شجّعوا نشر الوباء، والآن يريدون معالجته بالمسكّنات خوفا من انتقال العدوى لبلدانهم.
تلكم هي حالة الغرب عموما منذ أزيد من ثلاث سنوات حين فبرك «الثّورات العربية والرّبيع العربي»، مسميان لوحش يكبر ويدمّر ويمزّق كل شيء.
لقد حذّرت الجزائر ونصحت العواصم الغربية التي تعض أصابعها اليوم ندما وتحسّرا على ما آلت إليه الأمور في ليبيا، ليس هذا فحسب، بل تحوّل هذا البلد إلى ترسانة مفتوحة للسّلاح الذي يذهب جنوبا وشرقا وغربا وحتى إلى بلاد الشام، والخوف أن يتسلّل إلى شمال المتوسط.
كما تحوّلت ليبيا إلى خزّان بشري لإنتاج المقاتلين وتصدير الإرهابيين نحو البلدان التي شجّع الغرب فيها تلك الثّورات ليس سوريا فحسب، بل أصبحت مصر كما تونس مهدّدتان بما يسمى «الجيش الحر» الذي ينشئه الإرهابيون منذ شهور في ليبيا ووجهته هذان البلدان أساسا.
لقد سبق للجزائر التي تمرّست بمواجهة الإرهاب أن حذّرت من هذا الخطر، باعتباره آفة عابرة للحدود مثله مثل الشّركات المتعدّدة الجنسيات، لا يمكن تأطيره أو مراقبته أو التحكم فيه دوما فقط إلى حين، حتى يستقوى. إنه مثل ذلك الكائن الأسطوري الذي يفترس كل ما حوله وينتهي بأكل مروّضه، ومدرّبه ومربّيه، ثم يأكل بعضه البعض، وخير تجسيد لذلك تقاتل المجموعات الارهابية المتطرّفة فيما بينها بسوريا.
الغربيون في كل العواصم التي تحمّست للهجوم العسكري على ليبيا منذ أكثر من ثلاث سنوات، هم الآن يعبّرون عن النّدم والحسرة بل عن التخوّف، وقد سبق لأوساط أمريكية أن عبّرت عن ندمها نتيجة تجاهل نصيحة الجزائر حينئذ من مخاطر ذلك التدخل، غير أنّ رعونة ساركوزي آنذاك وخبث كامرون وجهل أوباما فتح ليبيا لتصبح جحيما يحرق ذاته، ويتمدّد إلى من حوله.
في ظل هذا الوضع تصبح الجزائر مطوّقة من بؤر توتر خطيرة، من الشرق والشمال الشرقي ومن الجنوب، ومع أنّ بلادنا قادرة كما كانت دوما للدفاع عن نفسها، إلا أن استمرار عبء حراسة الحدود التي تكون مسافاتها في هذه الحالة تقارب الخمسة آلاف كيلومتر يتم على حساب حاجيات أخرى، وهي في هذه الحالة تضحّي لحماية الآخرين أيضا هنا في الجوار، وهناك شمال المتوسط.
أودّ أن أستطرد هنا وأفتح قوسا لأستذكر أنّ نفس أولئك الأعراب من الخليجيين الذين يدّعون صداقتهم للجزائر كانوا قد ساهموا في خلق بؤرة توتر وحراقة هنا على حدودنا الجنوبية الغربية حين دعّموا منذ أربعين سنة مثلهم مثل نفس العواصم الغربية احتلال المغرب للصحراء الغربية، وعرقلة تقرير مصير الشعب الصحراوي الذي أقرّه المجتمع الدولي.
وهم أنفسهم الذين ساهموا بالأموال والسلاح في خلق الفوضى التي تجتاح ليبيا الآن، وهنا أغلق القوس، لأعود إلى هذا الرعب الذي بدأ ينتشر في العواصم الغربية وبلدان الجوار السوري حول احتمال عودة جهادييهم إلى بلدانهم الأصلية، وهم أكثر تطرّفا وأشدّ تمرسا وتدريبا على القتال.
وفي الوقت الذي يحذّر الخبراء الأمنيون في هذه البلدان من هذا الإحتمال، فإنّ سياسات هذه الدول تواصل الدّعم الديبلوماسي والعسكري لبعض أطياف المعارضة السورية الخارجية الغائبة عن الأرض وعن الواقع الميداني، والتي لها جملة واحدة تردّدها منذ أكثر من ثلاث سنوات «إسقاط النّظام»، والنّظام يزداد قوة وصلابة وشعبية.
مبرّر هذه العواصم، وهو في الحقيقة نفاق سياسي خبيث، أنّها تساعد «المعارضة المعتدلة»، وهو نفس التبرير الذي كانت تطلقه منذ حوالي أربع سنوات، حين كانت تدّعي أنّها تساعد الشعب الليبي لتحقيق الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات، وإنجاز الحريات وحقوق الإنسان.
إنّها توابل، انتهت مدة صلاحياتها ذلك أنه بعد عشرات السنين من التجارب مع الغرب، كل الغرب الذي حين يقصده جائع يمنحه أو يعده بالجمل المعسولة والكلمات الرنانة، والشعارات البراقة التي تعرف الآلة الدعائية الجبارة لإعلامهم كيفية تقديمها مقابل كيفية تسويد الطرف الآخر.
الغرب ليس صديقا لنا، رغم محاولاته الايحاء بذلك، هو يبحث عن مصالحه ومصالحه وحدها هي التي تدفعه إلى تبني هذا الموقف أو ذاك، فمنذ أكثر من خمسة عشرة سنة وواشنطن على سبيل المثال تقيم الدنيا وتقعدها ضجيجا ودعاية حول ما تسميه وتصفه أن الجزائر شريك أمني مهم ضد الإرهاب، وهذه ليست منة منها أو صدقة لأن بلادنا فرضت نفسها على كل العالم في محاربة الإرهاب، لكن الأمر لا يتعدى هذا الجانب، وحتى هذه الشراكة لها حدودها حين ترفض واشنطن بيع الجزائر بعض التجهيزات والأسلحة النوعية التي تساعد كثيرا في محاربة هذه الآفة مثل بعض وسائل الإتصال والاستكشاف، وطائرات بدون طيار.
هم يريدون فقط استحلابنا فيما يخص معلومات تهمّهم، لكنهم يرفضون مدّنا بمعلومات تهمّنا، ويريدون أن تكون لهم قواعد بحجة محاربة الإرهاب، أي أنّهم يريدون «مسمار جحا» عندنا.
أودّ أن أقول أن سياسة الغرب وواشنطن أساسا في خلق محاور لاستخدامها ضد قوى دولية أخرى منافسة لها، لا تخدم في شيء بلدانا مثل بلدنا الغيور على سيادته واستقلاله، وهو أمر يغيظ هذا الغرب، لكن ذلك شأنهم..