكونوا على أساسيات الذكاء بواسطة البرمجيات في مجال الصحة والبيئة والكشف المبكر عن السرطان، وينتظر أن يوفر حلولا تكنولوجية دقيقة لا تقبل الخطأ، للعديد من التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية، وفوق ذلك سيعطي الضوء الأخضر لإنشاء نسيج مكثف من المؤسسات الناشئة.
سرد البروفسور حداد خطوات البداية موضحا: «...جاءت الانطلاقة مع تنظيم أول مخيم لتدريب الطلبة في منتصف شهر ديسمبر 2019، حيث أشرف على عملية التأطير نخبة من العلماء الجزائريين المقيمين بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وعلى إثر ذلك زاروا جامعة سكيكدة، وتم تعزيز الجامعة بوحدة للحساب المكثف، الذي يعد العموم الفقري لمركز الذكاء الاصطناعي، فرأت الحاضنة النور، وعكف على دراسة المعلومة الاقتصادية، وفي نفس المقام يتم إدراج كل ما هو إبداع وابتكار مع البحث ضمن مشروع شراكة مع المؤسسات الاقتصادية، ويتم النشاط وفق اتفاقيات شراكة، وتحقق هذا الحلم بفضل تحدّ رفعه مجموعة من الشباب خضعوا لتكوين مكثف وعالي الجودة...».
وأفاد عميد جامعة سكيكدة، أن هؤلاء الطلبة يقومون بالاتصال مع قاعدة البيانات ومع الشركاء، مثل وزارة الصحة والداخلية للعمل على مشاريع فعلية، بهدف توفير حلول على ضوئها تتخذ القرارات الصائبة للمسيرين، ومن المقرر، بحسب تقدير البروفسور، توسيع النشاط لتكوين أفواج أخرى من الطلبة الباحثين في البرمجيات، لضمان وفرة العنصر البشري المؤهل، بالارتكاز على قاعدة بيانات تعالج عن طريق خوارزميات، لإيجاد حلول استباقية تسمح لصاحب القرار، سواء كان وزيرا أو مدير مؤسسة، باتخاذ قرار صائب في الوقت المناسب.
إخماد النيران
تمكن الشاب عماد الدين تبرمسين من بسكرة، الحاصل على ليسانس في الإعلام الآلي واستفاد من التكوين، من ابتكار مشروعين مميزين خطف من خلال المشروع الأول جائزة «هاك الجزائر» التي نظمها منتدى رؤساء المؤسسات عبر الانترنيت خلال فترة الحجر الصحي، واستفاد من تمويله ليجسد على أرض الواقع من خلال استحداث مؤسسة ناشئة. يتعلق المشروع الأول بابتكار «كاميرا عمومية» تسمح بالتعرف على كل من لا يرتدي كمامة من المارين عبر الطريق، وتطبيق هاتفي يسمح بتقفي آثار شخص حامل لفيروس «كوفيد.19» وكل من التقى به على بعد مسافة متر واحد.
ويتمثل الابتكار الثاني في طائرة من دون طيار مخصصة لإخماد نيران الغابات، وعمل في هذا المشروع رفقة زميلين له.
المثير في تجربة عماد الدين، أنه مولع بكل ما هو رقمي، ويقضي معظم وقته في البحث والتواصل عن بعد مع مراكز بحث وجامعات مختصة في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يشارك في التظاهرات العلمية عبر الانترنيت، ويبحث عن الأفكار الجديدة لتسهيل حياة الجزائريين، بحسب تأكيده.
تمويل «مياهي»
«مياهي»، فكرة لمشروع مؤسسة ناشئة، ابتكرتها طالبة متخرجة حديثا من تخصص ماستر في الإعلام الآلي وعلوم البيانات وتكنولوجيا وتقنيات الواب، يرتكز على الذكاء الاصطناعي.
أسماء مرابط، شابة من ولاية سطيف، لم يقتصر تميّزها على تفوقها الدراسي بل لديها أفكار ذكية لفتت نظر أساتذتها في الجامعة والمحيطين بها، وتحمل اليوم مشروعا جديدا له أثر إيجابي على القطاعين الصحي والفلاحي، حيث يمكنها على ضوء البيانات والمعطيات أن تحدد إذا كانت المياه صالحة للسقي أو الشرب أي قبل دخولها للمخبر، من خلال تحديد نوعية البكتيريا التي تتحلل في الماء، وبالتالي تحديد نوع المحلول للقضاء عليها فقط بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وفي مذكرة تخرجها ابتكرت موقعا يسمح بتدقيق تشخيص الأطباء فيما بينهم من دون عناء التنقل أو نسخ وإرسال الوثائق عبر البريد الالكتروني.
وتتطلع سفيرة النساء الرائدات في الوقت الراهن، لإنشاء مؤسسة ناشئة حول مشروع «مياهي» الذي استنبطت فكرته من حادثة تعرض شقيقها للتسمم بعد شربه لمياه بئر، كان يفترض أن تكون عذبة. وما ينقص هذه المبتكرة التمويل ليرى حلمها أو مشروعها النور، وجدناها تحترق بجد وتسهر ليل نهار بمساعدة زميلين لتطويره أكثر. مرابط أسماء لا تقتنع بالمستحيل إذا تعلق الأمر بالبحث والاختراع وتحدثت عن ذلك بثقة: «يمكننا الاستغناء عن استيراد التكنولوجيا، لأن الذكاء ليس مقتصرا على أوروبا أو العالم المتقدم وحده... وفي الجزائر كمهندسين في الإعلام الآلي، نواكب مختلف مستجدات آخر التطورات ولدينا الطاقات البشرية المميزة والنادرة..»
شح البيانات
من الطلبة الذين أسسوا مركز الذكاء الاصطناعي واستفادوا من تكوين الباحثين الجزائريين بالمهجر، ياسمين لعلى بوعلي، مهندسة في الإعلام الآلي، حيث ذكرت أنه شرع في استغلال جهاز «أش.بي.سي» الذي كان متوفرا بالجامعة، واعترفت بأنها كانت محظوظة بالاستفادة من التكوين في أول مركز للذكاء الاصطناعي بالجزائر «سكيلاب». ياسمين ابتكرت خلال التكوين، مشروعا يقلل من تلوث الهواء باستعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي، وترى أنه جد مهم لمدينة سكيكدة، من أجل امتصاص تلوث المدينة، بفعل الحركة الصناعية النشطة، وتتطلع لتقديم مشروعها لمجمع سونطراك وتعتقد أن الذكاء الاصطناعي بإمكانه أن يسرع من وتيرة الرقمنة. ولم تخف ياسمين أن أكبر مشكلة تواجه الباحث تتمثل في شح البيانات.
وأثنت على الأستاذ مراد بوعاش بأمريكا، ومراد سنوسي من باريس، بعد أن ربطوا الاتصال مع شركة «انتل» الأمريكية، وخلال ستة أشهر قدم الأستاذ بوعاش للطلبة برنامجا يقوم بتدريسه في جامعة أمريكية والتابع لــ»انتل أكاديمي» أي في فيفري 2020، وبالإضافة إلى مساعدة أساتذة ومهنيين جزائريين بالخارج، بعد كل درس تطرح للطلبة مشاكل ويحاولون إيجاد حلول لها، أي تلقوا دروس نظرية وتمارين تطبيقية وتدربوا على إيجاد الحلول.
قصة نجاح
قصة نجاح أحمد بن جلول، تخطف الإعجاب وتستوقفك لتتمعن تارة وتارة أخرى لتفتخر بإرادة وموهبة وذكاء الشباب الجزائري، لا يتجاوز عمر أحمد 34 ربيعا، لكنه تمكن من استحداث مؤسسة بمعايير دولية، تجعل المؤسسات النشطة في القطاعين الصناعي والنفطي لا تستورد أي حلول تكنولوجية بالعملة الصعبة، يشغل ما بين 20 مهندسا وخبيرا وإلى جانب الاستعانة بعديد المستشارين، ومن منطلق أن الشركات الأجنبية تستفيد من ذكاء خريجي الجامعات ثم تبيع ذلك بأسعار خيالية، وعقب تجربة عمل قضاها في شركة «جنرال إلكتريك»، بدأ التحدي في عام 2015، بتأسيس شركته الناشئة «صارل أرتاك إي.أن.تي»، التي تستعمل الذكاء الاصطناعي حيث تستعين بالرقمنة، وتطرح منتجات مبتكرة تضاهي نظيرتها في الأسواق العالمية في مجالي الصناعة والبترول.
وحول نشاط هذه الشركة قال صاحبها بن جلول: «مؤسستنا تعكف على تطوير البحوث وكذا طرح منتجات تكنولوجية من أجل تمويل بحوثنا مثل الأنظمة المعلوماتية لتسيير المؤسسات والبيزنس الذكي». وعلى سبيل المثال، يوفرون لكل مؤسسة حازت على شهادة «إيزو» نظاما متكاملا يحترم معايير الإنتاج والجودة والمبيعات والمواد الأولية بفضل الذكاء الاصطناعي.
تصدير الحلول
تمكن فتحي بوخرص، مهندس في الإعلام الآلي، من استحداث مؤسسة ناشئة تبتكر الحلول التكنولوجية. وبهدف الحد من خسائر المستثمرين في مجال تربية الدواجن، اخترع آلة جديدة، تعتبر الأولى من نوعها، تقيس الحرارة وتحدد الأمراض التي يمكن أن تفتك بالدواجن قبل انتشارها. قال إنه يتأهب بعد صناعتها لتصديرها للسوق العالمية. وذكر في سياق متصل، أن العمل مكثف للوصول إلى الحلول الابتكارية، حيث يتم التوصل إليها لحل المشاكل التي يعاني منها أحد الزبائن، وحاليا يتقدمون بخطة عمل في المجال الحراري، وبالتحديد حول فيروس»كورونا الدواجن» سريع الانتشار بنفس سرعة الإنسان، لأن المستثمر مهدد بتكبد خسارة كبيرة.
ويجتهد فتحي رفقة فريق عمل مشكل من ثلاثة من الطلبة الباحثين في بلوغ سقف عال من النجاعة، وأشار إلى تصديرهم حلول «افي دوك» التي تعد حلولا عالمية، أي إذا أطلقت تنتشر في العالم كله، لأن البحث على مستواه قليل جدا، والابتكار الجديد الذي يحمله يتمثل في آلة صغيرة تشخص المرض لدى الدواجن قبل وقت انتشار المرض، حتى يكون الحل فعالا، ينتظر فقط أن يجرب لمدة ستة أشهر بالجزائر ثم يصدر للخارج.
وفوق ذلك، أوضح فتحي أنهم على مستوى مؤسستهم الافتراضية، ينظمون دورات تكوينية ولقاءات ومحاضرات مع باحثين وعلماء جزائريين بالمهجر وخبراء من شركتي جوجل وأمازون، ومؤخرا نظموا محاضرة افتراضية عن «السوحة الحسابية» والأسبوع المقبل سيكون موضوع المحاضرة «آخر التكنولوجيات المبتكرة»، من خلال مهرجان المطورين.
البنى التحتية
يرى الدكتور عبد القادر بريش، خبير اقتصادي، أن الذكاء الاصطناعي، يمثل مرحلة حاسمة في التطور التكنولوجي والثورة التكنولوجية الرابعة، حيث يعتمد بشكل كبير على الاستعمال المتقدم للتكنولوجيا الحديثة والرقمنة والحواسيب، وفوق ذلك شديد الارتباط بتطور الثورة الرقمية واقتصاد المعرفة والانترنيت. وبهدف تحقيق التحول الرقمي، ينبغي، بحسب تأكيد الخبير، توفر بعض المتطلبات الرقمية والأساسية أي البنية التحتية الرقمية، ومن ثم إيجاد بيئة حاضنة لهذا التطور الرقمي والتطور التكنولوجي، مما يستحدث الوظائف في وقت نواجه فيه تحدي التكوين البشري.
الحد من الفساد
يعتقد الدكتور نبيل جمعة، خبير اقتصادي، أن العبور إلى الرقمنة أصبح أكثر من أي وقت آخر حتمية لا مفر منها، بل وشرطا أساسيا للقفز إلى مسار الدول الناشئة والمتطورة، ومقتنع أنه بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يعمم الرقمنة ويعمق من انتشار اقتصاد المعرفة الذي تتطلع إليه الجزائر الجديدة في المرحلة المقبلة. لذا من خلال هذا الذكاء يتسنى التسيير الاوتوماتيكي وتختفي العديد من المشاكل، فيمكن تسيير الموانئ واستحداث شبابيك آنية جبائية وبنكية والتسيير يكون دقيقا وشفافا، فتقلص الكلفة وتمتص البطالة بعد توجيه الشباب وتدريبه على استعمال وتتبع الآلة، وهذا ما يسفر عن اختفاء المحسوبية والرشوة والفساد، فيصبح الذكاء وسيلة ناجعة لتعميم وتعميق الرقمنة، ويتجسد استحداث قيادات ذاتية في الرقمنة، تقدم حلولا رقمية من خلال الذكاء الاصطناعي في ظل غياب حلول أخرى تقفز بالجزائر إلى بر الأمان.